بايع المسلمون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) يوم غدير خم، بأمر من الله سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم(ص)، وبعدما عاد النبي الكريم محمد(ص) إلى أرض المدينة، أصابته وعكة صحية، فارق بعدها حياة الدنيا، وقد كان بين بيعة المسلمين لأمير المؤمنين(ع)، وبين رحلة النبي(ص) عن عالم الدنيا، ما يقارب السبعين يوماً.
وما يثير عجب القارئ للأحداث التاريخية التي جرت في تلك الفترة هو ما جرى بعد وفاة النبي(ص)، ذلك أن المسلمين الذين بايعوا أمير المؤمنين(ع) وصدرت من بعضهم البخبة، بقوله: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، فقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، انقلبوا على أعقابهم، فجاءوا يطالبونه البيعة إلى شخص آخر، فبعدما كان هو الذي تأخذ البيعة إليه من الناس، جاء إليه من يأخذ البيعة منه، ويطالبه بها إلى شخص آخر غيره.
ولا يخفى أن موجب التعجب والاستغراب يكمن في عدم وضوح الأسباب التي أدت إلى حصول هذا التحول والانقلاب الكبير جداً وخلال هذه المدة الزمنية القصيرة، لكل أحد، ولهذا نجد من يتعجب من ذلك، بل قد يتوقف في التصديق بحصول مثل هذا الأمر، وربما يصير البعض إلى عدم التصديق به، حتى قد يصل به الموقف إلى أن يلتـزم بما لا يمكن القبول به مثل عدم نصب النبي(ص) خليفة من بعده، وأنه لا يوجد ما يشير إلى ذلك في الآيات الشريفة، ولا النصوص النبوية.
والإنصاف، أن من لا يملك الدراية والمعرفة، ولا يحيط بالظروف المحيطة بالحدث في تلك الفترة، قد لا يستوعب حصول هذا الانقلاب الخطير.
وهذا يعني أن كل من يريد أن يحيط خبراً بما جرى، وأن يملك الدراية بالظروف والأسباب التي أوجبت مثل هذا الانقلاب، لابد وأن يقوم بدراسة الظروف الموضوعية المحيطة بالحدث، وبكل ما له علاقة بها. مضافاً إلى لزوم البحث عن أن مسألة الانقلاب، هل هي من القضايا الممكنة، والتي لا يمنع من وقوعها لا العقل، ولا الشرع، أم أنها من القضايا المستحيلة، التي يحكم العقل باستحالتها، كما أن الشرع لا يصدق وقوعها.
الانقلاب ظاهرة انسانية:
إن أول ما يلزم تسليط الضوء عليه، هو أن مسألة التحول والانقلاب، من الأمور الممكنة، أو أنها من الأمور المستحيلة، ذلك أنها لو كانت مستحيلة، فلا ريب أن القول بوقوع الانقلاب في وسط المجتمع الاسلامي بعد رحلة النبي الأكرم(ص) سوف يكون ممتنعاً، بعكس ما إذا قرر بكونها من الأمور الممكنة، فإن ذلك لن يكون موجباً لعدم تصديق الوقوع والتحقق الخارجي، فإن الإمكان يفتح مجال التحقق والوقوع، والحكاية التاريخية والنقل للحديث شاهد صدق على وقوعه.
وعلى أي حال، ليس أدل على بيان إمكانية وقوع الانقلاب في الوسط البشري، بل والإشارة إلى أنه ظاهرة طبيعية لا تكاد تنفك عنها النفس البشرية، من ملاحظة القرآن الكريم، فإنه يصرح بحصول ذلك، قال تعالى:-
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[1]
فإنه سواء ألتـزم بكون الآية الشريفة تتحدث عن أحداث قد وقعت في حياة النبي محمد(ص)، وذلك عندما أنهزم المسلمون وضعفت عزيمتهم، عندما ارتفع النداء من إبليس-كما قيل-يوم غزوة أحد، بأن محمداً(ص) قد قتل، وحصل الانقلاب من بعضهم وارتد عن الرسالة المحمدية، وأخذ موقفاً آخر مغايراً منها، حتى صار بعضهم يبحث عمن يذهب ليأخذ له الأمان من أبي سفيان في تلك اللحظات، أم قلنا بأنها من آيات الملاحم القرآنية التي تتحدث عن قضية غيبية بعدُ لم تقع، وإنما سوف تقع بعد وفاة النبي(ص)، فسيرتد بعض المسلمين لأن إيمانهم ينقضي بوفاة النبي(ص).
وعلى أي المحتملين الذين أشير إليهما في كلمات المفسرين، نلحظ اشتراكهما في مؤدى واحد، مفاده أن مسألة الرجوع والانقلاب عما عليه الإنسان حالة طبيعية، وظاهرة انسانية، كما لا يخفى، لأن المقصود من الانقلاب الذي تتحدث عنه الآية الشريفة هو الرجوع عما كانوا عليه إلى أمر آخر، والإيمان بخلاف ما كانوا يلتـزمون.
ومن المعلوم أن الذين وجدوا بعد وفاة النبي(ص) لا يخرجوا عن هؤلاء الذين تحدثت عنهم الآية الشريفة، لو لم يكونوا بأنفسهم، بل لو بني على المحتمل الأول فيها لكان القول بأن الذين تتحدث عنهم يعدون أفضل من الذين رحل عنهم المصطفى(ص)، فإن الذين كانوا يوم أحد يغلب عليهم الصفوة وأهل الإيمان الحقيقي، إلا أنه(ص) رحل عن اقسام متعددة.
أسباب الانقلاب:
ثم إنه بعد الفراغ عن كون الانقلاب ظاهرة ممكنة التحقق والوقوع، وفقاً لما تضمنه القرآن الكريم، فنحتاج أن نتعرف الأسباب التي أدت إلى وقوع ذلك في الوسط الاسلامي.
إن الإحاطة بالأسباب التي أدت إلى ذلك تعتمد على التعرف على التركيبة الفكرية للمجتمع الاسلامي في ذلك الوقت، ومعرفة الانتماءات التي كانت موجودة بين المسلمين، فإنه يسهل الكثير من الأمر على الباحث عن هذه الحقيقة.
وللأسف، أننا لا نجد تسليطاً للضوء من قبل الباحثين على هذه الناحية، مع أنه المتصور أنه لو لم تكن الأساس في الإحاطة بذلك، فلا ريب أنها تحتل الجزء الأكبر من الأسباب الموجبة لحصول الانقلاب من المسلمين على الخليفة الشرعي المنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه الكريم(ص).
تركيبة المسلمين الفكرية وقت السقيفة:
عندما نعود لمراجعة المصادر التاريخية، ونحاول أن نتعرف من خلالها على التركيبة الفكرية للوسط الاسلامي عند وفاة النبي الأكرم(ص)، نتوصل إلى وجود عدة أصناف:
الأول: الصفوة:
ويمكن أن يعبر عنهم بالنخبة من الصحابة الكرام، الذين صحبوا النبي(ص)، وآمنوا به إيماناً حقاً، فأطاعوه واتبعوه، ولم يخالفوه في قول ولا عمل.
وقد أمتاز هؤلاء على بقية الأصناف الإسلامية بصفات ثلاث رئيسة:
الأولى: الرؤية الواضحة لمعالم الأوضاع التي تعيشها الأمة، فهم يملكون رؤية واضحة جلية ناصعة تجاه القضايا التي تعيشها الأمة، ولا يعانون شيئاً من الضبابية، أو الاهتزاز في فهم الأشياء ومعرفتها.
الثانية: امتلاك التشخيص الواضح للموقف تجاه الأوضاع الراهنة، فهم على معرفة ودراية بما ينبغي أن يتخذ في تلك الظروف، وما هو الموقف العملي الذي يلزم السير فيه، واتخاذه، سواء كان الموقف هو الحركة، أم كان الموقف هو السكوت، وسواء أكان هو القتال، أم كان هو الصبر.
ولا يخفى مدى أهمية امتلاك الإنسان تشخيصاً للموقف في أي قضية من القضايا، لأن من الممكن جداً أن تكون لديه رؤية واضحة تجاه قضية من القضايا، إلا أنه لا يملك معرفة الموقف تجاهها، ولنقرب ذلك بالحراك الشبابي في مجتمعنا اليوم، إذ لا يختلف أثنان في كون ذلك من المطالب الحقوقية الطبيعية، وأنه لا يخرج عن أمور مشروعة تقرّها الدساتير والقوانين المتكفلة بحفظ الكرامة للإنسانية، إلا أنه قد يعجز المكلف عن تشخيص الموقف، وما ينبغي أن يكون له من دور فيه، وبالتالي هل يقف من هذا الحراك موقف السلب، أم يكون مؤيداً، ومع التأيـيد فما هي الحدود التي ينبغي أن يكون دائرة التأيـيد فيها، هل هي مطلقة العنان، أم أنها منحصرة في دائرة معينة؟ لا ريب أن كل هذا تتضح الإجابة عنه متى كان الإنسان ممتلكاً تشخيصاً للموقف تجاه الوضع الذي يعيشه.
وهذا بعينه هو ما كان موجوداً بعد رحلة النبي(ص)، وحال ظهور حركة السقيفة، فأمتاز الصفوة في تلك الأجواء بما كان يملكونه من تشخيص للموقف الذي كانوا ملزمين باتباعه والسير على وفقه، فإنهم كانوا يرون أن الموقف الحق يتمثل في ما يصدر عن أمير المؤمنين(ع)، وأنه الميزان الذي يعرف منه الحق والباطل، وهذا يعني أن ما يفعله علي(ع)، يلزم أن يتبع، ولا يجوز مخالفته، وما يتجنبه أمير المؤمنين(ع)، لا مجال للتفكير فيه، فضلاً عن المصير إليه.
الثالثة: امتلاكها إرادة قوية جداً، أمكنها من خلال وجودها عندها أن تجسد فهم رؤيتها للموقف إلى عمل خارجي، تتحرك على أساسه، ويمكننا أن نستعين في ايضاح هذه الصفة، بموقف أهل الكوفة مع الإمام الحسين(ع)، إذ لا يختلف أثنان في وجود الصفتين الأوليتين عندهم، حيث أنهم كانوا يملكون رؤية واضحة سواء عن الإمام أبي عبد الله الحسين(ع)، أم عن يزيد بن معاوية، كما أنهم كانوا على معرفة كاملة بكل منهما. كما أن الموقف كان واضحاً بالنسبة إليهم تجاه الأوضاع والأحداث التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية، ويظهر ذلك جلياً من خلال مكاتبتهم للإمام الحسين(ع)، وطلبهم منه أن يقدم عليهم، ليكون لهم أميراً فإنه لا أمير عليهم، وفعلاً كان تجاوب الإمام(ع) معهم، بأن بعث إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل(ع).
وعند التأمل، نجد أن ما كان ينقص المجتمع الكوفي، عبارة عن الإرادة، فإنهم لا ينقصون عن الشاميـين من حيث الشجاعة، وليسوا أقل شأناً وبأساً من البصريـين، إلا أنهم كانوا أشخاصاً مهزوزي الإرادة، ما أدى ذلك إلى أن يتراجعوا عن المولى أبي عبد الله(ع)، وتكون فاجعة كربلاء، وما حوته من مآسي وآلام.
وقد كانت الصفوة من أصحاب رسول الله(ص) مختلفة في هذه الناحية عن الكوفيـين، فهم مضافاً إلى ما كانوا يملكونه من الصفتين الأوليتين، امتلكوا صفة الإرادة أيضاً، والقدرة على اتخاذ الموقف الحازم دونما تراجع.
وحسب المستفاد من المصادر التاريخية، يمكن عدّ الصفوة من الصحابة نخبة قليلة جداً، قد لا يزيد عددهم على الثلاثين شخصاً تقريباً، بل اشتملت بعض النصوص على أنهم لا يزيدون على ثلاثة أو أربعة، فلاحظ ما جاء عن الإمام (ع) أنه قال: ارتد الناس بعد النبي إلا ثلاثة نفر[2].
ولا يخفى أنه لا يقصد من الارتداد في هذه النصوص، الارتداد الاصطلاحي، الذي يعني العودة إلى الكفر والخروج من ربقة الإيمان، الموجب لعدم التوحيد، وإنكار النبوة، فضلاً عن التكذيب بالفروع، من الصلاة والصوم، وغيرهما، وإنما يقصد منه فقدانهم الصفات الثلاثة، وبالتحديد فقدانهم الصفة الثالثة التي ميزت الصفوة عن الكثيرين من المسلمين في تلك الفترة العصيبة، حيث قد انحصر أصحاب الموقف في خصوص هذه الفئة القليلة ليس إلا.
الثاني: المنافقون:
وأفضل ما يمكن أن يعرفوا به أنهم الطرف المقابل تماماً للصنف الأول، وقد تحدث القرآن الكريم عنهم في آيات عديدة، وفي أوقات مختلفة، فكان له حديث عنهم في بداية الدعوة المحمدية، كما أنه تحدث عنهم أيضاً في أواخر حياة النبي(ص)، قال تعالى:-
(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[3]
فهؤلاء قد قبلوا بالإسلام وما تضمنه من تعاليم، قبولاً صورياً شكلياً، جرياً مع الحالة العامة التي أصبحت تسيطر على المجتمع خارجاً، إلا أنهم كانوا مكذبين بذلك تماماً في داخل أنفسهم.
ونقرب حقيقة هذا الصنف، بما ذكره المؤرخون من أنه لما أصبح النبي الأكرم(ص) على مشارف مكة في ذلك الجيش العظيم، جاء أبو سفيان إلى العباس عم النبي(ص)، وقال له: ما هو الموقف؟ فقال له العباس: الأفضل أن تسلم. فقال أبو سفيان: وماذا يعني الإسلام؟ ماذا أعمل حتى أسلم؟ وكرر هذا، وكأنه لا يعرف. فقال له العباس: قل لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
فقال أبو سفيان: أما الأولى فأقولها، ولا مانع منها، فلا لات ولا عزى، ولا هبل. أتنازل عن كل هذا، ولكن الثانية صعبة وثقيلة علي.
فقال له العباس: على كل حال، هذه الحالة أمامك، فانظر كيف تقدر الموقف؟ فإذا لم تقلها فهذا معناه الحرب والقتال.
فقال أبو سفيان: لا بأس.
فذهب ووقف أمام رسول الله(ص) وأعلن إسلامه، ونطق بالشهادتين، وأصبح من المسلمين.
ولما سلم أبو سفيان وأمثاله بهذه الحقيقة، أراد النبي(ص) أن يستعرض جيش المسلمين ليدخل الرعب في قلوب هؤلاء، فلما رأى أبو سفيان هذا الجيش العظيم يمر أمام الرسول(ص)، التفت إلى العباس، قائلاً: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً[4].
إذ نلحظ أنه لم يتعامل مع النبي(ص) على أنه نبي مرسل من السماء، وإنما لا زال يعيش أن المصطفى(ص) ملك، فتعاطى مع ذلك بهذه الصورة.
وقد كان لأصحاب هذا القسم تأثيراً كبيراً جداً على الناس في ذلك العصر، كونهم من طبقة الأشراف، وبالتالي فهم رؤساء العشائر، وكانوا أصحاب الوجاهة، والمواقع الاجتماعية المرموقة.
وما كان موقفهم من الرسالة المحمدية المعادي إلا لشعورهم أنها تهدد مكانتهم وزعامتهم، ولهذا دخلوا في الإسلام دخولاً صورياً وليس حقيقياً، وكانوا يسعون بشتى الوسائل للقضاء على الرسالة، وبأساليب مختلفة، إلا أن جميع تلك المحاولات باءة بالفشل، وقد كان هذا هو السبب الذي دعاهم إلى أن يظهروا الإسلام.
ومن الطبيعي أنهم كانوا يستشعرون التبعية بعدما كانوا تابعين، فما كان ذلك ليرضيهم، وقد استمالهم النبي(ص) من خلال دفع أموال إليهم، وإعطائهم المواقع كنوع من تأليف قلوبهم.
الثالث: عامة المسلمين:
وهؤلاء قريبون تماماً من الصفوة، إذ أنهم قد شاركوا مشاركة حقيقية في الجهاد مع النبي(ص)، وتحملوا الآلام، وقدموا التضحيات من أجل إيصال الإسلام إلى المستوى الذي وصل إليه. فنجد منهم من جرح، ومن بذل أموالاً، ومنهم من شارك بوسائل أخرى، كما أن بينهم من هاجر الهجرتين، فهاجر إلى الحبشة وفارق الأهل والأحباب في مكة، ثم هاجر بعد ذلك إلى أرض المدينة، ومن اقتصرت هجرته على الهجرة إلى المدينة، فإنه قد يكون فارق في مكة داراً وأموالاً، فضلاً عن أنه فارق أهلاً وأحباباً.
وإنما اختلف هؤلاء عن الصفوة، بملاحظة الصفات الثلاث التي امتلكها الصفوة، وافتقدها جميعاً، ولا أقل من الثانية والثالثة هؤلاء، فهؤلاء الذين بالأمس كانوا يقاتلون الكفار والمشركين، لا يملكون القدرة على أتخاذ موقف في ما إذا كان الصراع والقتال بين المسلمين أنفسهم. فلم يتبعوا الحق أو يسعون إلى تحصيله.
ولعل النموذج البارز لهذا الصنف، الأشخاص الذين قصدتهم السيدة الزهراء(ع) بعد خطبتها في المسجد النبوي، سواء كانوا مهاجرين أم كانوا أنصاراً، لأن من المستبعد جداً أن يكون الذين قصدت بيوتهم الطاهرة فاطمة(ع) هم الذين هجموا عليها، وقاموا بإسقاطها، وكسر ضلعها ولطم خدها، لأنه لا معنى لأن تقصدهم وتستثير فيهم كوامن داخلية، بل هي على دراية أن هؤلاء قد قست قلوبهم فهي كالحجارة، أو أشد قسوة. إنما قصدت عامة المسلمين الذين نحن بصدد الحديث عنهم، وبسبب ما ذكرناه من اختلافهم مع الصفوة في الصفات، نجد أنهم اعتذروا لمولاتنا الزهراء(ع) بأن الأمور قد استتبت، وأننا قد بايعنا فلاناً، ولو أنك أتيتينا قبل ذلك، لما كنا نبايع أحداً غير علي(ع)، قالوا: يا بنت رسول الله، لقد فات الأوان، لو جئت في بداية القضية لكان من الممكن أن يكون لنا موقف آخر[5].
ولا يخفى أن الكلام الصادر منهم، بمثابة أنهم يرفضون المخالفة ومتابعة الحق، لا لشيء إلا حذراً من إثارة البلبلة داخل الوسط الإسلامي، وهذا ما نؤكد عليه من فقدانهم الصفات الثلاث المتقدمة، فلا تغفل.
القسم الرابع: الأعراب:
وقد أشير لهذا الصنف في العديد من الآيات الشريفة، وتضمنت بيان أنهم يمثلون جمهوراً واسعاً جداً من الأمة الإسلامية، في ذلك الوقت, فهم الظاهر المقصودون بقوله تعالى:-
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 0 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا)[6]
لأن لمتصور من الأفواج فيها هم الأعراب الذين صاروا يدخلون في الإسلام جماعات جماعات، وبصورة كبيرة جداً.
إلا أن ذلك المد الإسلامي الحاصل نتيجة دخول الأعراب في الإسلام، كان يفتقد إلى المعرفة الحقيقة للإسلام، فإن الأعراب قد انحصرت معرفتهم في خصوص الشعارات، والعواطف المتأججة. ولعل هذا يفسر لنا شيئاً مما جاء في القرآن ذماً لهم، فلاحظ قوله تعالى:-
(الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[7].
وقد أختلف حال الكثير من الأعراب بعد وفاة النبي(ص)، فقد ارتد قسم منهم عن الإسلام، بل أدعى بعضهم النبوة، ومن بقي في المدينة المنورة، باقياً على الإسلام، لم يكن إلا مجرد صورة وخيال، فقد كان يتبع الأكثرية، أو يخضع لمبدأ القوة، فلم يكن مالكاً لإرادة فضلاً عن رؤية، وهذا يفسر لنا سبباً من الأسباب التي دعت القوم إلى الهجوم على بيت مولاتنا الزهراء(ع)، وقيامهم بما قاموا به من جرم، إذ كانت إحدى الغايات المقصودة هي عملية إخافة الأعراب، والذين يمثلون النسبة الساحقة في الوسط الإسلامي كما عرفت مقابل القلة جداً، وهم الصفوة، وعدد ليس كثيراً يمثلون عامة المسلمين.
القسم الخامس: الانتهازيون وأصحاب المصالح:
وقد تحدث القرآن الكريم عنهم في آياته الشريفة، ما يشير إلى وجودهم في الوسط الإسلامي، فلاحظ قوله تعالى:-
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلا 0 أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا 0 يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلا)[8]،
وقد صنفهم القرآن الكريم إلى أصناف عدة، لا يهمنا الحديث عن ذلك الآن.
وقد يلتبس على القارئ الأمر بين هذا القسم، وبين المنافقين، حتى ربما أعتقد الكثيرون أنهما قسم واحد، لما بينهما من كثير من جهات الاشتراك، إلا أن الصحيح أنهما قسمان، وكما أن بينهما قواسم مشتركة، فإن بينهما نقاط اختلاف أيضاً، وعلى رأسها، أن المنافقين كما عرفت لا يؤمنون بالدين، وإنما انتموا إليه خوفاً من السيف والقتل بعدما لم يبق لهم مجال للفرار منه، بينما أصحاب المصالح وأهل الانتهاز، يؤمنون بالدين، إلا أنهم يجعلون الدين في المرتبة الثانية بعد مصالحهم.
وإن شئت فقل، إن الانتهازيـين يعمدون إلى تقديم مصالحهم الخاصة على كل شيء، حتى لو كان ذلك على حساب الدين، إلا أنهم مؤمنون بالدين، ومصدقون بالرسول(ص).
ولأصحاب هذا القسم جملة من المميزات، فهم أناس أصحاب عقول، وفهم ومعرفة اجتماعية، كما أنهم يملكون القدرة على إدارة الأمور، مضافاً إلى أنهم يمثلون طبقة اجتماعية ذات ثقل.
وهؤلاء يتحركون وفقاً لما لديهم من إمكانيات في كل موقف من المواقف والأحداث التي تقع في الوسط الاجتماعي، فيكونوا أصحاب قرار، كما يكون لهم أتباع.
القسم السادس: المجتهدون مقابل النص:
ونعني بهم هؤلاء الذين كانوا يملكون رؤية خاصة تجاه قضية خلافة النبي الكريم محمد(ص)، مخالفة للموقف الإسلامي، ولموقف رسول الله(ص)، بل لا ينحصر الأمر في خصوص مسألة الخلافة، وإنما يمكن التعدي فيه إلى مطلق التعاليم الإسلامية، ذلك أن هؤلاء كانوا يعيشون حالة من الاجتهاد مقابل كل ما كان يصدر من رسول الله(ص)، وما كانوا ليؤمنوا بما يجئ به، والظاهر أن هذه التشكيكات، والاعتراضات عليه(ص) كانت بمثابة المقدمة لما هو أكبر، أعني رفض مسألة الخلافة، والتشكيك في عصمة النبي(ص)، حتى قال الرجل يوم رزية الدار، إن محمداً(ص) يهجر، وقد غلب عليه الوجع.
وعلى أي حال، فقد حكى لنا التاريخ، والسنة الشريفة مواقف عديدة ونماذج من حياة النبي(ص)، كان لأصحاب هذا القسم موقفاً مخالفاً لما كان يصدر عن رسول الله(ص)، ولنشر إلى بعضها:
1-يوم صلح الحديبية، لما صالح النبي(ص) أهل مكة على أن يعود، ويأتي في العام القادم، ويفسح له المجال لأداء مناسكه، فقال الرجل يومها كلمة قاسية: والله ما شككت في نبوة محمد كشكي في نبوته ذلك اليوم.
2-متعة الحج، وقصة ذلك معروفة، فقد دخل النبي(ص) مع المسلمين لأداء حجة الوداع، وقد كان(ص) قارناً، وأمر المسلمين أن يدخلوا بعمرة التمتع، وأحل لهم النساء بعد ما قصروا من العمرة، فجاء الرجل معترضاً على النبي(ص)، وقال كلمته المشهورة في ذلك اليوم، وقد بقيت هذه القضية في نفسه حتى تسلط على الرقاب، فقام في الناس خاطباً، وحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى.
3-الامتناع عن تنفيذ جيش أسامة، وقد أمر النبي(ص) بذلك، بل ولعن كل من تخلف عنه، بينما نجد أن هذا وأصحابه، خرجوا وبقوا في أطراف المدينة ممتنعين عن التنفيذ والانصياع لأمر رسول الله(ص) مقدمين حججاً واهية، لا تسمع.
4-رزية يوم الدار، والتي قد سمعت شيئاً من الإشارة إليها، عندما حيل بين رسول الله(ص)، وكتابة الكتاب، بل تجرأ فقال أن النبي(ص) قد غلب عليه الوجع، وصار يهجر[9].
ولم تكن هذه الاجتهادات والرؤى الخاصة من أصحاب هذا القسم، إلا لأجل الحول دون أن ينفذ الأمر الإلهي، وينصب أمير المؤمنين(ع) خليفة على الأمة، وقد كان النبي(ص) يعلم أن هؤلاء لا يريدون تطبيق رسالة السماء، وما إخراجهم في جيش أسامة، إلا رغبة منه تهيئة الأرضية المستقرة والمستتبة لتقرير مصير الأمة. لذلك وبمجرد أن شعر هؤلاء هذا من رسول الله(ص) يوم غزوة تبوك عندما استخلفه على المدينة عوضاً عنه، وهو خارج إلى معركة يحتمل قتله(ص)فيها لكون الخصم من القوة بمكان، بدأوا يزيدون من المخالفة ويسعون لإضعاف هذا الجانب، ويبرزون رؤيتهم الخاصة مقابل الرؤية الإسلامية.
ولقد اعتذر الرجل الثاني لابن عباس، بأنهم إنما منعوا علياً(ع) من الخلافة، لأن الناس قد كرهوا أن تجتمع النبوة والإمامة في بيت واحد، ولأجل الحفظ على مصالح الأمة، حالوا دون تنصيب علي(ع) المنصب الذي اختاره الله تعالى إليه.
تحليل الأقسام الخمسة والخلافة:
ثم إنه بعدما تعرفنا على التركيبة الفكرية للمسلمين عند رحلة النبي(ص) عن عالم الدنيا، أصبح من السهل علينا أن نحيط بالأسباب والدواعي التي أدت بالمجتمع الإسلامي إلى الانقلاب على أمر الله تعالى، ومخالفة رسوله(ص) بتنحية من نصبه الله تعالى، إذ قد عرفت أن أصحاب الاجتهاد مقابل النص، كانوا يخططون وبطرق عديدة للحيلولة دون أن يكون أمير المؤمنين(ع) خليفة، وبعيداً عن دوافعهم في ذلك فإن الذي يعنينا أنهم ما كانوا ليرضوا بخلافته، وقد سمعت مقالة الرجل الثاني لابن عباس.
ولا ريب في أن الانتهازيـين وأصحاب المصالح الخاصة كأبي سفيان، وأضرابه لن يقفوا إلى جانب أمير المؤمنين(ع)، لمعرفتهم التامة به، وأنه سوف يسير على منهج ابن عمه(ص)، الموجب لعدم حصولهم على مصالحهم.
وقد عرفت أن الأعراب كانوا تابعين لكل من درت معايشهم معه، أو كل من كان يمثل القوة والسلطة، وهذا قد تحقق بمجرد أن وقع الاقتحام والهجوم على بيت النبوة، وجرى ما جرى على السيدة الطاهرة الزهراء(ع). فبقي عامة المسلمين، وقد عرفت واقعهم، فهم أشخاص بدون رؤية، ولا موقف، بل قد يفقدون الإرادة أيضا، فانحصر الأمر في خصوص الصفوة[10].
ظاهرة بكاء الزهراء:
ولنختم الحديث حول نقطة جديرة بالدراسة، وهي ظاهرة البكاء عند مولاتنا الزهراء(ع)، فقد نقل المؤرخون عنها كثرة البكاء على أبيها رسول الل(ص) حتى عدت أحد البكائين الخمسة، كما في الرواية، بل حتى تأذى أهل المدينة من بكائها، فطلبوا من أمير المؤمنين(ع) أن تقتصر على البكاء في أحد الوقتين، إما الليل أو النهار، وعلى أثر ذلك بنى لها بيت الأحزان.
وما يهمنا من هذا النقل التاريخي، هو أن هذا البكاء الصادر منها(ع) هل يعدّ جزعاً، وعدم تسليم بأمر الله سبحانه وتعالى، في المصاب برسول الله(ص)، أم أن هناك أهدافاً تتوخاها السيدة الزهراء(ع) من هذا البكاء؟
إننا نجد أن الكثير من الباحثين قد عنوا بدراسة ظاهرة البكاء عند الإمام زين العابدين(ع) واعتبروا ذلك وسيلة استخدمها في المعارضة السياسية مع السلطة في تلك الفترة، كما أنها كانت أسلوباً تمكن من خلاله أن يعرف المجتمع الإسلامي، بل الإنساني قضية الإمام الحسين(ع)، ودوافعه وأهدافه التي قام من أجلها.
ولا نكاد نجد تسليطاً للضوء على ظاهرة البكاء عند مولاتنا الزهراء(ع)، خصوصاً وأن المتأمل قد يصل إلى قناعة بأن هذا البكاء ما كان ليقل أهمية ودوراً وتأثيراً عن بكاء الإمام زين العابدين(ع)، وأنه كما كان بكاء الإمام السجاد(ع) وسيلة معارضة أمكنه من خلالها أن يقوض عروش الظالمين، كان بكاء الزهراء(ع)، كذلك، وأن ذلك وإن لم يخلو عن الحزن على رسول الله(ص)، إلا أنه لم ينحصر في خصوص ذلك فقط، بل كانت هناك أهداف تسعى لتحقيقها.
ولا أدل على ذلك من الموقف الذي اتخذ معها(ع) عندما منعت من البكاء، وأمروا أمير المؤمنين(ع) على أن يخرجها من المدينة-بناءً على التسليم بذلك، وأنه قد بنى لها بيت الأحزان لهذا السبب-فلاحظ.
وكيف كان، فلا ريب أن هناك دوافع سعت السيدة(ع) إلى تحقيقها، نشير إلى بعضها:
منها: إبراز المصيبة العظمى، فقد حلت على الأمة مصيبة ليس مثلها مصيبة، تتمثل في فقد رسول الله(ص)، إلا أن الناس لم يعتنوا بمثل هذا المصاب الجلل، ولم يعطوه حجمه اللازم، كما أن هناك مصاباً آخر وقع على الأمة يتمثل في انقطاع الوحي عن المسلمين برحلة النبي(ص) عن عالم الدنيا، ما يستدعي دخول الأمة مرحلة جديدة.
ومنها: التأكيد على البيعة، من خلال أمرين:
1-الموقف الشرعي: وهو الذي يتمثل في سلب الشرعية من اجتماع السقيفة، وبيان أن ما جرى فيها يخالف الموازين الشرعية، ويخالف الشريعة السمحاء.
ومن هنا فقد تحملت(ع) مسؤولية بيان الحكم الشرعي، من خلال الاعتراض وعرض صورة المعارضة بصورة جلية واضحة، قدمت من خلالها رفضها لكل ما كان مخالفاً لأطروحة الإسلام.
2-الموقف العملي: ذلك أن خروجها(ع) من بيتها، وخطبتها في المسجد، واعتراضها على ما جرى أدى إلى بيان حقيقة القضية، وإيضاح الموقف العملي فيها، فإنها(ع) لو لم تخرج لكان ذلك مدعاة إلى إثارة العديد من التساؤلات حول هذا الموضوع، قد تصل إلى التشكيك، بل عدم التصديق بحصول انقلاب في الأمة الإسلامية عن بيعة أمير المؤمنين(ع)، فكان امتناعها عن بيعة الرجل، موقفاً صريحاً ومعارضة عملية لعدم مشروعية ما عمل.
ومنها: بيان مضمون الخلافة الإسلامية، فإنها لم تقصر حديثها على مسألة البيعة فقط، بل تحدثت أيضاً عن مضمون الخلافة الإسلامية، كما يستفاد ذلك من خطبتها في النساء، قالت(ع): ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الوحي الأمين، والطبين بأمر الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين-إلى أن قالت(ع)-والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله(ص) لاعتلقه، ولسار بهم سيراً سجحاً، لا يكلم خشاشة، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفتاه، ولأصدرهم بطاناً، قد تحير بهم الري[11].
[1]سورة آل عمران الآية رقم 144.
[2]بحار الأنوار ج ص
[3]سورة المنافقون الآية رقم 1.
[4]إعلام الورى ج 1 ص 215-228.
[5]الاحتجاج ج 1 ص 108-109، بحار الأنوار ج 43 ح 9 ص 159-161.
[6]سورة النصر الآيتان رقم 1-2.
[7]سورة التوبة الآية رقم 97.
[8]سورة الأحزاب الآيات رقم 18-20.
[9]لاحظ البخاري ومسلم، فقد تضمنا الإشارة إلى حديث الدواة والكتف.
[10]فاطمة الزهراء(ع) ص 240- 256.
[11]فاطمة الزهراء(ع) ص 373-382.