قاعدة السوق(1)

لا تعليق
خواطر حوزوية
157
1

من أهم القواعد الفقهية ذات الثمرة العملية في الحياة الخارجية، قاعدة سوق المسلمين-لو ثبتت- لما لها من أهمية في أمور المسلمين المعيشية.

أهمية القاعدة:

إذ لا يخفى على أحد أنه يعتبر في حلية أكل اللحوم إحراز ذكاتها، فما لم تحرز لم يجز أكلها، ولا يخفى أن الحكم بعدم جواز الأكل شامل حتى لما يشك في ذكاته، فلا ينحصر في خصوص ما علم عدم ذكاته، وأنه ميتة.

ولا ريب في أن احتمال عدم التذكية فيما يوجد من اللحوم في السوق موجود، مما يعني عدم جواز أكله، لعدم إحراز الشرط المعتبر في حليته، وهو كونه ذكياً.

وهنا تظهر ثمرة القاعدة، لأنه لو تمت وحكم بقبولها، لكان مفادها هو البناء على حلية اللحم المشكوك كونه ذكياً.

وكذا بالنسبة للجلود، بناءاً على أن الشرط المعتبر في لباس المصلي هو كونه مأخوذاً من حيوان ذكي، فلا تصح الصلاة فيما لو أخذ من الميتة، بل حتى من مشكوك الذكاة أيضاً، لعدم إحراز الشرط المعتبر في صحة الصلاة فيه.

وبناءاً على أن المقابل للذكي هو الميتة، فعندها لن تصح الصلاة في هذه الجلود.

نعم لو قيل بأن المانع من إيقاع الصلاة فيه، كونها ميتة، فيكون الشرط المعتبر في اللباس، أن لا يكون مأخوذاً من الميتة، وشككنا في الجلد الموجود خارجاً في أنه من الميتة أم لا، فلا مجال هنا للحكم بالمنع عنه، إلا بناءاً على جريان أصالة عدم التذكية، كما عن الأستاذين الجليلين(دامت أيام بركاتهما)، أما وفقاً لما عليه بعض الأعاظم(قده)، من كون أصالة عدم التذكية من الأصول المثبتة، فلا إشكال في أن المرجع عند الشك هو أصالة الطهارة، كما لا يخفى.

وكذا لو شك في طهارة شيء مما يوجد في سوق المسلمين، فإن قاعدة الطهارة تقضي البناء على طهارته، وبالتالي يمكن الانتفاع به في كل ما يعتبر فيه الطهارة، لكنه لو شك في كونه ذكياً أم لا، كان مقتضى عدم الذكاة المعبر عنه بأصالة عدم التذكية، الحكم بالنجاسة، لأن الأصل المذكور يحكم على أًصالة الطهارة، لحكومة الأصل السبـبي على الأصل المسبـبي.

ولا يخفى أن الحكومة المذكورة تبتني على جريان أصالة عدم التذكية، أما لو قيل بكونها أصلاً مثبتاً، كما عن بعض الأعاظم(قده)، فلا يوجد ما يمنع عن جريان أصالة الطهارة.

والحاصل، توجد ثمرة عملية واضحة نتيجة تمامية هذه القاعدة، لكونها تجري في العديد من المسائل الابتلائية في حياة المكلفين.

هذا ويقع الحديث في القاعدة المذكورة ضمن أمور:

الأول: في مفاد القاعدة:

لا يخفى أنه يعتبر عندنا في جواز استعمال شيء في الشرب أو في الوضوء، أن يكون الشيء المستعمل طاهراً، كما أنه يعتبر عندنا إيقاع الصلاة في لباس يستجمع جملة من الشرائط، وكذا الكلام بالنسبة للحوم المتناولة، فإنه لا يسوغ للإنسان أن يتناول لحماً ما لم يكن متوفرة فيه جملة من الشروط، وهذا يعني أنه لابد من إحراز توفر الشروط المعتبرة في تلك الأمور متى أراد الإنسان أن يتعامل معها، فلو وجد الإنسان هذه الأشياء في سوق المسلمين، لكنه لم يكن محرزاً لتوفر الشروط المعتبرة فيها، فهل يمكنه أن يعمد إلى ترتيب آثار توفر الشروط فيها، أم أنه لا يسوغ له ذلك، بل عليه أن يعاملها معاملة ما كان مفتقداً للشروط؟…

المستفاد مما دل على قاعدة سوق المسلمين، هو أن كل ما يكون موجوداً في سوق المسلمين، يرتب عليه أحكام الطهارة، فيصح أن يجعل محلاً لماء الشرب والوضوء، كما يصح إيقاع الصلاة في جلده، كما يجوز أكله بعدما حكم عليه بالحلية.

ولا ينحصر ذلك بصورة ما إذا علمنا بكونه ذكياً، بل حتى لو شك في ذكاته فإن مقتضى القاعدة محل البحث، هو البناء على ذكاته، والحكم بحليته، مع أن الأصل الأولي هو الحكم بالحرمة والنجاسة حين الشك، بناءاً على جريان أصالة عدم التذكية.

نعم لو قيل بكونها أصلاً مثبتاً، فإنه يفصل بين الطهارة، وبين الأكل، فيحكم بطهارته، لكنه لا يحل أكله.

وكذا يجوز بيعه وشراؤه، حتى على قول القائلين بمانعية النجاسة من البيع كما أشار لذلك الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب المحرمة، فراجع.

وبالجملة، إن مفاد القاعدة هو ترتيب آثار توفر الشروط المعتبرة فيما يعتبر فيه توفر جملة من الشروط من حيث الطهارة والحلية، فيحكم على الموجود في السوق بجواز الاستعمال والانتفاع به من دون أن يكون هناك ما يمنع من ذلك، وما ذلك إلا لمعاملته معاملة ما كان مستجمعاً لشرائط الحلية والذكاة.

ثم إنه بناءاً على ما ذكرناه في مفاد القاعدة لن تبقى هناك حاجة للفحص عن حال البائعين الموجودين في السوق، بل يـبنى على حلية الموجود.

الثاني: مدرك القاعدة:

هذا وقد استدل على القاعدة المذكورة بوجوه لابد من ملاحظتها، لنرى ما يتم منها:

الأول: الإجماع:

فقد ادعي على حجية سوق المسلمين، وأنه سبيل لإحراز الذكاة لما يوجد فيه، والتعامل معه معاملة الذكي وترتيب آثاره عليه. بل لم نجد من شكك في ذلك لا من القدماء، ولا من المتأخرين، فيثبت المطلوب.

هذا ولا يخفى أن تمامية هذا الوجه، وصلوحه للدليلية، رهين توفر أمرين:

أولهما: كونه إجماعاً قدمائياً صادراً ممن كان معاصراً للأئمة(ع)، ولا أقل من كونه مقارباً لعصرهم بحيث يكون إجماعاً من قدماء الأصحاب، ويتضح ذلك من خلال كون المسألة معنونة في كلماتهم، فلو لم تكن المسألة معنونة عندهم منع ذلك من البناء على تحقق هذا الأمر.

ثانيهما: فقدان ما يصلح أن يكون دليلاً ومدركاً لهذا القول، لأنه مع وجوده يحتمل كون المجمعين قد استندوا في إجماعهم إلى ذلك الوجه.

ولا يخفى أن الأمر الثاني يشك في تحققه، ضرورة أن من المحتمل جداً، كون المجمعين قد استندوا في فتواهم إلى أحد الوجوه التي سوف يأتي ذكرها مما يستدل به على القاعدة محل البحث، ومع هذا الاحتمال وانتفاء الأمر الثاني، لا يحرز المناط في حجية الإجماع، لكونه لن يكون إجماعاً كاشفاً عن قول المعصوم(ع) بل سوف يكون إجماعاً مدركياً.

نعم تنفع دعوى مثل هذا الإجماع فيما لو كان الدليل الروائي المستند إليه في إثبات حجية القاعدة المذكورة ضعيفاً من ناحية السند، لأنه يصلح عندها لجبر الضعف، حيث يكشف عن استناد المجمعين لهذا الدليل الضعيف سنداً شرط انحصار الدليل في خصوص هذا الخبر الضعيف.

هذا وربما قيل أنه لو كانت حجية الإجماع من باب حساب الاحتمال الرياضي-كما هو غير بعيد-أمكن التمسك بهذا الدليل على المدعى، ذلك لأن إجماع الطبقة الفقهائية من أكابر الفقه الشيعي، توجب الاطمئنان باتفاق الأصحاب على هذه المسألة.

لكن ربما قيل، أن الموجود في كلمات الأصحاب ليس البناء على كاشفية السوق على التذكية، بحيث يقال بأنها أمارة، وإنما كاشفية السوق عن يد المسلم، مما يعني أنها أمارة على الأمارة، ومع كونها كذلك، فلن ينفع هذا الوجه، فتأمل.

الدليل الثاني: سيرة المتشرعة، ويقال في بيانها:

إن سيرة المتشرعة منعقدة ومستقرة منذ عصر المعصومين(ع) إلى يومنا هذا على معاملة ما يوجد في سوق المسلمين معاملة الذكي، ويرتبون عليه آثار الطهارة، ولا يسألون عنه متى كان موجوداً فيه، فهم يقدمون على الشراء والأكل من دون تأمل أو فحص عن كونها ذكية أم لا، أو عن كيفية تذكيتها، وأنها مستجمعة لشرائط الذكاة أو لا.

ولا يخفى أنه لو كان هناك ما يشير إلى خلاف هذه السيرة بين المتدينين لوصل إلينا.

ومن الواضح الجلي أن عدم نقل خلاف في البين، أو عدم الإشارة إلى وجوده، كاشف عن استقرار السيرة ومعاصرتها لعصر المعصوم(ع)، فينـتفي بذلك كونها سيرة حادثة.

ثم إنه لما كانت هذه السيرة، سيرة متشرعة، لم تعد بحاجة إلى إمضاء من الشارع المقدس في إثبات حجيتها، بل إن تقيـيدها بكونها كذلك يكفي لإثبات الحجية لها.

ومنه تعرف التأمل في كلام بعض الأعلام(دام ظله)، إذ ذكر أن هذه سيرة ممضاة من قبل الشارع، فتثبت حجيتها[1].

هذا وقد يقال بداية أنه لا إشكال في انعقاد السيرة وثبوتها في المقام، إلا أن البحث يقع في أنها منعقدة على ماذا؟!!!

فهل أنها انعقدت على قاعدة سوق المسلمين، بحيث تفيد سعة في المضمون، بمعنى أن سيرتهم قد انعقدت على التعامل مع الموجود في سوقهم معاملة الذكي، وإن كان ذلك مأخوذاً من يد الكافر، مع عدم العلم بكونه ميتة، ومع عدم العلم بسبق يد المسلم عليه، أم أن سيرتهم قد انعقدت على أمارية يد المسلم، بمعنى أن السوق إنما أخذ على نحو الكاشفية، لا على نحو الموضوعية، فيكون بمثابة العنوان المشير إلى أمارية يد المسلم، فالسيرة منعقدة على أن ما يكون في يد المسلم يعامل معاملة الذكي، ولو لم يكن السوق سوق مسلمين، فذلك يعني أنه قائم بهم، وبالتالي تكون السيرة منعقدة على أمارية يد المسلم، لا سوق المسلمين، ومن الواضح أنه بناءاً على هذا سوف تضيق الدائرة، ولن تكون بمثابة السعة المتصورة قبل قليل.

هذا ولو لم يحرز أنها على ماذا انعقدت، فهل انعقدت على أمارية السوق بما هي هي، بحيث يكون للسوق موضوعية، أم أنها منعقدة على أمارية يد المسلم، فلا يكون للسوق موضوعية، وإنما أخذت على نحو المثال ليس إلا، فعندها يكون إجمال في الدليل، مع أنه من الأدلة اللبية التي لا لسان لها، ولو قيل بإمكانية التمسك فيها بالقدر المتيقن، للزم البناء على أنه خصوص أمارية يد المسلم، لا سوق المسلمين، فلاحظ.

والظاهر أنها منعقدة على أمارية يد المسلم، لا أنها منعقدة على سوق المسلمين بما هو هو، خصوصاً بملاحظة أن المتشرعة عادة ما يأخذون جانبا الاحتياط والتورع، والتحرز عن مواضع الشبه والتهمة، ولا ريب في أن مقتضى انعقاد السيرة منهم على حجية سوق المسلمين، يستدعي البناء على حلية وطهارة ما يأخذ من يد الكافر ما دام موجوداً في سوق المسلمين، مع عدم لزوم الفحص عن حاله، وهذا يتنافى مع ما ذكرناه في حال المتشرعة من حيث الاحتياط، والتورع، فلاحظ.

ويشهد لما ذكرناه معتبر بكر بن حبيب الواردة في الجبن، قال: سئل أبو عبد الله(ع) عن الجبن، وأنه توضع فيه الأنفحة من الميتة، قال: لا تصلح، ثم أرسل بدرهم، فقال: اشتر من رجل مسلم، ولا تسأله عن شيء[2]. إذ نرى أنه(ع) أمر الغلام بالشراء من رجل مسلم، مما يعني أنه لا موضوعية لسوق المسلمين بما هي هي، وإلا للغى التقيـيد بكون المشترى منه رجلاً مسلماً.

نعم ربما أدعي أن خبر حماد بن عيسى يثبت خلاف ذلك، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: كان أبي يـبعث بالدراهم إلى السوق، فيشتري بها جبناً، ويسمي ويأكل، ولا يسأل عنه[3]. بتقريب: إن عدم سؤاله(ع) يعود لكون الجبن مشترى من سوق المسلمين، وأنها أمارة على التذكية والحلية والطهارة، ومع كونها كذلك، يثبت المطلوب.

وكذا خبر أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر(ع) عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة؟ فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، والله إني لأعترض السوق، فأشتري بها اللحم والسمن والجبن، والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان[4].

على أنه يمكن التشكيك في ثبوت هذه السيرة أساساً، فضلاً عن انعقادها، ولعله يشهد له كثرة الأسئلة الصادرة من قبل الرواة وفي كل عصر من عصور الأئمة(ع) فلو كانت السيرة قائمة ومنعقدة، لم تكثر الأسئلة وتتعدد في خصوص موضوع واحد ومن قبل أكثر من مسؤول من الأئمة(ع)، فهذا يكشف عن عدم وجود تباني وارتكاز متشرعي يشير إلى انعقاد سيرة في البين كما لا يخفى، فلاحظ.

ويؤيد ما ذكره خبر عبد الرحمن بن الحجاج، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إني أدخل سوق المسلمين-أعني هذا الخلق الذين يدعون الإسلام-فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أليس هي ذكية؟ فيقول: بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال: لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنها ذكية، قلت: وما أفسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة، وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكاته، ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله(ص)[5].

ولا يخفى دلالتها على المدعى، ضرورة أنه لو كانت سيرة المتشرعة منعقدة ومستقرة على أمارية سوق المسلمين، فلا معنى لسؤال ابن الحجاج من البائع، فإن سؤاله يكشف عن عدم هذا الانعقاد ولا الاستقرار المدعى، بل إن إمضاء الإمام(ع) إياه على سؤاله، وعدم نهيه عن ذلك يكشف عن عدم وجود مثل هذه السيرة، فضلاً عن استقرارها أو انعقادها.

على أن جواه(ع) إياه بأنه يبيع على شرط البائع، لا على أنها ذكية يؤكد ما ذكرناه، لأنه لو كان المأخوذ من سوق المسلمين يعامل معاملة الذكي، لم يكن هناك وجه لأن يكون البيع على شرط البائع، بل يكون البيع على أنه ذكي، فلاحظ.

نعم لما كان الخبر المذكور يعاني من مشكلة سندية، تعود لوجود محمد بن هلال في سنده فإنه ممن لم يوثق، جعلناه مؤيداً، للخلل السندي فيه.

[1] القواعد الفقهية للشيخ اللنكراني ج 1 ص 486.

[2] وسائل الشيعة ب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح 4.

[3] المصدر السابق ح 8.

[4] المصدر السابق ح 5.

[5] وسائل الشيعة ب 61 من أبواب النجاسات ح 4.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة