الخامس: خبر محمد بن مسلم، قال: سألته عن الرجل لا يستيقظ من آخر الليل حتى يمضي لذلك العشر والخمس عشرة فيصلي أول الليل أحب إليك أم يقضي؟ قال: لا، بل يقضي أحب إليّ إني أكره أن يتخذ ذلك خلقاً.
وكان زرارة يقول: كيف تقضى صلاة لم يدخل وقتها؟ إنما وقتها بعد نصف الليل[1].
وأورد عليها بعض الأعاظم(ره)، سنداً ودلالة، أما من حيث السند، فلاشتمال سندها على محمد بن سنان، وهو ضعيف. وأما من حيث الدلالة، فقد ذكر أن محل الاستشهاد هو ذيل الخبر، وهو وإن كان صريحاً في المدعى، إلا أنه لا يصلح للاستناد إليه لكونه مقولاً لزرارة، وليس قولاً للإمام(ع)، فمن المحتمل أن يكون رأيه وفتواه، فلا اعتداد به ما لم ينسبه إلى الإمام(ع).
أقول: أما المناقشة السندية، بوجود محمد بن سنان في السند، ففي محلها، كما قرر ذلك في محله.
وأما المناقشة الدلالية، ففي الذيل احتمالان:
الأول: أن يكون الحاكي لما صدر عن زرارة هو محمد بن مسلم، فإنه بعدما سمع جواب الإمام(ع)، كان قد نقل ذلك لزرارة، وقد أجابه بنحو التعجب من سؤاله للإمام(ع)، مبيناً أنه لا موجب للسؤال عن القضاء، ضرورة أنه إنما تقضى الصلاة بعد انتهاء وقتها، ولا تقضى قبل دخوله.
الثاني: أن يكون الحاكي لما صدر من زرارة هو الإمام(ع)، وهو بمثابة التعقيب على سؤال محمد بن مسلم، فكأنه(ع) يشير إلى أن سؤالك في غير محله، لأن الوقت بعدُ لم يدخل، حتى أن زرارة يتعجب من مثل هكذا سؤال، لأن القضاء إنما يكون بعد انتهاء الوقت، ولا تقضى صلاة لم يدخل وقتها بعد.
والجزم بتعين المحتمل الثاني دون الأول، استناداً إلى أنه لا حجية في فتوى زرارة لمثل محمد بن مسلم، وهو الفقيه العارف، فيكون نقله إياه لكونه محكياً لقول الإمام(ع)، يدفعه أنه لا موجب لأن يستشهد الإمام(ع) بقول زرارة، ولم يكن ذلك معهوداً أو معروفاً في مثل هكذا موارد، فتدبر.
ولو قيل، أنه حتى مع الالتـزام بالمحتمل الأول من المحتملين، فإنه لا مانع من الاستناد للخبر المذكور، ضرورة أن مثل زرارة وهو الجليل الثبت الفقيه العادل، لن يكون حاكياً كلاماً إلا عن المعصوم(ع) وما وصله منه، ولن يكون ناقلاً للآخرين كلامه الخاص، فيثبت المطلوب.
قلنا، بأننا نسلم بأن مثل زرارة لا يحكي كلاماً غير ما سمعه أو وصله من المعصوم(ع)، لكن هذا لا يعني أن زرارة لا يعمد إلى الاجتهاد في كلام المعصوم(ع)، من خلال الجمع بين ما وصله من كلامه المتفرق، ليخرج بنتيجة ما، لا أنه سمع ذات الكلام، فتأمل.
نعم لا يبعد أن يكون الخبر المذكور مما تعرض للدمج والجمع بين خبرين من قبل النساخ، أو من قبل بعض الأصحاب المحدثين، فتأمل.
السادس: موثقة زرارة عن أبي جعفر(ع)قال: إنما على أحدكم إذا انتصف الليل أن يقوم فيصلي صلاته جملة واحدة ثلاث عشرة ركعة، ثم إن شاء جلس فدعا، وإن شاء نام، وإن شاء ذهب حيث شاء[2].
وقد قربت دلالتها على المدعى من خلال مفهوم الشرط الوارد فيها، على أنه ليس لأحد أن يقوم قبل انتصاف الليل، فتكون مقيدة للمطلقات الأخرى، ولا مجال لحمل التقيـيد على أفضل الأفراد حتى في باب المستحبات إذا كانا متخالفين في النفي والإثبات كما تم التنبيه على ذلك في الأصول.
وللتأمل في دلالتها على المدعى مجال، ضرورة أن من المحتمل أن موجب التحديد بمنتصف الليل الإشارة إلى وقت الأفضلية، فلا تكون في مقام بيان مبتدأ وقت صلاة الليل، فلاحظ.
على أنه يمكن المنع من دلالتها على المدعى أصلاً، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي بصدد بيان أمر آخر، وهو أداء صلاة الليل ودس صلاة الفجر فيها دفعة واحدة، فهي تشير إلى دخول وقت نافلة الفجر بمجرد الفراغ من أداء صلاة الليل، وأنه لا يتوقف دخول وقتها على طلوع الفجر، أو مضي مقدار من الليل كالسدس مثلاً، وما شابه.
السابع: النصوص الكثيرة التي تضمنت أن قضاء الليل بعد الفجر أفضل من تقديمها على نصف الليل والإتيان بها قبله، فإنها تدل على أن مبدأ وقتها هو منتصف الليل، لأنه لو كان الإتيان بها في أول الليل إتياناً لها في وقتها، فتتصف عندها بالأداء بطبيعة الحال، فكيف يفضل(ع) التأخير والإتيان بها خارج الوقت، إذ يلزم منه أن يكون مفضلاً القضاء على الأداء، ومرجحاً له عليه، وهذا يتنافى وحكمة التوقيت وتشريع الأجل:
منها: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما قال: قلت: الرجل من أمره القيام بالليل تمضي عليه الليلة والليلتان والثلاث لا يقوم، فيقضي أحب إليك أم يعجل الوتر أول الليل؟ قال: لا بل يقضي وإن كان ثلاثين ليلة[3].
ومنها: معتبرة مرازم عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: متى أصلي صلاة الليل؟ فقال: صلها آخر الليل، قال: فقلت: فإني لا أستنبه، فقال: تستنبه مرة فتصليها وتنام فتقضيها، فإذا اهتممت بقضائها بالنهار استنبهت[4].
ومنها: خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(ع)، قال: سألته عن الرجل يتخوف أن لا يقوم من الليل، أيصلي صلاة الليل إذا انصرف من العشاء الآخرة. وهل يجزيه ذلك أم عليه قضاء؟ قال: لا صلاة حتى يذهب الثلث الأول من الليل، والقضاء بالنهار أفضل من تلك الساعة[5].
أقول: مصدرها كتاب قرب الإسناد لعبد الله بن جعفر الحميري، وطريقه إلى علي بن جعفر يشتمل على عبد الله بن الحسن، وهو ممن لم تثبت وثاقته، فلاحظ.
ومنها: صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: إن رجلاً من مواليك من صلحائهم شكا إلي ما يلقى من النوم، وقال: إني أريد القيام بالليل فيغلبني النوم حتى أصبح، فربما قضيت صلاتي الشهر المتتابع والشهرين أصبر على ثقله، فقال: قرة عين والله، قرة عين والله، ولم يرخص في النوافل أول الليل، وقال القضاء بالنهار أفضل[6].
ورواه الكليني، والشيخ(ره) بزيادة: قلت: فإن من نسائنا أبكاراً، الجارية تحب الخير وأهله، وتحرص على الصلاة، فيغلبها النوم حتى ربما قضت وربما ضعفت عن قضائه، وهي تقوى عليه أول الليل، فرخص لهن في الصلاة أول الليل إذا ضعفن وضيعن القضاء[7].
ومنها: معتبرة عمر بن حنظلة إنه قال لأبي عبد الله(ع): إني مكثت ثمانية عشر ليلة أنوي القيام فلا أقوم أفأصلي أول الليل؟ قال: لا، اقض بالنهار، فإني أكره أن تتخذ ذلك خلقاً[8].
ودلالتها على المدعى غير تامة، ضرورة أن المستفاد منها أهمية أداء الصلاة في منتصف الليل، لا عدم مشروعيتها في أوله، والتأكيد على عدم الأداء في الليل، والتركيز على منتصفه، وإن استوجب ذلك القضاء مراعاة للمصلحة العظمى، وهي إتيان صلاة الليل في وقت الفضيلة، وهو المنتصف. فحذراً من تفويت هذه المصلحة، وهي اعتياد الاتيان بصلاة الليل في أول الليل، نهى(ع) عن ذلك.
ولا مجال للخدشة في سندها، لما تقرر من البناء على وثاقته، إذ قد ذكر شيخنا الأستاذ(أطال الله في بقائه) ما ينيف على عشرة وجوه في كلمات الأصحاب لإثبات ذلك.
الثامن: صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر(ع): إني رجل تاجر أختلف وأتجر، فكيف لي بالزوال والمحافظة على صلاة الزوال؟ وكم تصلى؟ قال: تصلي ثماني ركعات إذا زالت الشمس، وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبل العصر، فهذه اثنتا عشر ركعة، وتصلي بعد المغرب ركعتين، وبعدما ينتصف الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر، ومنها ركعتا الفجر، فتلك سبع وعشرون ركعة سوى الفريضة، وإنما هذا كله تطوع وليس بمفروض، إن تارك الفريضة كافر، وإن تارك هذا ليس بكافر، ولكنها معصية، لأنه يستحب إذا عمل الرجل عملاً من الخير أن يدوم عليه[9].
فإن تعبيره(ع) بقوله: وبعدما ينتصف الليل ثلاث عشرة ركعة، صريح في أن وقتها بعد انتصاف الليل، وأنه لا تشرع قبله للمختار، ودلالتها على المدعى واضحة، خصوصاً وأنه(ع) بصدد بيان أوقات الفرائض والنوافل، فلاحظ.
——————————————————————————–
[1] وسائل الشيعة ب 45 من أبواب المواقيت ح 7.
[2] وسائل الشيعة ب 35 من أبواب التعقيب ح 2.
[3] وسائل الشيعة ب 45 من أبواب المواقيت ح 7.
[4] وسائل الشيعة ب 45 من أبواب المواقيت ح 6.
[5] وسائل الشيعة ب 45 من أبواب المواقيت ح 8.
[6] وسائل الشيعة ب 45 من أبواب المواقيت ح 1.
[7] المصدر السابق ح 2.
[8] وسائل الشيعة 45 من أبواب المواقيت ح 3.
[9] وسائل الشيعة ب 14 من أبواب الفرائض ح 1.