التوقعات من الدين (1)

لا تعليق
محرم الحرام 1442 هـ
150
0

التوقعات من الدين (1)

 

قال تعالى:- (وما أمروا إلا ليعبدوا الله له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة).

عندما يكون الحديث عن الدين تأتي مجموعة من التساؤلات، ومن أهمها: ماذا نتوقع من الدين، وهل تنحصر الحاجة للدين في تحصيل النجاة في عالم الآخرة، أم أن له علاقة بهذه النشأة أيضاً؟ وهل الدين والتدين شيئان، أم هما شيء واحد؟ حتى يجاب عن هذه التساؤلات، نتحدث ضمن مقدمة ومحاور ثلاثة.

 

المقدمة: تعريف الدين:

هناك عدة تعريفات ذكرت للدين، فقد عرفه المفكرون الغربيون بتعريفات متعددة، حيث عرفه شلاير ماخر بأنه موضوع للتجربة. وعرفه سبنسر بتعريف آخر، وقال ريناخ بتعريف ثالث.

وعرفه الحكماء والمتكلمون المسلمون بتعاريف أخرى، فلاحظ تعريف السيد العلامة الطباطبائي(ره)،  وغيره.

وقبل عرض تعريف الدين لابد من الالتفات إلى أن المقصود منه عندنا هو الشرائع والأديان الإلهية التي يكون لها منشأ واقعي.

 

وكيف ما كان، فإنه يمكن عرض تعريفين للدين:

الأول: الدين عبارة عن مجموعة من العقائد المطابقة مع الواقع، والأحكام العملية والأخلاقية التي لها دور وتأثير في إيصال الإنسان إلى الكمال والسعادة الحقيقية.

ووفقاً لهذا التعريف، نجد أن الدين يتشكل من أقسام ثلاثة:

1-العقائد الحقة.

2-الأخلاق.

3-الأحكام الشرعية.

 

وتعتبر العقائد أساس الدين والأخلاق والأحكام العملية ناشئة عن ذلك الأساس، ويمثل التوحيد أهم الأصول الاعتقادية.

 

الثاني: الدين: هو ما أنزله الله سبحانه وتعالى على نبيه، وأوكل إليه وإلى أوصيائه بعده بيانه.

ووفقاً لهذا التعريف سوف يتشكل الدين من أقسام أربعة:

1-العقائد.

2-الأخلاق.

3-الأحكام.

4-الحقائق التاريخية والأمور الطبيعية وأمثال ذلك.

 

وقد استعمل الدين في القرآن الكريم في معاني متعددة، أحدها أنه النظام المعرفي والقيمي الإلهي الحق، كما يشير لذلك الآية الشريفة التي افتتحنا بها المقام.

 

المحور الأول: منشأ الدين:

ما هو منشأ الدين؟

ربما يتعجب القارئ عند قراءته للسؤال عن منشأ الدين، وذلك لبنائه على أن الدين لا أصل له إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يتصور أن يكون له مصدر آخر.

لكن هذا التعجب والاستغراب يزول عندما يعلم أن هناك نظريات ترفض إلهية الدين، وترجع ظاهرة التدين عند الإنسان إلى عوامل نفسية أو اجتماعية مثل العقد النفسية.

وقبل عرض بعض النظريات الموجودة حول نشأة الدين، يحسن التنبيه إلى أنه عند الرجوع إلى بعض الدراسات لبعض المفكرين الغربيـين، نجدهم يخلطون بين سؤالين:

الأول: ما هو منشأ ظهور الدين وتحققه في الخارج.

 

الثاني: ما هي أسباب النـزوع إلى الدين، وما هي العوامل النفسية والاجتماعية التي دفعت الإنسان إلى الميل نحوه، ونحو المعتقدات الدينية.

ومنشأ الخلط يعود إلى أن السؤال الأول سؤال فلسفي كلامي ناظر إلى حقيقة الدين، أما السؤال الثاني، فإنه سؤال نفساني واجتماعي، نظره إلى ظاهرة التدين، ولا نظر فيه إلى الدين أصلاً.

ونتيجة وجود هذا الخلط عند بعضهم نجد جملة من المفكرين الغربيـين يجيبون عن السؤالين بجواب واحد.

 

وعلى أي حال، فلنشر لبعض النظريات المطروحة في المقام لبيان منشأ الدين:

النظرية الأولى: نظرية الطبقات الاجتماعية:

وهي النظرية التي طرحها كارل ماركس، وحاصلها أن الدين قد وجد من أجل أن تحتفظ الطبقة الستثمرة بامتيازاتها ومكانتها وسلطتها بين الشعوب. وبيان كيفية نشأة الدين وفقاً لهذه النظرية أن يقال:

لما كان الأمر المتداول بين الناس في المجتمعات يقوم على الأطروحة الشيوعية الأولى، والتي تفيد اشتراك الجميع وعدم حصول التمايز بين الأفراد، لم تكن هناك حاجة لوجود الدين، فلما وجدت الرؤية الرأسمالية ووجدت الطبقة الغنية ووجدت الطبقة الكادحة والفقيرة، احتاج الأغنياء إلى حماية ورعاية من الطبقة الكادحة والفقيرة المحرومة حتى لا تثور عليها، فكانت الحاجة إلى الدين، لأنه سوف يرسخ في أذهان الطبقة الكادحة والفقيرة المحرومة أن هذا الاختلاف الطبقي والتفاوت المعيشي بين أفراد المجتمع الواحد أمر طبيعي، يرتبط بالله سبحانه وتعالى، وليس لفرد فيه علاقة من قريب أو بعيد.

 

وهذا ما يعبر عنه بالتسليم بقضاء الله تعالى وقدره، ورضا العبد بما قدره ربه إليه، فلا يحق له رفضه والقيام بالاعتراض عليه أو مخالفته، أو العمد إلى تغيـيره واستبداله، لأنه ليس للإنسان يد في ذلك، ولا يمكنه ذلك أبداً.

وإنما المطلوب من الطبقة الكادحة والمحرومة والفقيرة هو الصبر والرضا بهذا القضاء والقدر، والقناعة بما أراده الله سبحانه وتعالى لهم، لأنه سبحانه قد قدر للطبقة الغنية أن تكون كذلك، وفي نفس الوقت قدر للطبقة الكادحة أن تكون محرومة ومحتاجة.

والحاصل، إن هذه النظرية تقرر أن الدين مجرد أداة ابتدعتها الطبقة البرجوازية والمستفيدة في المجتمع من أجل حماية نفسها، وضمان سلامتها، ويكون دور الدين في حياة المحرومين دور المسكن والمخدر لهم أمام واقعهم البائس، ولهذا قال ماركس كلمته المشهورة: الدين أفيون الشعوب.

 

والتدقيق في أطروحة ماركس ونظريته حول نشأة الدين، يكشف عن أنه تارة يعتبر الدين صنيعة أيدي أصحاب السلطة والسطوة من أجل نهب الفقراء، والمعدمين. وأخرى يعدّه ضرباً من ضروب السلوك الدفاعي الذي تمارسه الطبقة الفقيرة من أجل تبرير أوضاعها البائسة، ورفع مستوى تحملها رغبة في أن تحصل على الجنة الموعودة يوماً ما.

 

ومن الواضح أن نتيجة هذه النظرية أن الإنسان هو من يصنع الدين من أجل تبرير شيء ما، إما لتسخير الدين لنهب ممتلكات الفقراء، أو من أجل الدفاع عن بقاء الإنسان على حاله، كما يمارس ذلك الفقراء دون سعي لتغيـير واقعه الذي يعيشه، ومحاولة الاعتراض عليه ورفضه.

 

وهناك عدة ملاحظات على نظرية ماركس التي ذكرها بياناً لنشأة الدين، نكتفي بذكر اثنتين منها:

الأولى: لقد خلط ماركس بين الدين والتدين، ومن المعلوم أن تقيـيم حالة المتدينين لا توجب نفي الدين، أو إثباته، فوجود هذا المنهج والأسلوب في بلد ما، لا يستدعي جريانه في كافة البلدان والمناطق الأخرى.

الثانية: لابد من معرفة موقف الدين من الانحراف الاجتماعي، وكيفية تعامله معه، والمعروف أن للدين موقفين في المقام:

الأول: موقف تحليلي.

الثاني: موقف تغيـيري.

أما الموقف الأول، وهو الموقف التحليلي:

فيتمثل في تحليل الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى استغلال الإنسان وانحرافه وتفسير تلك الأسباب والعوامل، وهذا غير التبرير، لأن التبرير يعني إيجاد المبررات الشرعية للوضع القائم. أما التفسير فهو متابعة الجذور والعوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى ظهور الانحراف.

 

وقد أوهم أصحاب نظرية الطبقات الاجتماعية الآخرين أن الدين أداة لتبرير الواقع الاجتماعي من خلال تفسير الواقع في الدين بالقضاء والقدر، وجعلوا ذلك التفسير الوحيد لجميع ضروب الفساد والتحلل الاجتماعي.

ونحن لا ننكر دور القضاء والقدر الإلهي في القضايا الخارجية، لكن ذلك لا يلغي دور الانسان فيها، فللإنسان حرية الاختيار والتصرف فيمكنه هو باختياره وضع نفسه في الموضع الذي يشاء من الأسباب والعلل الكونية التي تنفذ فيها المشيئة الإلهية.

ولا توجد منافاة بين اختيار الانسان وحتمية النتائج التي يؤدي إليها اختياره، لأن حتمية النتائج لا توجب سلب اختياره في تحديد ما يشاء من طريق.

 

وعليه، مجرد الإيمان بالقضاء والقدر لا يبرر وجود فوارق وامتيازات طبقية في مجتمع ما، كما لا يبرر وجود تخلف حياتي في أي مجال من مجالات الحياة كالاقتصاد والتعليم والصحة وغير ذلك.

نعم وظيفة نظرية الإيمان بالقضاء والقدر إعطاء تفسير كامل للأحداث الكونية والاجتماعية وربطها بالقضاء والقدر، ليكون تفسيراً للأحداث الاجتماعية من خلال ربطها بالقضاء والقدر، وليس تبريراً لها.

 

وأما الموقف الثاني، وهو الموقف التغيـيري، فإن الدين يمنع حصره في مجرد تمني الفرد لحياة رغيدة ويشجب الفساد الاجتماعي من خلال الاقتصار على الأمنيات الطيبة.

إن الدين يدعو إلى التخطيط والتغيـير للواقع الاجتماعي الفاسد، ويحث على بناء مجتمع متكامل في ضوء الشريعة الإلهية ورسالة السماء، وهذا ما طبقه الإسلام على أرض الواقع، فقد قام النبي الأكرم محمد(ص) بالعمل على تغيـير الواقع الجاهلي في كافة نواحيه، ابتداءً من الانحراف الديني الذي كان عليه هؤلاء بابتعادهم عن الشريعة، وكذا استغلالا لفوارق الطبقية في المجال الاقتصادي والاستغلال للإنسان بصورة سلبية، وذلك من خلال دعوتهم لترك الانحراف الديني والسعي لاستعادة كرامة الإنسان وإنسانيته وقيمته وحقه في تقرير مصيره.

 

ولذلك نجد الإسلام قد ألغى جميع الفوارق والامتيازات الطبقية المعروفة في الجاهلية، وجعل المعيار في التمايز على قانون التقوى، قال تعالى:- (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

وقد دعاهم إلى التعاون على البر، ومدّ يد العون للضعفاء والمحتاجين وتقديم الخدمات الاجتماعية، فقال سبحانه:- (وتعانوا على البر والتقوى)، وغير ذلك مما يقف عليه كل من راجع سيرة رسول الله محمد(ص)، ونهضته التغيـيرية التي قام بها في المجتمع العربي.

 

النظرية الثانية: نظرية الجهل:

وهو التي أسس لها كل من كونت وسبنسر، وحاصلها:

يعتقد بعضهم أن العامل الأساس الأساس لوجود الدين يعود إلى جهل البشر، لأن الإنسان بطبعه يميل إلى معرفة العلل والقوانين الحاكمة في الكون وفي حوادثه، وبسبب جهله بها وعدم قدرته على معرفتها يعمد إلى نسبتها إلى ما رواء الطبيعة، ويقرر أن وراءها الآلهة، فيحيل الموضوع إلى جملة من العوامل الغيبية، فهو لا يعرف سبب انتشار الأراض والأوبئة، ويجهل سر الزلازل والبراكين والهزات الأرضية، ولم يقف على سبب حصول الفيضانات والانفجارات، وهكذا. ولهذا أرجع جميع هذه الأمور للعوامل الغيبية وربطها بالآلهة بعدما وجد نفسه عاجزاً عن إيجاد تفسير لها.

 

وقد فرّق الإنسان بين الأحداث فجعل سبب حصول بعضها كالفيضانات والزلال وانتشار الأوبئة هو سخط الآلهة، فإنها متى كانت ساخطة على الإنسان فإنها تصيبه بهذه الأمور. أما لو كانت راضية عنه، فإنه سوف ينعم بالخير والبركة.

ووفقاً لهذه النظرية، فإن الحاجة للدين والرغبة فيه، سوف تنتفي إذا زال الجهل وحل محله العلم بالعلل الطبيعة، مع أن التجربة تتناقض مع مفاد هذه الرؤية، فإن هناك شخصيات علمية مرموقة قد آمنت بالدين، مثل: آينشتاين، بلانك، جيمس، برغسون، داروين، وغيرهم، فإنهم مع ما كانوا عليه من العلم، فقد كانوا في نفس الوقت مؤمنين بالدين، هذا أولاً.

 

ثانياً: إن النظرية المذكورة تقوم على أساس وهو وجود تضاد بين الإيمان بخضوع الأحداث الطبيعية لإرادة الله سبحانه وتعالى، وبين حصولها بأسباب وعلل طبيعية معروفة أو مجهولة، وهم بهذا يقررون أن العلم بالأسباب الطبيعة للأحداث الكونية يطرد الإيمان بخضوع هذه الأحداث لإرادة الله تعالى، لأن العلم والإيمان لا يجتمعان، فيكون العلم طارداً للإيمان وبالعكس.

 

فإذا ثبت عدم وجود تناقض بين الإيمان والعلم، لأن إسناد جميع هذه الأحداث إلى الإرادة الإلهية لا يسلبها مدخلية الأسباب الطبيعية التي توجب حصولها، كما أنه لا ينفي الاحتماء منها وتكييفها بطرق علمية، ما يعني عدم وجود منافاة ولا مطاردة بين العلم والإيمان، بل الأمر على العكس تماماً، فإن العلم يضاعف الإيمان وينميه، وكلما يزداد الإنسان علماً يزداد إيماناً بسلطان الله سبحانه وتعالى وحكمته، وكماله، ويزداد خوفاً وخشية منه سبحانه، فلا تكون النظرية المذكورة صحيحة.

 

ولهذا نجد أن المعصومين(ع) تزداد الخشية عندهم لله سبحانه وتعالى بسبب ما يملكونه من علم ومعرفة، وقد برز هذا جلياً في شخصية الإمام الحسين(ع) يوم عاشوراء، فقد ورد في الروايات أن وجهه(ع) كان يزداد إشراقاً ونوراً وضياءاً  كلما ازدادت المحن وتوالت المصائب.

 

 

 

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة