الصابرون في الفتن

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
111
0

[align=right]
من الموضوعات التي تحدث القرآن الكريم عنها موضوع الفتنة، وقد أخذت نصيباً جيداً من آياته الشريفة، وقد استعرضت بصور عدة، فمرة كان الحديث عن أسباب حصولها، وموجبات تحققها، وأخرى كانت الآيات تتحدث عن أن الفتنة تبعية للشيطان، وثالثة كان الحديث يدور حول صانعي الفتن، وما يكون لهم من عقاب وعذاب إذا لم يعقبوا فعلهم التوبة.

نعم لم تتضمن الآيات الشريفة بياناً لحقيقة الفتن، شأنها شأن العديد من الموضوعات التي وردت في آياته، وما جاء في بعض الآيات الشريفة، لا يعتبر بياناً لذلك، بل هو من أنحاء الاستعمال كما لا يخفى، فمن تلك الموارد:

استعمالها بمعنى الامتحان والاختبار، كما في قوله تعالى:- (أحسب أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)[1].

ومنها: استعمالها بمعنى المكر والخداع، كما في قوله تعالى:- (يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان)[2].

ومنها: استعمالها بمعنى البلاء والعذاب، كما في قله تعالى:- (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)[3].

ومنها: استعمالها بمعنى الوثنية والشرك، كما في قوله تعالى:- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)[4].

ومنها: استعمالها بمعنى الاضلال وسلب التوفيق، كما في قوله تعالى:- (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً)[5].

ولعل عدم ذكر القرآن الكريم بيان حقيقة الفتنة، لما يقرر دائماً من أنه ليس لهذا الموضوع حقيقة شرعية تغاير حقيقته اللغوية، والعرفية، وهذا يستوجب عند إرادة الإحاطة بحقيقتها وتحديد المقصود منها، أن يرجع إلى ما ذكره علماء اللغة، ومحاولة استنطاق العرف، والنظر في مدى ما بينهما من التوافق والاختلاف.، شأنه في ذلك شأن بقية الموضوعات الأخرى.

حقيقة الفتنة:

ذكر السيد السبزواري(ره) في تفسيره القيم أن أصل مادة (فتن) تأتي بمعنى إدخال الذهب من النار، ليعلم جودته من رداءته، ثم استعملت في عدة معانٍ تلازم ذلك بالعناية، كمطلق الاختبار، والعذاب، والهلاك، والابتلاء، والخلوص، وغير ذلك[6].

وما أفاده(ره) هو الموجود في كلمات أكثر أهل اللغة، إذ يجد المتابع لكلماتهم أنهم يرجعون أصل الكلمة إلى عملية العرض على النار، ويمثلون لذلك بإدخال الذهب في النار كي ما يتميز جيده من خبيثه، والإشارة بعد ذلك إلى وجود استعمالات أخرى تمت استعمال المفهوم فيها.

ولا يخفى أن هذا يعني حصول عملية نقل للفظ عما وضع له، نظير ما جرى في لفظة الصلاة، ذلك أنها كانت موضوعة في البداية للدعاء، ثم بعد ذلك نقلت في مقام الاستعمال لتصبح موضوعة للأعمال والأذكار المخصوصة بكيفية مخصوصة وشروط مخصوصة.

كما أن القول بما ذكر يستوجب أن يكون اشتراك في حقيقة اللفظ، لأنه لن يكون للفظ استعمال واحد، بل سوف تكون له استعمالات متعددة، وهذا يلزم أن يكون استعمال اللفظ في أي منها بحاجة إلى قرينة معينة للمقصود منه، مع أن التسليم بثبوت الاشتراك في الألفاظ محط خلاف بين الأعلام.

وكيف ما كان، فالظاهر أن الذي دعى القائلون بكون أصل مادة الفتن هو ما ذكر، ملاحظتهم لقوله تعالى:- (يوم هم على النار يفتنون)[7].

والصحيح أن الأصل في مادة(فتن) هو كل ما يوجب الاختلال مع الاضطراب، فكل ما أوجب هذين الأمرين، فهو فتنة، وهذا يعني أن المفهوم مركب من شيئين لابد من تحققهما معاً، وإلا لن يكون المفهوم موجوداً، فلاحظ[8].

ويشهد لما ذكر من حقيقة لها قوله تعالى:- (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري)[9]، إذ أن المقصود من وقوع الفتنة في بني إسرائيل، وقد فارقهم موسى(ع) حصول الاختلال مع الاضطراب عندهم، ما أدى بهم إلى اتباع السامري في دعوته إياهم لعبادة العجل.

ولا يخفى أنه وفقاً لما ذكر بياناً لأصل المادة، يمكن التوفيق مع جعل أصلها هو الإحراق كما أختاره بعض اللغويـين، بلحاظ أن الإحراق موجب لحصول اختلال واضطراب في نظم الشيء المحترق، فيكون كاشفاً عن تحققها حينئذٍ، لا أن نفس الإحراق محقق لذات المفهوم، كما لا يخفى.

مصاديق الفتنة:

وطبقاً للتعريف المذكور لحقيقة الفتنة، تذكر لها عدة مصاديق، مثل: الأموال، والأولاد، والاختلاف في الآراء، والغلو في الأمر، والعذاب، والكفر، والجنون، والابتلاء، وغيرها.

وعدّ ما ذكر مصاديق لها كونها جميعاً موجبة لتحقق الأمرين المذكورين، إذ لا ريب في كون الاختلاف في الآراء أحد الأسباب والدواعي التي توجب حصول اختلال مع اضطراب، فكم من رؤية تبناها شخص ما وخالفه فيها آخرون كانت سبباً إلى وقوع مشاحنات ومخاصمات، ما نجم عنها اختلال واضطراب في الوسط الاجتماعي، ولعل من أبرز النماذج التي عاشها مجتمعنا حالة الاختلاف في المرجعية والتقليد، فقد أوجب ذلك العديد من الاختلال والاضطراب في الوسط الاجتماعي، وكذا مسألة الأعلمية، وهكذا.

ولا يختلف الحال بالنسبة للأولاد، إذ أن وجودهم موجب لحصول هذين الأمرين، ما يعني سببتهما في تحقق الفتنة خارجاً، ومثل ذلك الغلو في الأمر، فحالة الإصرار على العدالة المطلقة للصحابة، وعدم تصور صدور الخطأ منهم، وجعلهم في مصاف المعصومين، والقبول بنسب ما يشين لشخص النبي الكريم(ص)، دونهم من أجلى موجبات حصول الاختلال مع الاضطراب.

والحاصل، إن المذكورات لا تخرج عن كونها مصاديق لحقيقة الفتنة، ذلك أنها توجب تحقق الركنين المقومين لوجودها، ومنه يتضح أن تفسيرها بشيء مما ذكر ليس في محله، فتدبر.

الفرق بين الفتنة والاختبار والامتحان والابتلاء:

ثم إن مقتضى ما ذكر من البيان لحقيقة الفتنة، يستوجب مغايرتها لمفاهيم ثلاثة، وهي الاختبار، والامتحان، والابتلاء، ذلك أن هذه المفاهيم مترتبة على بعضها البعض، فأول ما يتصور حصوله هو حصول الاختبار، ثم يأتي دور الامتحان، وينتهى بالابتلاء، فالاختبار مأخوذ من الخُبر، وهو بمعنى الاطلاع النافذ وأخذه، ولا يبعد أن يكون هو المشار إليه في قوله تعالى:- (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون)[10].

وأما الامتحان، فإنه مأخوذ من المحن، ويقصد به: الدأب والجد في العمل، ليتحصل الخُبر والنتيجة، ومنه قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن)[11] ليكون بعد ذلك الابتلاء، المشتق من البلو، بمعنى التحول والتقلب والأخذ به، قال تعالى:- (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه)[12].

وطبقاً لما ذكر، فلن يكون استعمال الفتنة مكان أي واحد من الثلاثة استعمالاً صحيحاً، للمغايرة كما عرفت، نعم يمكن البناء على صحة الاستعمال لكن تجوزاً، فلاحظ[13].

نعم ما لا ينكر هو أن الفتنة تعتبر أول مراتب الثلاثة المذكورة، فتكون مقدمة على الاختبار، والامتحان، والابتلاء، وهذا يعني أن الترتب الطولي للأمور الثلاثة المذكورة كما عرفت يسبقه وجودها، ومنه قوله تعالى:- (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة)[14]، فإن المقصود بها حصول الاستخبار والعلم، والذي يحقق الاختبار، وكذا قوله تعالى:- (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً)[15]، أي إلى أن تنتهي إلى النتيجة والخُبر وهكذا، فلاحظ.

ولا يذهب عليك أنه طبقاً للتعريف الذي ذكرنا لحقيقتها سوف تكون الفتنة من الأمور النسبية، ذلك أن أمراً قد يكون موجباً لحصولها بالنسبة إلى شخص ما، وربما لا يكون ذلك الأمر سبباً لوقوع الآخر فيها، فالأموال مثلاً قد تكون سبباً لوقوع فرد ما في الفتنة، لإيجابها حصول الاختلال مع الاضطراب بالنسبة إليه، كما في القصة المشهورة، التي تحكى عن أحد الصحابة في عصر النبي(ص)، والمسمى بثعلبة، وكيف أن غناه وكثرة المال في يده كانت سبباً لانحرافه عن الدين الإسلامي بعدما كان لا يفوت فريضة مع الرسول الكريم(ص)، ولا يغيب عن خطبة أو موعظة للمصطفى(ص)، بينما لا نجد للدنيا وما فيها من زخرف وأموال سبيل على مثل أمير المؤمنين(ع)، وهو القائل: يا دنيا غري غيري. بل قد يكون شخص من الأشخاص فتنة لأمة، كما كان السامري فتنة لقوم موسى(ع)، كما أن الحاكم في كل مجتمع قد يكون سبباً لفتنة ذلك المجتمع ما لم يمتلك الأمانة والبعد الديني في قيادته وحكومته، وذلك من خلال ما يصدر عنه من أقوال، وأفعال، وإمضاءات في مجتمعه، وهكذا[16].

الحقيقة العرفية للفتنة:

والظاهر أن العرف لا يختلف مع اللغة في حقيقة الفتنة، فإن أهله يسلمون أن الفتن لا توجب إلا الاختلال مع الاضطراب بين المفتونين، ومن هنا يقرر العرف في حقيقتها أنها: إحداث الشغب، وسلب الأمن والاستقرار وحبس حريات الآخرين، أفراداً كانوا أم جماعات. وهذا التعريف يؤول لباً بل حقيقة إلى المعنى اللغوي، أعني الاختلال والاضطراب، كما هو واضح، فتدبر.

أنواع الفتن:

ومن الطبيعي أن هذه الحقيقة للمفهوم محل البحث، أعني الفتنة، سوف تكشف عن عدم انحصاره في قسم واحد، ذلك أنه سوف يكون مرتبطاً بالجانب الديني، فيكون موجباً للاختلال مع الاضطراب في الجوانب الدينية، كما يكون مرتبطاً بالجانب الدنيوي، فيكون موجباً لحصول ذلك فيه أيضاً، وهذا يعني أن للفتنة نوعين، أو قسمين:

الأول: الفتنة في الأمور الدينية.

الثاني: الفتنة في الأمور الدنيوية.

الفتنة في الأمور الدينية:

ويعدّ هذا النوع أخطر وأشد وبالاً من النوع الآخر، ويدل على ذلك عدّ القرآن الكريم الفتنة أشد من القتل مرة، وأكبر منه مرة أخرى، قال تعالى:- (والفتنة أشد من القتل)[17]، وقال سبحانه:- (والفتنة أكبر من القتل)[18] لأن الفتنة التي تعني الصدّ عن الدين تكشف عن إزهاق معنوي للإنسان، من خلال إضلاله مثلاً أو تغريبه عن قيمه وأخلاقياته، فأي موت أعظم من هذا الموت، عندما لا يختلف حال الإنسان عن حال الحيوان، فإنه لا يقال حينئذٍ بأنه حي، بل هو ميت الأحياء.

وكيف ما كان، فإن تحقق الفتنة في الأمور الدينية يتم من خلال وسائل، نشير إلى بعضها:

منها: إضلال الناس وجعلهم لا يقبلون الدين، من خلال تشويه صورته عندهم، وتحسين الانتماءات المادية الأخرى مقابله. كما نجد ذلك في ما تمارسه بعض الطوائف الإسلامية المتطرفة، والتي أبعد ما تكون عن الإسلام وسماحته، كالنظر إلى المرأة على أنها مخلوق كله فتنة، أو كله انحراف وغريزة.

وقد تكون عملية الإضلال من خلال إثارة الشبهات وعرض الإشكالات حول مبادئه وتشريعاته، كما يطرح أن الإسلام ذكوري المنهج، وبالتالي فقد ظلم المرأة ومنعها حريتها، وأن تشريع تعدد الزوجات استعباد لها، وجعلها سلعة رخيصة، وهذا يتنافى وحقها.

كما يمكن من خلال إثارة الدعاوى الباطلة، واتخاذ السبل المضلة، كما هي دعوة البصري أحمد بن الحسن، وما يدعيه من أراجيف وأباطيل بعيدة عن الجوانب الإسلامية الأصيلة.

ومنها: استعمال الوسائل القمعية لمنع الناس من الانتماء للدين، وهذا يكون إما من خلال التعذيب، أو التصفية الجسدية، كما صنع ذلك المجتمع القرشي مع المسلمين الأوائل، عندما عرض جملة من الصحابة كبلال بن رباح وعمار بن ياسر إلى التعذيب الجسدي، وبأساليب وحشية، أو التصفية الجسدية، كما صنعوا ذلك بياسر وزوجه سمية، فكانا أول الشهداء في الإسلام.

ومنها: استعمال سياسة التجويع، والحصار الاقتصادي، بمحاربة الناس في سبل عيشهم لا لشيء إلا لما ينتمون له من دين، أو مذهب، فتجد التضييق، وتجد المنع من سبل العيش الكريم، وتجد الحرمان بسبب ذلك.

ومنها: التغريب القيمي والأخلاقي، بإحلال مجموعة من القيم والأخلاقيات المستوردة من الفكر الغربي، عوضاً عن القيم والأخلاق الإسلامية، ما يودي إلى فقدان مبدأ الحياء والعفة عند المرأة المسلمة، وما يوجب إشاعة الفاحشة والانحراف الأخلاقي في الوسط الشبابي، ومن الطبيعي أن هذا لا يكون إلا بإيجاد سبله من وسائل الإغراء، وما شابه.

وكذا الاستعاضة عن الصدق في القول والعمل، بجعل الكذب هو الواجهة الأصل في مقام التعامل، فلا تجد إلا أساليب متعددة من الحيل والخداع والغش في مقام التعامل.

وكفى أنهم قد تمكنوا من فك أواصر الترابط والتعاون بين أطياف المجتمع، وحولوه إلى جماعات متعددة، سهلت السيطرة عليه من قبل خصومه، ففقدت منه المحبة والتعاطف، والحنان، وطلب الخير، والسعي إلى فعله، ومساعدة الآخرين، ليحل محل ذلك كله الأنانية، وحب الذات، وقسوة القلب، وفقدان الرحمة، وطلب الراحة، وعدم التفكير في الآخرين.

ومنها: مصادرة الحريات الفكرية، والإعلامية والسياسية، وحبس أصوات المجتمع عن الأدلاء بما تود إبدائه وعرضه، والحديث عنه، حتى لا يكاد يمكن لشخص ما أن يمارس طقوسه العقدية، أو يمكنه أن يعبر عن رأيه بحرية وشفافية، فضلاً عن أن يكون قادراً على المشاركة في الحركة السياسية. وكفى أن يكون الإنسان ممنوعاً حتى من اقتناء ما يود اقتنائه من مطبوعات ترتبط بما يحمل من فكر وانتماء عقدي، فيحارب ويمنع وتصادر حريته في ذلك. ولا يبعد أن يكون المقصود من قوله تعالى:- (والفتنة أكبر من القتل)[19]، هذا المعنى، لأنها تمثل الاعتداء على حرية الإنسان الدينية التي أراد الله تعالى له حفظها واحترامها.

ومنها: النيل من علماء الدين، والحط من الرموز، إما بالإسقاط، من خلال التهم التي توجه إليهم، بأنهم لا يواكبون الحياة العصرية، ولا يملكون إحاطة بالظروف الزمانية، أو من خلال التوهين والإذلال، وبالخصوص في الأوساط الشبابية.

ومنها: فتنة أهل البدع، هؤلاء الذين يبتدعون في الدين ،فيجعلون فيه ما ليس منه، وليست فيه، فيعمدون إلى التفريق بين المسلمين، من خلال ابتداع طرق ووسائل في هذا المجال، وكفى أن تعلم أنهم يكونوا عيوناً للظلمة على أهل الحق والإيمان من خلال التجسس، ونقل المعلومات إلى تلك الجهات، والتي من خلال ذلك وغيرها، تقوم بالتضيـيق، بل إيذاء أهل الحق، ومنعهم كل ما يكون من حقوق وإعطائهم مطالبهم.

وقد تضمنت النصوص الشريفة أنه لم يأت على الدين فتنة أعظم من فتنة بني أمية، ففي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: ألا وإن أخوف الفتن عندي فتنة بني أمية، فإنها فتنة عمياء مظلمة عمت خطتها، وخصت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها[20].

والظاهر أنه لا خصوصية لبني أمية في الذكر إلا بلحاظ أنهم المثال الأوضح في عصره(ع)، حيث كانوا أجلى المصاديق للمفتنين للناس، وإيجاد وسائل الفتنة، ولا ريب في وجود امتداد لبني أمية في وسطنا الاجتماعي، يكررون ما كرره بني أمية لكن بما يكون متناسباً وما نعيشه اليوم، ويبثون الفتن بشتى وسائلها.

الفتنة في الأمور الدنيوية:

وهذا النوع وإن كان ذا خطورة وأثر سلبي في الوسط الاجتماعي الاسلامي، إلا أنه مع ذلك لا يبلغ ما يبلغه النوع الأول من الأثر، وعلى أي حال، فهذا النوع أيضاً لا يختلف عن سابقه في وجود عدة وسائل وسبل يمكن تحققه من خلالها، وسوف أقصر الحديث على شيء منها، خصوصاً وأن البقية لا تكاد تخفى على القارئ الفطن.

ومن أجلى مصاديق الفتنة في الأمور الدنيوية، فتنة بث الخلافات وإشاعتها بين الأفراد، فقد تكون ببثها بين الزوج وزوجته، كما يمكن أن يكون الخلاف مبثوثاً بين الأخوين، وقد يكون بثه بين الأب وولده، كما قد يكون بين الأصدقاء والأحباب، وهكذا.

عقاب أصحاب الفتن:

هذا وقد تعرض القرآن الكريم إلى ما لأصحاب الفتن من عقوبة، فقال تعالى:- (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)[21]، فقد تضمنت الآية الشريفة ذكر نوعين من العقوبة لموجب حصول الفتن بين الناس من خلال إيجاد الاختلال مع الاضطراب، والعقوبتان هما: عذاب جهنم، وعذاب الحريق. ولسنا الآن بصدد الحديث حول جهة الاختلاف بين هاتين العقوبة، بل ما ينبغي التركيز عليه هو كيف يكون هؤلاء مصدراً لحصول الفتن ووجودها بين الناس، ويكون متوافقاً مع ما عرفت في حقيقة الفتنة؟

إن ذلك يكون من خلال قيامهم باستخدام أساليب متعددة تدور في حيز الترهيب والترغيب، وذلك بأمور:

1-الضغط على ظروفهم: فيستغل الوضع المعيشي الصعب، ويحاول انتهاج سبيل التجويع والحرمان الاقتصادي، ومنع الطاقات من أن تبرز طاقاتها، ما يجعل المؤمن يعيش حالة من الإذلال والشعور بالذل والمهانة، حتى لأنه يرى نفسه غير محترم، بل يشعر بأنه لا قيمة له، وأن دمه من الرخص بمكان، لأنه يتم التعامل معه ليس بثمن بخس فقط، بل أدون من ذلك. كما يكون ذلك من خلال تغذية الطائفية البغيضة بين أبناء المجتمع.

2-الضغط على نفسياتهم: بمحاولة الاستفزاز والاستثارة، وعرض عدم الاحترام والتقدير، وغير ذلك.

3-الضغط على علاقاتهم: بأن يعمد إلى إيذائهم في ذويهم وأقاربهم وأرحامهم، فلا يكاد ينكر أحد مدى العلقة واللحمة النسبية بين بلادنا وبين البحرين الجريح، وبالتالي كيف يمكن أن نعيش هدوءاً واستقراراً ونحن نرى ذوينا وأهلنا في البحرين الجريح يقمعون بأساليب همجية ووحشية، ويسقط الشهداء منهم واحداً تلو الآخر.

4-الضغط على أوضاعهم العاطفية والشعورية: فلا أظن أن أحداً سوف يرضى وهو يرى دماء الشهداء تسقط رخيصة دون أن يكون هناك أدنى محاسبة، أو مسائلة، أو أن يعتقد أن له قيمة أو احتراماً وهو لم يسمع بعدُ بإجراء إصلاحي يفيد مراعاة الشعور النفسي والعاطفي لأبناء هذه المنطقة، ويخفف عليهم صدمتهم في ما قدموه من شهداء.

وبالجملة، إن جميع ما تقوم الجهات المسؤولة، والأنظمة في هذا البلد في هذا الظرف الراهن وفي ظل هذه الأزمة لهو من أجلى المصاديق للآية الشريفة، وأن ما يجري هو فتن للمؤمنين والمؤمنات، وسوف ينال الموجدين لها العقاب المنصوص عليه في الآية الشريفة.

هذا وقد يدعى عدم صلوح الآية الشريفة للتطبيق على ما يجري في واقعنا الحياتي اليوم، وعدم إمكانية الاستدلال بها على ذلك، لكونها مختصة بأصحاب الأخدود الذين ذكر القرآن الكريم قصتهم، وأشار إليها في سورة البروج.

والظاهر أن منشأ الدعوى المذكورة ملاحظة سبب النـزول، إلا أن هناك قاعدة أصولية تمنع من القبول بذلك، مفادها أن المورد لا يخصص الوارد، وعليه فسوف يبقى إطلاق الآية الشريفة على حاله محكماً، لتكون جارية وشاملة لكل فتنة وقعت، وفي كل مؤمن فتن، وفي كل جبار فتن المؤمنين والمؤمنات، وأن سبب النـزول، لا يصلح لرفع اليد عن هذا الاطلاق.

هذا ولا نملك في الختام، إلا أن نبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصابرين في هذه الفتن، وأن يعيننا على ما ابتلينا به، وأن لا يحرمنا لطفه وعفوه إنه سميع مجيب.

[/align]

——————————————————————————–

[1] سورة العنكبوت الآية رقم 2.

[2] سورة الأعراف الآية رقم 27.

[3] سورة الأنفال الآية رقم 25.

[4] سورة الأنفال الآية رقم 39.

[5] سورة المائدة الآية رقم 41.

[6] مواهب الرحمن ج 3 ص 138. وقد ألتـزم بهذا المعنى أيضاً الشيخ مكارم الشيرازي(حفظه الله)في تفسيره الأمثل، فلاحظ ج 20 ص 84.

[7] سورة الذاريات الآية رقم 13.

[8] التحقيق في كلمات القرآن الكريم ج 9 مادة فتن ص 23.

[9] سورة طه الآية رقم 85.

[10] سورة التوبة الآية رقم 126.

[11] سورة الممتحنة الآية رقم 10.

[12] سورة الفجر الآية رقم 16.

[13] التحقيق في كلمات القرآن الكريم ج 9 مادة فتن ص 23.

[14] سورة الإسراء الآية رقم 60.

[15] سورة طه الآية رقم 40.

[16] التحقيق في كلمات القرآن الكريم ج 9 مادة فتن ص 25(بتصرف).

[17] سورة البقرة الآية رقم 191.

[18] سورة البقرة الآية رقم 217.

[19] سورة البقرة الآية رقم 217.

[20] نهج البلاغة الخطبة رقم 93.

[21] سورة البروج الآية رقم 10.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة