س: يذكر الخطباء رجوع قافلة السبايا إلى أرض كربلاء يوم العشرين من صفر، والتقائهم بالصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، فما مدى صحة هذا الخبر؟
ج: يتفق المؤرخون وأرباب السير على رجوع السبايا إلى أرض كربلاء المقدسة في طريق عودتهم من الشام قاصدين المدينة المنورة، إلا أنهم يختلفون في تحديد وقت العودة، فهل عادت الأسرة العلوية إلى أرض كربلاء في يوم العشرين من شهر صفر في السنة التي استشهد فيها الإمام الحسين(ع)، وبالتالي تكون قد ألتقت بالصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، أم أن وقت رجوعها لأرض كربلاء لم يكن في العشرين من شهر صفر وإنما كان ذلك في وقت آخر، وهذا يعني عدم حصول اللقاء بينهم وبين جابر، وإنما تلاقوا مع جابر بن عبد الله في العشرين من شهر صفر في سنة 62 من الهجرة النبوية، بعد مرور عام على استشهاد الإمام(ع) عندما جاء جابر زائراً قبر الإمام(ع) للمرة الثانية.
هذا والملاحظ لكلمات الأعلام يجد أنها على ثلاثة أنحاء:
النحو الأول: ما تضمن النص على أنهم قد وصلوا إلى أرض كربلاء في العشرين من شهر صفر، في سنة 61 من الهجرة النبوية، وممن أختار هذا الرأي جماعة كأبي الريحان البيروني[1]، والشيخ البهائي[2]، والشهيد القاضي الطباطبائي(ره).
بل هذا هو المشهور بين الأصحاب، طبقاً لما نقله غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره) عند تعرضه لبيان العلة التي من أجلها استحبت زيارة الإمام الحسين(ع) في يوم العشرين من شهر صفر، وهو المصادف لأربعين شهادته، قال: والمشهور بين الأصحاب أن العلة في ذلك رجوع حرم الحسين(ع) في مثل ذلك اليوم إلى أرض كربلاء عند رجوعهم من الشام، وإلحاق علي بن الحسين(ع) الرؤوس بالأجساد[3].
النحو الثاني: من أستبعد وصول قافلة السبايا إلى أرض كربلاء في سنة الحادي والستين من الهجرة النبوية في العشرين من شهر صفر، كالسيد ابن طاووس، فقد ذكر في كتابه إقبال الأعمال: وجدت في كتاب المصباح: أن حرم الحسين(ع) وصلوا المدينة مع مولانا علي بن الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، وفي غير المصباح أنهم وصلوا كربلاء أيضاً في عودهم من الشام يوم العشرين من صفر، وكلاهما مستبعد، لأن عبيد الله بن زياد-لعنه الله-كتب إلى يزيد يعرّفه ما جرى ويستأذنه في حملهم، ولم يحملهم حتى عاد الجواب إليه، وهذا يحتاج إلى نحو عشرين يوماً أو أكثر منها، لأنه لما حملهم إلى الشام روي أنهم أقاموا فيها شهراً في موضع لا يكنهم من حر ولا برد، وصورة الحال يقتضي أنهم أكثر من أربعين يوماً من يوم قتل(ع) إلى أن وصلوا العراق أو المدينة، وأما جوازهم في عودهم على كربلاءـ فيمكن ذلك، ولكنه ما يكون وصولهم إليها يوم العشرين من صفر، لأنهم اجتمعوا على ما روى جابر بن عبد الله الأنصاري، فإن كان جابر وصل زائراً من الحجاز فيحتاج وصول الخبر إليه ومجيئه أكثر من أربعين يوماً، وعلى أن يكون جابر وصل من غير الحجاز من الكوفة، أو غيرها[4].
ولا يخفى أن عمدة ما أستند إليه السيد ابن طاووس(ره) في استبعاد الرجوع ينحصر في ملاحظة المدة الزمنية المقطوعة أثناء رحلة المسير، وبالتالي لو أمكن إثبات الشواهد التاريخية على تحقق قطع تلك المسافة خلال مدة زمنية تتوافق والوصول إلى أرض كربلاء، فلن يكون لكلامه(ره) وجه، فلا تغفل.
وكغواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره)، فإنه بعدما نقل شهرة الأصحاب على أن علة استحباب زيارة المولى أبي عبد الله(ع) يوم الأربعين لرجوع الحرم المقدس لأرض كربلاء، وإلحاق الإمام زين العابدين الرؤوس بالأجساد. ذكر قولاً آخر وهو أن رجوعهم إلى أرض المدينة كان في يوم العشرين من صفر، وعقب ذلك بقوله: وكلاهما مستبعدان جداً، لأن الزمان لا يسع ذلك، كما يظهر من الأخبار، وكون ذلك في السنة الأخرى أيضاً مستبعد[5].
ولا يختلف(ره) موجب الاستبعاد والإنكار لوصول القافلة العلوية لأرض كربلاء في العشرين من شهر صفر في سنة الواحد والستين من الهجرة عند العلامة المجلسي(ره) عنه عند السيد ابن طاووس، فإن كليهما جعل قصر المدة الزمانية هو المانع، مع احتياج قطع تلك المسافة إلى مدة زمانية أطول.
وممن نفى رجوعهم إلى أرض كربلاء في العشرين من صفر، المحدث النوري في كتابه اللؤلؤ والمرجان، وأقام على ذلك البرهان، فذكر سبعة أمور، نشير للمهم منها:
الأول: لقد استبعد السيد ابن طاووس خبر لقاء العائلة العلوية مع جابر بن عبد الله الأنصاري في يوم العشرين من صفر بعد عودتهم من الشام، وهذا ينافي ما ذكره(ره) في كتابه اللهوف. نعم يعتذر له بأن كتاب اللهوف ألفه السيد في أوائل شبابه، وقبل بلوغه مرحلة النضج العلمي، فلا يكون التعويل عليه، بل على ما جاء في الإقبال، فلاحظ.
الثاني: إن حديث اللقاء لم يذكره أحد من أجلاء فن الحديث والمعتمدين من أهل السير والتأريخ، فقد خلت كتبهم من ذلك، مع أنه موضوع في غاية الأهمية وجدير بالذكر، بل المستفاد من سياق كلامهم إنكارهم له. واستشهد لما ذكره بخلو كتاب الإرشاد للشيخ المفيد(ره) عن ذكر حديث اللقاء، مع تعرضه لذكر خبر رجوعهم إلى المدينة، وتجهيز يزيد إياهم للرجوع إلى المدينة، ومرافقة النعمان لهم.
وكذا لم يتضمن تأريخ الطبري، ولا كامل ابن الأثير خبر اللقاء.
الثالث: لقد تضمنت المصادر التاريخية شرحاً مفصلاً لحركة سير السبايا من كربلاء، إلى الكوفة حتى ورودهم الشام، وأنهم ساروا من خلال الطريق السلطاني الذي كان معموراً وماراً بكثير من القرى والمدن المعمورة، وحينما يتأمل العاقل ويلاحظ السير من كربلاء إلى الكوفة، ومنها إلى الشام ثم إلى كربلاء، مع ملاحظة لبثهم أقل الأيام في الكوفة والشام، يعدّ رجوعهم في الأربعين من الممتنعات.
ولو لم يقبل بما ذكرنا من سلوك الطريق السلطاني، وبني على أنهم ساروا في البرية، وفي غربي الفرات، فإن ذلك لا يرفع الاستبعاد المذكور، لأن المسافة الفاصلة بين الكوفة والشام بخط مستقيم تساوي 175 فرسخاً، وقد كان وصولهم إلى الكوفة في الثاني عشر من المحرم، وعقد مجلس ابن زياد المشؤم في الثالث عشر منه، وسوف يحتاج القاصد إلى الشام للإتيان بإذن يزيد بحمل السبايا إليه، وفقاً لما ذكره السيد ابن طاووس من استئذان ابن زياد منه، مدة زمنية لا تقل عن عشرين يوماً، فإذا ضم إلى ذلك أن مدة إقامتهم في الشام كانت شهراً، وأنهم عقدوا مجلس العزاء بعد خروجهم من حبس يزيد سبعة أيام، وأنهم لبثوا عشرة أيام في منـزل يزيد، ثم سيرهم في غاية الإجلال والإكرام، والوقار ليلاً من الشام، لكانوا يحتاجون مدة 22 يوماً لو كانوا يقطعون كل ليلة ثمانية فراسخ، وهو مستبعد لوجود نساء وأطفال في القافلة، مضافاً إلى قلة المياه، ومع ضم ما ذكر بعضه إلى بعض، سوف يتأكد الامتناع المذكور.
ومن النافين لرجوعهم أيضاً المحدث القمي(ره)، فإنه بعدما نقل كلام السيد في التقاء الأسرة العلوية بجابر بن عبد الله الأنصاري في أرض كربلاء يوم العشرين من شهر صفر أثناء رجوعهم من الشام، قال: غير خافٍ أن ثقاة المحدثين والمؤرخين متفقون، بل روي السيد الجليل علي بن طاووس نفسه: أنه بعد استشهاد الحسين(ع) بعث عمر بن سعد برؤوس الشهداء أولاً إلى ابن زياد، وبعد ذلك بيوم بعث بأهل البيت إلى الكوفة، فأمر ابن زياد بحبسهم بعد أن شفى حقده منهم بالشماتة بهم والتشنيع عليهم، ثم كتب إلى يزيد يستشيره في أمرهم، فكتب إليه يزيد في الجواب أن يسيرهم إلى الشام، فجهزهم ابن زياد وبعث بهم إلى الشام.
ويتضح مما نقل عن مسيرهم إلى الشام من الكتب المعتبرة أنهم سيروا عبر الطريق الرئيسي، فمروا بمدن وقرى مأهولة، وقد نزلوا ما يقرب من أربعين منـزلاً، وبصرف النظر عن ذكر تلك المنازل نقول: إن مسيرهم كان من البرية وغربي الفرات يحتاج إلى ما يقرب من عشرين يوماً، ذلك أن المسافة بين الكوفة والشام تبلغ بالخط المستقيم مئة وخمسة وسبعين فرسخاً، كما توقفوا في الشام ما يقرب من شهر وفقاً لما قاله السيد في الإقبال.-إلى أن قال-وقد اعتبر السيد الأجل نفسه هذا الأمر مستبعداً، وعلاوة على أن أحداً من أجلاء فن الحديث والمعتمدين من أهل السير والتواريخ في المقاتل وغيرها، لم يشر إلى هذا الأمر، مع أن جهات لائقة أخرى أتت على ذكره، غير أنه يلاحظ من سياق كلامهم إنكارهم له، كما في كلام الشيخ المفيد في صدد مسير أهل البيت(ع) إلى المدينة، ويقرب من كلامه ما ذكره ابن الأثير والطبري والقرماني، وآخرون، وليس في كلام أي منهم ذكر للسفر إلى العراق[6].
ولا يخفى أن منشأ استبعاده يعود إلى أمرين:
الأول: قصر المدة الزمنية التي استغرقت في قطع المسافة المقدرة ما بين الشام وكربلاء، وهو يوافق ما ذكره السيد ابن طاووس، والعلامة المجلسي(ره).
الثاني: خلو المصادر المعتمدة في السيرة والتأريخ، والمقاتل عن ذكر حديث الالتقاء بجابر بن عبد الله الأنصاري في يوم العشرين من صفر سنة واحد وستين من الهجرة.
وهناك من النافين أيضاً الشهيد المطهري(ره) في كتابه الملحمة الحسينية، فلاحظ.
النحو الثالث: من خلت كلماتهم من الإشارة إلى حديث الوصول إلى كربلاء، فلم يذكروا رجوعهم إليها، وإنما اقتصرت كلماتهم على ذكر الرجوع من الشام إلى أرض المدينة. ومن هؤلاء، شيخنا المفيد(ره) في كتابه مسار الشيعة، والحلي(قده) في كتاب العدد القوية، والكفعمي(ره) في مصباحه.
وواضح جداً أن عدم ذكر الرجوع إلى كربلاء، لا يعني بالضرورة المنع من حصول الرجوع، بل لعل الظاهر أنهم بصدد بيان المخطط الأساس لحركة الأسرة العلوية، فإن المستفاد من رواية الرجوع أنهم كانوا قاصدين الذهاب إلى أرض المدينة، وفي مفترق الطريق طلبت مولاتي السيدة الحوراء(ع) من الإمام زين العابدين(ع) أن يعرج بهم على مصارع قتلاهم، فلاحظ.
هذا وقد عرفت بعد عرض الأنحاء الثلاثة لكلمات أصحابنا، أن موجب التشكيك في مجيء القافلة العلوية إلى أرض كربلاء يوم العشرين من صفر والتقائها بجابر بن عبد الله(رض)، يعود إلى أن الوصول إلى كربلاء يحتاج مدة زمنية لا تقل عن ثلاث وعشرين يوماً، لأن المسافة من بلاد الشام إليها تساوي خمسمائة وخمس وخمسين ميلاً، ولو قيل بالجد في المسير ليلاً ونهاراً، لن تقل المدة الزمنية المقدرة لقطع هذه المسافة عن أحد عشر يوماً، وهذا يتنافى مع الوصول في يوم العشرين من شهر صفر.
نعم ربما ذكر أمران آخران، يمنعان من القبول برواية الوصول واللقاء بجابر بن عبد الله الأنصاري، وهما:
الأول: وقت خروج القافلة من الشام، فإن المحكي عن غير واحد من أعلامنا كالشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والعلامة الحلي، والكفعمي، أن وقت خروجها من بلاد الشام كان يوم العشرين من شهر صفر.
الثاني: لقد اختلفت الأقوال في مدة بقاء العائلة العلوية في بلاد الشام، وأقل تلك الأقوال أنها مكثت مدة عشرين يوماً، فإذا كانت وصول القافلة في غرة صفر كما نصت كتب السير والتواريخ، وكان مدة مكثها عشرين يوماً، فذلك يعني أن خروجها منها في يوم العشرين من صفر، وهذا يمنع من ملاقاتها في أرض كربلاء مع جابر بن عبد اله الأنصاري يوم العشرين من صفر.
هذا ولا يخفى أن الكلمات المتقدمة للمستبعدين لحديث الرجوع واللقاء، تضمنت تقدير المدة الزمنية التي يحتاجها المسافر لقطع المسافة المقدرة، على أساس ملاحظة تلك المسافة. وعلى أساسها بنوا استبعادهم.
وهذا يعني أنه لو وجد طريق آخر يمكن من خلاله الوصول من أرض الشام إلى أرض كربلاء، في مدة زمنية أقل، فلن يكون هناك ما يوجب الاستبعاد المذكور كما أشرنا.
وقد ذكر السيد الأمين(ره) في الأعيان وجود طريقين يربطان بين الشام والعراق، ويمكن للسالك من خلالهما الانتقال من الشام إلى العراق في مدة زمنية لا تزيد على الثمانية أيام، ولا تقل عن السبعة.
أما الطريق الأول: فهو ما يسلكه أعراب العقيل، وهو طريق مستقيم بين الشام والعراق، يقطع سالكه المسافة في مدة زمنية تستغرق سبعة أيام.
وأما الطريق الثاني، فهو الطريق الذي يسلكه أعراب صليب، وهو من حوران الواقع في قبلة دمشق، وقد كان المدة الزمنية التي يستغرقونها في قطعهم المسافة من الشام إلى العراق تساوي ثمانية أيام.
وأما ما أصرّ عليه المحدث النوري، ومن قبله تمسك به السيد الجليل ابن طاووس، ووافقهما المحدث القمي(ره)، من أن هناك رحلة مرسول من ابن زياد إلى يزيد يستأذنه في إرسال السبايا إلى الشام، ومن الطبيعي أن هذا يحتاج مدة زمنية ليست بالقليلة.
فيمكن دفع الاستبعاد المذكور من خلال ذكر شواهد تؤكد إمكانية قطع المسافة المذكورة، بل أطول منها خلال مدة زمنية أقل مما قدر لها في كلمات المستبعدين:
الشاهد الأول: ما ذكره الطبري من أن بسر بن أرطأة أمهل أبا بكر أن يذهب من الكوفة نحو الشام ويرجع خلال أسبوع، فصار ذهابه إلى معاوية وإيابه إلى بسر في سبعة أيام، فيعلم من ذلك أنه ذهب من الكوفة إلى الشام في ثلاثة أيام، ونصف ومثل ذلك كان الرجوع، ومن المعلوم أن مرسول ابن زياد لابد وأن يكون حاث السير حتى يوافي سيديه، سواء من كان منهما في الشام، أم من كان منهما في الكوفة، وعليه لن يكون محتاجاً إلى تلك المدة الزمنية التي تضمنتها الكلمات السابقة، بل يمكنه أن يذهب ويعود خلال هذه المدة، وربما أقل، فلاحظ.
الشاهد الثاني: ما ذكر في نجاة المختار من الحبس، فقد ذهب عميرة حاملاً رسالة عبد الله بن عمر زوج أخت المختار إلى يزيد، وأخذ كتاب استخلاصه منه، وتوجه نحو الكوفة، وسار الطريق في أحد عشر يوماً إلى أن وصلها.
الشاهد الثالث: وصول خبر موت معاوية إلى المدينة في مدة زمنية لا تزيد عن أسبوع، لأن المنقول تاريخياً أن موته كان في الخامس عشر من شهر رجب، وقد كان خروج الإمام الحسين(ع) من المدينة في الثامن والعشرين منه، بعد امتناعه عن بيعة يزيد، وهذا يعني أن المدة الزمنية المستغرقة كانت ثلاثة عشر يوماً، ومن الطبيعي جداً أن الإمام(ع) لم يخرج مباشرة، وإنما كان بينه وبين الوليد محادثات وفقاً ما نقل تاريخياً، وهذا يعني أن البريد وصل إلى المدينة في مدة لا تزيد على اثني عشر يوماً، بل ربما أقل، وكلنا يعلم أن المسافة من الشام إلى المدينة أطول وأكبر من المسافة بين الشام والعراق، فلاحظ.
الشاهد الرابع: خروج الإمام الحسين(ع) من مكة، وقرب وصوله إلى أرض الكوفة، فإن المدة المستغرقة كانت 24 يوماً، والمسافة المقدرة بين الكوفة ومكة 380 فرسخاً، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن سيره(ع) لو لم يكن بطيئاً، فلا ريب في أنه لم يكن سريعاً، بل ربما كان دون المعتدل، وأنه(ع) كان يتوقف في بعض المنازل، فسوف يكون مقدار ما يقطه في اليوم الواحد يعادل 15 فرسخاً، فكيف بمن يخرج حاثاً السير مسرعاً.
الشاهد الخامس: ما تضمنه غير واحد من المصادر التاريخية في بيان تأريخ خروج الأسرة العلوية من أرض الكوفة، ودخولهم إلى أرض الشام، فقد ذكر أن خروجهم من الكوفة كان يوم الخامس عشر أو في العشرين من شهر محرم، وقد كان ورودهم الشام في غرة شهر صفر المظفر، وهذا يعني أنهم قطعوا المسافة بين الكوفة والشام خلال مدة زمنية مقدرة ما بين العشرة أيام، والخمسة عشر يوماً.
فتحصل إلى هنا أنه لا يوجد ما يوجب استبعاد وصول العائلة العلوية إلى أرض كربلاء المقدسة يوم العشرين من شهر صفر سنة 61 من الهجرة النبوية، والتقائهم بالصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري(رض).
وأما ما تضمنه كلام المحدث النوري، والمحدث القمي(ره) من عدم ورود ذكر لمثل هذه القضية في جملة من كتب التواريخ والسير والمقاتل المعتبرة، فإن هذا يستوجب تحديد عنوان اعتبار الكتاب، لأن ما ربما يكون معتبراً عندهما لا يكون معتبراً عند غيرهما، والعكس كذلك. على أنه قد ذكر خبر اللقاء في كتاب اللهوف، وفي مقتل ابن نما، وفي توضيح المقاصد للشيخ البهائي، وجلاء العيون للسيد أبي طالب، وينابيع المودة للقندوزي. وكذا ذكر ذلك عن أبي الريحان البيروني، وكفى أنك سمعت نقل غواص بحار الأوار(ره) أنه المشهور بين أصحابنا، فلاحظ.
وأما الوجهان الآخران اللذان يذكرا لإثبات الاستبعاد المذكور أيضاً، فيجاب عن أولهما:
بأن المعروف أن دخول العائلة العلوية إلى أرض الشام كان في غرة شهر صفر، وتحديد وقت خروجهم منها يستدعي تحديد مدة بقائهم فيها، وقد أختلف في ذلك، فقد ذكر الشيخ المفيد(ره) في الإرشاد أنهم قد أقاموا أياماً[7]، ومثل ذلك قال الشيخ الطبرسي(ره) في كتابه أعلام الورى[8]، وقيل أن مدة مكثهم فيها شهراً كما عن السيد ابن طاووس(ره)[9]. وذكر القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي أنهم أقاموا فيه شهراً ونصف[10].
وذكر العلامة المجلسي(ره) عن بعض كتب أصحابنا مرسلاً أن مدة بقائهم كانت قريب عشرة أيام[11].
ولا يخفى أن ملاحظة المذكور في المصادر التاريخية من أن يزيد لما خشى الفتنة وخاف انقلاب الأمر عليه، عجل بإخراج الإمام زين العابدين(ع)، والعيال من الشام إلى وطنهم ومقرهم، ومكنهم مما يريدون، يتنافى والقبول بما ذكره القاضي النعمان، وكذا السيد ابن طاووس، ويقوي بل يعين تحديد مدة البقاء بأيام محدودة، وهي ما أشير له في كلمات غواص بحار الأنوار بعشرة أيام.
ومنه يتضح أن تحديد وقت خروجهم بيوم العشرين من صفر كما هو المذكور في هذا الوجه، وحكايته عن غير واحد من الأعلام، سوف يستدعي أن يكون دخولهم إلى الشام ليس في غرة شهر صفر، إذ قد عرفت أن يزيد خاف فعجل بخروجهم، وهذا أمر طبيعي فإن كل من قرأ الأحداث التي وقعت في أرض الشام يتجلى له ذلك واضحاً بدأ بدخول السبايا إليها، مروراً بما جرى في مجلسه، وما تابع ذلك من أحداث، خصوصاً بعدما ألقى الإمام زيني العابدين(ع) خطبته، وكيف أن يزيد كان يعلم أنه لن ينـزل إلا بفضيحته وفضيحة آل أبي سفيان. بل قد ذكر أن يزيد أظهر الندامة وبكى وعلق الأمر على ابن زياد وأنه الذي قتل الحسين وهو لم يأمره بذلك، كما أن بيت يزيد قد تفاعل كثيراَ مع القضية الحسينية، فأبرزت زوجته كثيراً من الاعتراض عليه، فلاحظ.
وبالجملة، فلو سلم بأن خروجهم من الشام كان في العشرين من صفر، فيلزم من ذلك أن يكون ورودهم إليها ليس في غرته، بل في تأريخ آخر، وهذا ما لم نجد له عيناً ولا أثراً في المصادر التاريخية، فلاحظ.
على أنه لا يسلم بظهور ما حكي عن شيخنا المفيد في كون رجوع حرم آل الرسول من الشام إلى المدينة في يوم العشرين من صفر يعني أن خروجهم منه كان يوم العشرين، ذلك أننا قد أشرنا في ما تقدم أن القصد إلى كربلاء المقدسة لم يكن في مخطط الأسرة العلوية، ولم يكن مقرراً لما كان مرافقاً لهم، بل كان الخروج من الشام يقصد به الوصول إلى المدينة، ولما وصلوا مفرق طريق طلب منه التعريج على كربلاء، فيكون وجود كربلاء في وسط المسيرة بمثابة القاطع للمسيرة، فيكون خروجهم منها إلى المدينة المنورة مواصلة لنفس حركة السير الأساسية المعنية في بداية الرحلة، وهذا يعني صدق عنوان خروجهم من الشام إلى المدينة في يوم العشرين، بمعنى استمرار المسير إليها منها، وليس يعني ذلك ابتداء حركة السير من الشام قاصدين المدينة، فلاحظ.
ومما ذكر جواباً عن الأمر الأول يتضح الجواب عن الأمر الثاني، فلا نعيد.
هذا وربما يمنع من القبول بخبر اللقاء والورود إلى أرض كربلاء يوم العشرين من صفر سنة 61 ه، تمسكاً بأمور[12]:
منها: إن الخبر الذي يرويه عطية العوفي، والذي يتضمن زيارة جابر بن عبد الله الأنصاري(رض) الأولى لقبر الإمام الحسين(ع) لم تتضمن ذكراً لخبر اللقاء أصلاً، وهذا يؤكد أن اللقاء بينه وبينهم كان في الزيارة الثانية.
وجوابه واضح، فإن عدم نقل بعض المصادر التاريخية لحادثة اللقاء، لا تعني عدم وقوعها في الزيارة الأولى، بل ربما كان موجب عدم الذكر تقطيع الخبر ونقل ما يعتقد المؤرخ صحته، والاعتماد عليه، وذلك لظنه استحالة وصول القافلة العلوية إلى أرض كربلاء خلال تلك المدة الزمنية، وهذا أمر مألوف عند المحدثين، فيعمد إلى نقل ما يرتأيه ويقبل به من النص، ويرفع يده عن الباقي، فلاحظ.
الثاني: تضمنت بعض النصوص التاريخية ، كخبر الطبري، والسيد ابن طاووس والخوارزمي أنه لم يكن هناك أحد غير جابر وعطية، مع أن خبر اللقاء يشتمل على وجود جماعة من بني هاشم، مضافاً للعائلة العلوية.
وهذا الوجه عهدته على مدعيه، فإن كلام الطبري، وكذا السيد ابن طاووس، بل والخوارزمي، لا يظهر منهم شيء مما ذكر، فضلاً عن أن يكون مستفاداً منهما، وللقارئ العزيز المراجعة، فيلاحظ كلام الطبري في بشارة المصطفى[13]، وكذا كلام السيد ابن طاووس في مصباح الزائر[14]، وكذا الخوارزمي في مقتله.
الثالث: لقد نص العلماء على كون أول من زار الإمام الحسين(ع) هو جابر بن عبد الله الأنصاري، وهو لا يتناسب ووجود جماعة من بني هاشم عند القبر الشريف.
والجواب، بأن المقصود أن أول من زاره من غير ذويه وقرابته، هو جابر بن عبد الله الأنصاري، وليس أول من زاره على الإطلاق، فتدبر.
ولنختم الحديث بأن مسألة رجوع السبايا إلى أرض كربلاء، ولقائهم بجابر بن عبد الله الأنصاري تبقى مسألة تأريخيه تخضع عادة إلى مقومات البحث في المسألة التاريخية، وهذا يعني إمكانية الاختلاف فيها بين الباحثين، ولن يكون ذلك الاختلاف موجباً لخلل في المنكر، أو في المثبت، ما دام من أنكر أو من أثبت قد عمد إلى مناقشة المسألة وفقاً للأسس العلمية الصحيحة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع لما يحب ويرضاه، والله سبحانه العالم بحقائق الأمور.
[1] الآثار الباقية ص 321.
[2] توضيح المقاصد ص 6.
[3] بحار الأنوار ج 101 ص 334.
[4] إقبال الأعمال ج 3 ص 100.
[5] بحار الأنوار ج 101 ص 334.
[6] منتهى الآمال ج 1 ص 620-721.
[7] الإرشاد ج 2 ص 112.
[8] أعلام الورى ج 1 ص 475.
[9] إقبال الأعمال ج 3 ص 101.
[10] شرح الأخبار ج 3 ص 269.
[11] بحار الأنوار ج 45 ص 196.
[12] مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة ج 6 ص 316.
[13] بشارة المصطفى ص 74.
[14] مصباح الزائر ص 286.