المسألة الشرعية بين الفتوى و الأدلة الإستنباطية التفصيلية

لا تعليق
مسائل و ردود
108
0

س: لماذا إذا وجهنا سؤالاً إلى أحد علماء الدين حول مسألة من المسائل الشرعية، يقتصرون في مقام الإجابة على بيان خصوص الفتوى، ولا يعمدون إلى بيان الدليل والمستند الذي استنبط الفقيه منه تلك الفتوى؟

ج: إن السؤال المذكور يدور في خلد كثير من شبابنا المؤمن، خصوصاً من يمتلك حصيلة معرفية، وبعداً ثقافياً نتيجة الاطلاع والقراءة، فهم غالباً لا يقنعون بمجرد نقل الفتوى وعرضها، خصوصاً مع احتمالهم خطأ الناقل والمبين لها، واشتباهه، ولذلك يبررون طلبهم بمعرفة المستند، ونقل الراوية المستفاد الحكم من خلالها، للاطمئنان بكون المنقول هو الفتوى المطلوبة فعلاً. وغالباً ما يعتقدون أن عدم نقل علماء الدين الدليل للمستند المستفاد الفتوى منه يعد إقصاءً لهم من قبل رجال الدين.

ومع أن احتمال وجود إقصاء في البين يعدّ تصوراً خاطئاً، فإنه ليس من ديدن الحوزة ومذ كانت إقصاء أحد، وحجب المعرفة عنه، ما دام ملتـزماً بالأسس والضوابط المعتبرة، والمقررة.

إلا أنه ومع ذلك لا يتسنى لنا عرض المستند وبيان الدليل الذي استنبطت الفتوى منه وذلك لسببين:

الأول: إن عرض المستند والدليل الذي اعتمد عليه الفقيه في فتواه، يتوقف على أن يكون عالم الدين الذي يعمد إلى بيان تلك الفتوى محيطاً بذلك المستند ومطلعاً عليه، حتى يتمكن من إخبار السائل به، أما لو لم يكن رجل الدين محيطاً بذلك، أو كان غير مطلع عليه، فكيف يتسنى له أن يخبر السائل عنه، بل مقتضى الأمانة العلمية، والتقوى أن يقتصر على عرض خصوص الفتوى فقط، وإلا لو أخبر بما ليس مقصوداً للمفتي، ربما كان من الكذب على المجتهد، ولا ريب في حرمته.

وقد يتصور البعض أن الإحاطة بالمستند للفقيه في ما أفتى به أمر سهل، فيمكن لكل طالب علم بعد أن يدرس حقبة من الزمن أن يرجع إلى المصادر الأساسية والأصلية في عملية الاستنباط، ككتاب جواهر الكلام، وكتاب الحدائق الناضرة، وكتاب مستند الشيعة، وكتاب مصباح الفقيه مثلاً، ويمكنه أن يعرف الوجه الذي نتجت عنه فتوى الفقيه في هذه المسألة بهذه الإجابة. كما يمكن الرجوع إلى الكتب الحديثية، كأحد الكتب الأربعة، أو كتاب وسائل الشيعة لشيخنا الحر العاملي، ومن خلاله يتعرف على الرواية، ومن ثم يعرف حكم المسألة فضلاً عن دليلها.

إلا أنه تصور خاطئ، ذلك أن الفقهاء ليسوا مقلدين، ولكل واحد منهم منهجه الخاص في عملية الاستنباط، فضلاً عما يكون لكل واحد منهم من مباني رجالية، وأصولية مختلفة عن الآخرين، بل حتى في القواعد الفقهية، فبين من يرى تمامية هذه القاعدة، وبين من لا يراها، ومن الطبيعي تترتب على ذلك مجموعة من الثمرات، بل يكون لبعضهم جملة من الإبداعات في مجال الاستنباط تغير الكثير من النتائج في مقام الفتوى، وهذا يستوجب ألا ينقل المجيب وجه الفتوى، ودليلها، إلا بعد أن يكون محيطاً بأن المفتي قد استند لأي شيء من الأدلة، فهل استند إلى دليل اجتهادي، أم كان مستنده دليل فقاهتي، وإذا كان دليلاً اجتهادياً، فهو دليل لبي، أم دليل لفظي، ولو كان دليلاً فقاهتياً، فهل البراءة، أم الاستصحاب، وهكذا.

ولا يكفى مجرد الرجوع لواحد من المصادر الحديثية، لأن دليل الفتوى كما أشرنا لا ينحصر في خصوص النصوص، فقد يكون الدليل آية من الآيات القرآنية المعروفة بآيات الأحكام، كما قد يكون أصلاً أو قاعدة، فلاحظ.

الثاني: إن عرض المستند يستلزم أن يكون المعروض عليه على دراية وإحاطة بما يعرض عليه، وإلا فأي ثمرة من ذلك، ولا يعني هذا التقليل من شأن السائل، وإنما لكل مجال أهله ومتخصصوه، فلو عقبت الإجابة بأن الجواب المذكور كان مقتضى الأصل، فهل يملك المتلقي المعرفة أن هذا الأصل العملي، أصل حكمي، أو أصل موضوعي، أصل سببي، أو أصل مسببي، ومع كون الإجابة بأن منشأ الحكم عبارة عن رواية، فهل للمتلقي الدراية بأن هذه الرواية ليس لها معارض، ولو كان لها فكيف عمد الفقيه إلى علاجه، أكان ذلك من خلال الترجيح، أم كان ذلك من خلال التميـيز، وربما يكون الأصل قاضياً بأمر، والرواية مفيدة لأمر آخر مغاير لما يفيده الأصل، فكيف عمد الفقيه إلى التقديم للرواية على الأصل، هذا كله مع رفع اليد عن الحاجة إلى الإحاطة بموجبات القبول والاستناد للرواية، فمتى يستند إليها ويعتمد عليها لدخولها دائرة الحجية، ومتى لا تكون كذلك. ولنقرب ذلك بمثال: لقد نص فقهاؤنا على حرمة الغيبة، وقد ذكروا في تعريفها أنها ذكرك أخاك المؤمن بعيب يكرهه في غيبته، وهنا لنا وقفتان:

الأولى: لقائل أن يقول بأن التعريف المذكور يخالف ما جاء في النصوص الشريفة، فقد ورد في رواية عبد الرحمن بن سيابة قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه. وأما الظاهر مثل الحدة والعجلة فلا[1].

ولو تأملنا النص المذكور فلا نراه يشتمل على أخذ قيد ذكر العيب في تعريفها، مع أن فقهائنا ينصون على أخذ هذا القيد في التعريف، فكيف يمكن معالجة ذلك.
الثانية: هل أن الرواية المذكورة معتبرة يمكن الاستناد إليها والاحتجاج بها أو لا، ذلك أن الراوي وهو عبد الرحمن، لم ينص عليه في كلمات أهل الرجال بالوثاقة، وفي نفس الوقت لم تتضمن كلماتهم تضعيفه، وبالتالي كيف يتم التعامل معه.

من الطبيعي أنه في مثل هذه الحالة لابد وأن يعمل الفقيه اجتهاده ويطبق مبانيه وأراءه الرجالية ليحكم بوثاقته من عدمها، وهذا يستوجب أن يكون المجيب محيطاً بمباني الفقيه الرجالية حتى يقرر أن هذه الرواية معتبرة عنده أم لا.

ولو أردنا أن نضيف أيضاً، فهناك خلاف بين أعلامنا في أخذ قيد قصد الانتقاص في تعريف الغيبة وعدم اعتبار هذا القيد، فكيف يمكن أن يستفاد ذلك من النص، أو المستند.

ولا يعتقد الشباب المؤمن أننا عندما نذكر ما ذكرناه فإننا نعمد إلى إغلاق الباب عليهم، ونود أن نقصيهم أو نحجب عنهم معرفة من المعارف، وإنما أكرر أن لكل مجال أهله، ولابد أن يكون الخائض في لجاته وغمراته قادراً على السباحة فيه حتى يتمكن الوصول إلى أحد شواطئه بأمان.
والحاصل، إن استعراض الدليل المستند إليه المجتهد في مقام الفتوى ليس بالصورة التي يتصوره الكثير من شبابنا المؤمن، نعم نحن لا نمانع من أن يعمد شبابنا إلى الاستعانة ببعض أهل الاختصاص، ومن ثمّ يتعرفون جملة من هذه الأمور، ويحيطون خبراً بها، ثم يمكنهم أن يتناولوا شيئاً منها بمقدار ما يمكنهم ذلك، والله العالم.

[1] وسائل الشيعة ب 154 من أبواب أحكام العشرة ح 2.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة