قول الفلكيـين في ثبوت الهلال

لا تعليق
خواطر حوزوية
160
0

قول الفلكيـين في ثبوت الهلال

 

لم يتعرض قدماء أعلام الطائفة(رض) إلى الحديث حول حجية قول الفلكي في ثبوت الهلال بصورتها العلمية الموجودة عليها اليوم، نعم الموجود في كلماتهم البحث حول مشروعية الأخذ بالحساب في ثبوت الهلال وعدمه، وهو قريب من محل البحث، كما يوجد في كلماتهم البحث عن شرعية قول المنجمين، وكذلك الأخذ بالمراصد، وهذا يظهر لكل من لاحظ كلماتهم(ره).

 

وعلى أي حال، فقد اتفقت كلمات القدماء على عدم حجية قول الفلكي، نعم لم يتضح أن ذلك يشير إلى رفض مطلق منهم لقوله، أم أنه مقيد بحال عدم إفادة العلم، وإفادته للظن فقط، وذلك لأن بعض العلماء ظاهره رفض قول الفلكي بشكل مطلق حتى لو أفاد قوله العلم، بينما ظاهر آخرين أن الرفض لقوله لأنه لا يفيد إلا الظن بحيث يظهر منه أنه لو أفاد قوله العلم كان مقبولاً.

 

ويكشف هذا الاختلاف الحاصل بينهم في تحديد منشأ المنع من الحجية عن عدم كون المسألة إجماعية بينهم، خصوصاً وأن معقده لو كان متحققاً مردداً بين البناء على رفض قول الفلكي مطلقاً حتى في صورة إفادته العلم وبين حصر رفضه في حال أفاد الظن، فلا يصح الاستدلال به على عدم حجية قوله لو كان مفيداً للعلم.

 

ومع القول بأن ظاهر المجمعين هو خصوص ما إذا أفاد قول الفلكي الظن، أو أن هذا هو القدر المتيقن من الاجماع، فإنه لن يحتاج الأخذ بهذه النتيجة إلى دليل، لأن الأصل عدم حجية الظن، فلا يحتاج الأمر إلى اجماع حتى يحتج به.

وعلى فرض رفع اليد عما تقدم، فإن الإجماع المذكور لو سلم بتوفره، لو لم يكن مدركياً فلا أقل من كونه محتملها، ما يمنع من حجيته.

 

ولا ينبغي البناء على منع حجية قول الفلكي مطلقاً، بل لابد من التفصيل بين موردين:

الأول: أن يقتصر الصادر من الفلكي على مجرد الإخبار عن خروج القمر من المحاق، فلا يكفي ذلك للتعويل على كلامه في إثبات الهلال.

الثاني: أن يخبر الفلكي بتحقق الولادة، وبقاء الهلال مدة يمكن معها رؤية الهلال بالعين المجردة، وقد حصل الاطمئنان من شهادته، فإنه لا مانع من التعويل على الإخبار الصادر عنه ولو من جهة عدم الاختلاف الحاصل بين الفلكيـين في ذلك.

ولا يخفى أن الحجية في المورد الثاني للاطمئنان وليس لقولهم، وإنما قولهم أحد أسباب توليده.

 

وقد استشكل بعض المقدسين(ره) في عدم الأخذ بقول الفلكي إذا اتفق مهرة الفن، وكانوا أهل خبرة[1]. وهو ظاهر في القول بحجيته ولو لم يفد علماً، بل لأنه من أهل الخبرة.

ولعل هذا هو الظاهر من كلام بعض الأساطين(قده)، لتعليله المنع من ثبوت الهلال بقول المنجمين بعدم الدليل عليه بعد عدم إفادته العلم[2]. وهو ظاهر في أنه لو أفاد العلم أمكن الأخذ بقولهم لحجية العلم كما لا يخفى. نعم يختلف من حيث منشأ الحجية عن كلام بعض المقدسين(ره)، لأن بعض الأساطين(قده) جعل الحجية للعلم، بخلاف بعض المقدسين(ره)، فإنه بنى على حجية الظن الناجم من قول أهل الخبرة.

ولبعض الأعاظم(ره) في بعض استفتاءاته ما يفيد منع حجية قول الفلكي مطلقاً ولو أفاد العلم، فقد سئل(قده): لو حصل الاطمئنان الشخصي بصحة الحسابات الفلكية لتوليد الهلال، فهل يمكن الاعتماد على هذا الاطمئنان في إثبات أول الشهر، أو العيد مثلاً؟ وخاصة إذا صدرت عن أهل الخبرة في هذا المجال.

 

فأجاب: لا أثر للاطمئنان بتولد الهلال، بل ولا للاطمئنان بقابليته للرؤية، بل لابد من الرؤية خارجاً وثبوتها للمكلف[3].

وهذا مبني على مختاره(ره) في حقيقة الشهر القمري الشرعي، كما سيتضح من أنه يعتبر فيه حصول الرؤية الحسية فعلاً بالعين المجردة، ولا يكفي مجرد إمكانها.

 

أدلة المانعين من الحجية:

ولو تمت فإنها تشكل مانعاً من حجية قوله، لو بني على توفر المقتضي لحجيته، وكيف ما كان، فقد استدل المانعون من حجية قول الفلكي بأمور:

الأول: ما ورد من نهي عن النبي الأكرم محمد(ص)، من الأخذ بقول المنجمين، فقد قال(ص): من صدّق كاهناً أو منجماً فهو كافر بما أنزل على محمد(ص)[4]. وتقريب الاستدلال به يعتمد على توفر أمرين:

الأول: أن يكون إخبار الفلكيـين نوعاً من أنواع التنجيم.

الثاني: أن يكون المقصود من الكفر في الخبر معناه الحقيقي، وهو الخروج من الدين.

وعليه، يكون مفاد الخبر عندها أن من استند إلى فلكي من الفلكيـين مطلقاً وفي أي موضوع من الموضوعات كان كافراً بمحمد(ص).

 

ويمنع من صحة الدليل المذكور، أولاً: ضعف الخبر سنداً بالإرسال، فإن المنقول عنه وهو المحقق(ره) في المعتبر لم يذكر سنده، ما يوجب الشك، بل المنع من تحقق صدوره المانع من الاستناد إليه.

ثانياً: إن هناك فرقاً بين علمي التنجيم والهيئة الذي منه إخبار الفلكيـين، ذلك أن التنجيم عبارة عن الحكم بالنظر في النجوم والاعتقاد بارتباط حياة الإنسان بها من الصحة والمرض والسعادة والشقاء، وغير ذلك، وإن لم يخبر بذلك، كما أن المنجم يزعم إحاطته بحظوظ الناس ومصير حياتهم ومستقبلهم من خلال نظره في النجوم. وليس الأمر كذلك بالنسبة لما يصدر عن الفلكي، لأنه يقوم بعملية الرصد والمسح للسماء، ودراسة قوانين حركات الأجرام السماوية ومداراتها، ويجري القياسات والاختبارات والحسابات المتعلقة بها.

 

وقد أشار إلى هذا بعض المعاصرين(حفظه الله)، قال: إن علم النجوم في مصطلح القدماء هو العلم بآثار حلول الكواكب في البروج والدرجات وآثار مقارناتها وسائر أنوارها. والتنجيم هو الحكم بمقتضى تلك الآثار، وهذا هو الذي طرحه الفقهاء في المكاسب المحرمة، وأساسها يرجع إلى تأثير الأوضاع العلوية في الحوادث السفلية بصورها المختلفة.

 

وأما علم النجوم في مصطلح اليوم، فهو عبارة عن حساب حركة الشمس والإخبار عن أوائل الشهور الرومية والفارسية، ورصد حركات القمر وسائر النجوم وما شابه ذلك. فأين هذا المعنى من علم النجوم بالنسبة إلى المعنى السابق؟

وعلى ذلك، فما ورد من الروايات في ذم علم النجوم والمنجم وعدم الاعتداد بأخبارهم إنما يرجع إلى علم النجوم في مصطلح القدماء، ولا صلة له بما يسمى بعلم النجوم في عصرنا هذا، وهو علم ذو قواعد رصينة مبنية على حسابات رياضية قلما تخطأ، ولذلك نأخذ بها في تعيـين وقت الخسوف والكسوف ودخول الأوقات ومحاذاة القبلة والعرض الجغرافي للبلد وطوله[5].

 

ومنه يظهر ما في كلام بعضهم من عدم التفريق بينهما، وعدهما في ميزان واحد، بعد اتحادهما في الحكم، حال عدم إفادة العلم[6].

ويساعد على التفريق بين العلمين، عدم مشروعية تعلم التنجيم، ومشروعية تعلم علم الهيئة والفلك[7].

 

وبالجملة، إن هناك علمين لا ينبغي الخلط بينهما، وهما علم التنجيم، وعلم الهيئة، وقد أشير لذلك في كلمات الشهيد الأول(ره) في الدروس، فراجع.

 

ثالثاً: بعد التسليم بكون إخبار الفلكي من صغريات التنجيم، فيكون مشمولاً لما ورد من النهي عن النظر في النجوم، إلا أن الخبر محل البحث لا يصلح للمنع من الأخذ بقوله، والبناء على كفره، ذلك لأن الظاهر أن النهي في الخبر المذكور وأمثاله من النصوص ليس منصباً على عدم الأخذ بقول المنجمين بصورة مطلقة، بل الظاهر أن المنع بلحاظ التصديق بما يقولونه وأن للفلك تأثيراً ودخالة في حياة الناس بحيث يؤثر على إرادتهم وأحوالهم مستقلاً عن إرادة الله تعالى.

 

أما الأخذ بقول الفلكي كمخبر عن موضوع من الموضوعات الخارجية فهو أجنبي عن الخبر، نظير ما لو أخبر الفلكي بدخول وقت صلاة الفجر مثلاً، أو حدد موضوع القبلة، أو حدد وقت حصول الكسوف أو الخسوف، وما شابه ذلك.

الثاني: إن قول الفلكي لا يوجب العلم، وحاصله، تشكيل قياس منطقي من الشكل الأول، كبراه: إن المعتبر في ثبوت الهلال حصول العلم بذلك، وصغراه، أن قول الفلكي لا يفيد علماً، بل إن أقصى ما يمكن استفادته منه هو إفادته للظن، فتكون النتيجة منع حجية قوله.

 

ويقوم هذا الدليل على أخذ الرؤية بنحو الطريقية، بمعنى أن يكون الهلال في موقع يمكن رؤيته فيه فعلاً، وسوف يأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى.

وقد يمنع من قبوله، ملاحظة ما ذكره الوحيد البهبهاني(ره) حيث قال: وأما قولك إن شيئاً من كلامهم-يعني علماء الفلك-لا يفيد علماً ولا ظناً، فبعيد عن جانب الانصاف جداً، وكيف لا يفيد شيء من كلامهم علماً ولا ظناً، وقد ثبت أكثره بالدلائل الهندسية والبراهين المجسطية التي لا يتطرق إليها شوب شبهة ولا يحوم حولها وصمة ريب، كما هو ظاهر على من له دراية في رد فروع ذلك العلم الشريف إلى أصوله[8].

 

وقريب من هذا المعنى ذكر بعض المهتمين المعاصرين في هذا المجال، قال: إذا تعاملنا مع الجداول الحديثة التي يشرف عليها علماء الفلك المعاصرون، نجدها في غاية الدقة بحيث لم يحدث خلال هذا القرن-القرن العشرين-على الأقل بناءاً على الجداول المتوفرة في المكتبات العامة ولو مرة واحدة أن اختلفت جداول شروق وغروب وكسوف وخسوف الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة في المجموعة الشمسية بمقدار جزء واحد من عشرة أجزاء من الثانية، فالذي يدعي أن عند علماء الفلك اختلافاً في أقوالهم، فأين الخلاف؟ فمثلاً: عندما يعين علماء الفلك أن هلال ذي الحجة في هذه السنة 1420 هـ، ولد نهار الأربعاء في 17 آذار الساعة 6:42 دقيقة مساء، فإن هذا الرقم نجده في مئتي زيج[9] من إصدار جامعة موسكو، أو بكين، أو طوكيو، أو باريس، أو روما، أو لندن، أو أكسفورد، أو كامبردج، أو أي جامع فلكية في العالم، لا تختلف ولو بجزء من عشرة أجزاء من الثانية[10].

 

وقد يفرق، فيذكر أن قولهم يفيد العلم واليقين بالنسبة لولادة الهلال وخروجه من المحاق، وهذا لا ربط له بمسألة ثبوت الهلال التي هي محل البحث، وبين إمكانية رؤيته، والتي ترتبط بمحل البحث، فإنه أقوالهم لا تفيد علماً ويقيناً بسبب الاختلاف الحاصل بينهم، كما سوف تأتي الإشارة إليه، فأنتظر.

 

الثالث: إن النصوص المشيرة لطرق ثبوت الهلال لم تذكر قول الفلكي واحداً منها، فلو كان قوله طريقاً وحجة في إثباته لوجب البيان، لا أن يكون الطريق منحصراً في الرؤية.

وبعبارة أخرى، إن المستفاد من الأدلة الدالة على ثبوت الهلال، حصر طرق ثبوته في أمرين محددين، لا ثالث لهما، وهما الرؤية، وإكمال العدة، فلو كان قول الفلكي حجة لأشير إليه كما أشير لغيره من الطرق، وعدم الإشارة إليه، كاشف عن عدم كونه طريقاً للإثبات.

 

وقد أشير لهذا الدليل في كلمات غير واحد، من الأعلام، فقد ذكر بعض الأعاظم(ره) في وجه منع قبول قول المنجم، لحصر طريق الثبوت في أحد أمرين: إما الرؤية، الأعم من رؤية الشخص بنفسه، أو بغيره المستكشف من الشياع، أو البينة ونحوهما. وإما عدّ الثلاثين. فالثبوت بغيرهما يحتاج إلى الدليل، ولا دليل عليه[11]. ومقتضى كلامه(ره) احتياج القول بحجية قول الفلكي إلى دليل كي ما يحكم بحجيته، ومع عدمه، سوف يلتـزم فيه بعدم الحجية.

 

وقال بعض من عاصرناه(ره): أنه لا اعتبار بقول المنجمين-ولو في العصر الحاضر الذي تكامل علمه وتجهزت أسبابه، وتكثرت آلاته-في صورة عدم إفادة العلم، وذلك لأصالة عدم حجية الظن فيما لم يثبت الدليل على اعتباره، كما هو المحقق في الأصول، وفي المقام لم يدل دليل على الاعتبار، بل قام الدليل على العدم، لتطابق النصوص على حصر الثبوت بما تقدم من الطرق، فقول المنجم بما هو منجم لا يكون معتبراً[12].

 

ويتم ما ذكر لو كانت الرؤية في النصوص مأخوذة بنحو الموضوعية، لأن حصر الطريق لا ينفي الحجية عن قوله لو أخذت الرؤية بنحو الطريقية. نعم لو كان قوله مفيداً للظن فقط كان ذلك موجباً لسلب حجية قوله، لأن الحجية تحتاج جعلاً شرعياً لأن الظن ليس حجة في حد ذاته.

وبالجملة، مع البناء على طريقية الرؤية وأن قوله يفيد العلم، فلن يكون الحصر المذكور مانعاً من حجية قوله.

 

وإن شئت فقل، إن المذكور في كلام الأعلام، من البناء على حصر طرق الإثبات للهلال في ما ذكر ليس مرفوضاً، بل مسلم به، وإنما النقاش في تحديد دائرة الرؤية، وانطباقها على قول الفلكي، بحيث يعدّ القول الصادر منه بثبوت الهلال رؤية، أو لا، فلو منع صدق الرؤية عليه، لأن الرؤية الواردة في النصوص مأخوذة بنحو الموضوعية، ولا ريب في عدم انطباق ذلك على قوله، حسب المتفاهم العرفي، كان ذلك مانعاً من حجيته، أما لو بني على توسعة دائرتها بدعوى أن المتفاهم العرفي من نصوصها تحقق العلم ولو كان عادياً، فكل ما يكون موجباً لذلك بني عليه، لكون المذكور في النصوص مأخوذاً على نحو الطريقية لتحصيل ذلك، فلا ريب في كون قول الفلكي من صغرياتها.

ومع عدم وضوح أحدهما، ولو من جهة إجمال المفهوم، فإن القدر المتيقن، مانع من البناء على حجية قوله.

 

الرابع: البناء على أن الرؤية المأخوذة في النصوص الدالة على ثبوت الهلال، مثل قوله(ص): صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته.

 

ومثل ما جاء في خبر الفضيل بن عثمان عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: ليس على أهل القبلة إلا الرؤية، وليس على المسلمين إلا الرؤية. مأخوذة على نحو الموضوعية في الحكم بثبوت الهلال ودخول الشهر.

والمقصود من الموضوعية في الرؤية، ما يتوقف على تحققه الثبوت الخارجي الواقعي للحكم، بحيث يدل الدليل الشرعي على أن ثبوت الحكم متأخر واقعاً عن ذلك الشيء. وليس المقصود منها الموضوع بالمعنى المنطقي الذي يكون مقابل المحمول.

ومقتضى ما ذكر يستدعي تأخر الحكم المترتب على الهلال واقعاً، سواء كان صوماً أم افطاراً، لأن الحكم مترتب على ذات الرؤية، وليس مترتباً على وجود الهلال في الأفق ولو لم يراه المستهلون.

 

وإن شئت، فقل إن موضوع الحكم الشرعي بوجوب الصوم أو الإفطار، هو الهلال بوصف كونه مرئياً فعلاً، ولذا لا يثبت الحكم ما لم تتحقق الرؤية، ولو كان الهلال موجوداً في الأفق.

وليس في كلمات الأعلام(ره) ما يشير للالتزام بهذا المعنى في فهم النصوص التي تضمنت طرق ثبوت الهلال، بل عباراتهم بعيدة جداً عنه، وظاهرة في الطريقية، فقد ذكر المفيد(قده) في المقنعة: فالهلال علامة الشهر، وبه وجبت العبادة في الصيام والإفطار والحج وسائر ما يتعلق بالشهور على أهل الشرع[13]. وهذا التعبير منه(قده) ظاهر في أخذ الرؤية بنحو الطريقية للكشف عن وجود الهلال الدال على دخول الشهر، ومثل ذلك يظهر من المحقق(قده).

 

وهذا هو الظاهر أيضاً من فتاوى بعض الأعاظم(ره)، فقد سئل(ره):

يشترط في ثبوت الهلال رؤية الهلال بالعين، فلو كان هناك مانع يمنع من رؤيته بالعين ولا يمنع من رؤيته بالمجهر، كالدخان، أو الغيم، أو الغبار، أو موانع أخرى، فهل تثبت رؤيته بالمجهر في هذا المجال.

فأجاب: إذا كان بحيث لولا المانع يرى عادياً فيكفي، وإذا كان لا يرى عادياً إلا بالمجهر فلا يكفي[14].

 

ويشهد لما ذكرناه، التعليل الوارد في كلمات الأعلام، من أن مانع التعويل على قول المنجم، كونه يفيد الظن. وهذا يعني أنه لو أفاد العلم لم يكن مانع من ترتيب الأثر على حجيته، وعدّه طريقاً لثبوت الهلال.

ومن الواضح أن عدم قول أحد منهم(رض) بالموضوعية في نصوص طرق الإثبات كاشف، عن عدم ظهور ذلك منها، وهذا يعني استفادتهم منها الطريقية.

ولعله ليس بين المعاصرين لنا ومن هم قريبون من عصرنا قائل بأخذ الرؤية في الأدلة على نحو الموضوعية، لأن المتابع لكلماتهم سواء في الفتوى أم الاستدلال يقف على أن مانعهم من التعويل على قول المنجم عدم إفادته العلم، وأنه لا يخرج عن كونه ظناً.

 

نعم لو وجد من بنى على المنع من حجية قوله لأنه لم ير الهلال، كان ذلك واضحاً في البناء على موضوعية الرؤية، ولم أقف بمقدار ما تابعت على من قال بذلك.

نعم ربما نسب القول بذلك للوحيد البهبهاني(قده)، لبنائه على عدم كفاية العلم بثبوت الهلال، بل لابد من حصول الرؤية الفعلية له، وأنه ما لم تحصل، فإنه لا يثبت.

وكيف ما كان، إن المانع المذكور لا يخرج عن كونه مجرد احتمال ثبوتي يذكر في البين للمنع من البناء على حجية قول الفلكي، وليس له ما يساعده إثباتاً، لأنه محض استبعاد ليس إلا. وقد يكون التقيـيد المذكور في حقيقة الموضوعية في المقام، مانع من الجزم بوجود قائل بها، حتى من نسب إليه القول بذلك، وهو الوحيد البهبهاني(ره)، فتأمل.

 

وأما النصوص المذكورة، فلا ريب في كون الرؤية المأخوذة فيها بنحو الطريقية وعدم الموضوعية، واحتمال أخذها بنحو الموضوعية، اعتماداً على قاعدة احترازية القيود، يندفع بما ذكره بعض الأكابر(قده) في المقام، قال:

إن الظاهر الأولي في كل عنوان يؤخذ في موضوع حكم شرعي وإن كان يقتضي اعتباره قيداً دخيلاً في ذلك الحكم، إلا أنه في جملة من الآجال قد يكون هنالك ارتكاز عرفي أو متشرعي يمنع من انعقاد هذا الظهور، ويقتضي حمل العنوان في لسان الدليل على الطريقية والمعرفية.

 

ومن جملة موارد هذا الارتكاز، بل من أوضح مصاديقه عرفاً، ما إذا ورد عنوان العلم أو الرؤية أو التبين ونحو ذلك في موضوع حكم شرعي واقعي، فإن ارتكازية كون هذه العناوين لدى الإنسان هي الطريق إلى إثبات الواقع وكشفه، ولا يمكن من دونها الوصول إلى الواقع المطلوب، يوجب فهم العرف الملقى إليه الخطاب لهذه العناوين على أنها مجرد طرق في إثبات الواقع الذي هو موضوع الحكم الشرعي، من دون دخالتها بنفسها فيه.

وهذا الظهور العام لعله من المسلمات الفقهية التي لا تشكيك فيها، وما أكثر المسائل التي ورد في لسان أدلتها عنوان العلم أو التبين، ومع ذلك لم يحتمل فقيه أن يكون ذلك دخيلاً في الحكم الشرعي.

 

وفي المقام بالخصوص، يضاف إلى ذلك ما ورد في ذيل روايات الباب، من أن الصوم بالرؤية لا بالتظني والرأي والاحتمال، مما يدل على أن المقصود من الرؤية إحراز الواقع بها، ولزوم التثبت فيه[15].

ولا مجال للمنع من البناء على ظهور نصوص الرؤية في الطريقية دون الموضوعية، بعدم قبول شهادة النساء في ثبوت الهلال، لأن المفروض أن الغرض المقصود وهو حصول العلم بثبوت الهلال، حاصل من شهادتهن، ولو في الجملة.

لأنه مدفوع بنسبية الطريقية، وأنها من العناوين المشككة، وهذا يفسح المجال للشارع المقدس أن يعتبر قيوداً في من يحقق الغرض المقصود وهو العلم من الرؤية.

 

أدلة المثبتين:

وبعد الفراغ عن عدم وجود مانع يمنع من البناء على حجية قول الفلكي، لزم البحث عن توفر المقتضي للبناء على حجية قوله، وهو يتصور في المقام في أمرين:

الأول: وهو يتركب من مقدمتين:

الأولى: إن المستفاد من أدلة طرق إثبات الهلال كونها مأخوذة على نحو الطريقية لتحصيل العلم ولو كان عادياً بثبوت الهلال.

الثانية: إن قول الفلكي يفيد العلم القطع واليقين، ولا أقل من إفادته الاطمئنان، وكلاهما حجة.

وعليه، سوف تكون النتيجة البناء على حجية قوله في إثبات رؤية الهلال، وترتيب الأثر على قوله، لكونه طريقاً يحصل من خلاله العلم بالثبوت.

وإن شئت، فقل إن مقتضى دلالة نصوص إثبات الهلال على الطريقية، لأن مفادها حينئذٍ هو كل ما يوجب تحصيل العلم وتحققه خارجاً، فلا مناص من البناء على حجية قول الفلكي في ثبوت الهلال، لأنه أحد الطرق التي يمكن بواسطتها حصول العلم بثبوته.

 

ويدل المقدمة الأولى، وهي دلالة النصوص على الطريقية دون الموضوعية، ما جاء في جواب بعض الأعاظم(قده) على رسالة بعض تلامذته(ره)، فقد قال(ره):

إن الرؤية أخذت طريقاً إلى ما هو تمام الموضوع، أعني دخول الشهر، فإن الذي يستفاد من الكتاب العزيز وجوب الصوم به حيث قال:- (كتب عليكم الصيام) إلى قوله:- (شهر رمضان)، وكذلك من السنة.

وكان الأمر بالصوم للرؤية لأجل احرازه لخصوص شهر الصيام، وعدم الاكتفاء بالامتثال الظني أو الاحتمالي، كما يشهد للأول صحيحتي ابن مسلم والخزاز، وموثق ابن عمار، وللثاني رواية القاساني.

 

ثم إنه(قده) ذكر شواهد أربعة على ما أفاده من طريقية الرؤية، وهي:

الأول: اعتبار البينة مقام الرؤية، فلو كانت الرؤية جزءاً بنحو الصفتية لتكون الرؤية في الأدلة مأخوذة بنحو الموضوعية، لما استقام قيام البينة مقامها، لأن مقتضى كون الرؤية مأخوذة بنحو الصفتية عدم ثبوت الحكم ما لم يكن الهلال مرئياً بالفعل.

الثاني: عدّ الثلاثين إذا لم تتيسر الرؤية والبينة، حيث إنه يوجب العلم بخروج السابق ودخول اللاحق.

الثالث: وجوب قضاء يوم الشك الذي أفطره لعدم الطريق إلى ثبوت الشهر، لو تبين بعد ذلك بالبينة أو بالرؤية ليلة التاسع العشرين من صومه، ثبوت الشهر في يوم إفطاره، ولم يكن قد صامه، فيكون قد فات عنه الواجب الواقعي، وهذا ثابت بالنص والفتوى، ولا خلاف فيهما.

الرابع: إجزاء صومه إذا صامه بنية شعبان أو صوم آخر كان عليه، فتبين بعدُ أنه من رمضان، معللاً في النصوص بأنه يوم وفق له، ولا يخفى أن الإجزاء فرع ثبوت التكليف[16].

 

وقد صرح بذلك بعض الأكابر(ره) أيضاً جواباً عن ما أورده بعض الأعلام(ره) على بعض الأعاظم(قده)، قال(ره): إن عنوان الشهر الذي أنيط به الحكم بوجوب الصوم أمر عرفي، وليس من مستحدثات الشارع.

ومن الواضح أن الشهر عند العرف أمر واقعي، وليس للرؤية دخل فيه، إلا بنحو الطريقية المحضة، فلو أريد الدوران مدار الرؤية كان لابد من الالتـزام بأن الحكم الشرعي بوجوب الصوم قد أخذ في موضوعه ثبوت الشهر، والعلم به عن طريق الرؤية مثلاً، وهذا بنفسه بعيد عن مساق أدلة الصوم الظاهرة في ترتيب الصوم على نفس الشهر، على حد سائر الأحكام الشرعية المترتبة على الأهلة والشهور[17].

 

وأما المقدمة الثانية، فإنها من القضايا التي قياساتها معها، بحيث أنها لا تحتاج دليلاً ولا برهاناً، لأن الشواهد الخارجية كثيرة جداً على ذلك، فقد تابعهم الناس في أمور عددية، مثل الكسوف الخسوف، وتحديد موضع القبلة، ودخول الأوقات، ووجدوا دقة ما يخبرون به، ومدى مطابقته للواقع الخارجي.

 

وحتى يتم الدليل المذكور، يلزم أن يكون المستفاد من الأدلة حصول العلم بوجود الهلال في الأفق بخروجه من المحاق وتحقق ولادته، وإمكانية رؤيته بالعين المجردة الاعتيادية، كما عن بعض الأكابر(ره)[18]. أما لو بني على أنه يعتبر في ثبوته اعتبار رؤيته بها حساً وفعلاً، كما عن بعض الأعاظم(ره)، أو إمكانية رؤيته بالعين المجردة الاعتيادية، كما عن بعض الأكابر(ره)[19]، فلن يتم التقريب المذكور للبناء على حجية قوله. توضيح ذلك[20]:

يكون القمر في المحاق فلا يرى منه شيء عند وقوعه بين الأرض والشمس، وبحركته عن ذلك ليبدو منه حافة النصف، أو الوجه المضيء المواجه للشمس، فيكون عندها الهلال، ويعتبر ذلك بداية الحركة الدورية للقمر حول الأرض، وتسمى بالحركة الاقترانية، لأن بدايتها تقدّر من حين اقتران القمر بالأرض والشمس وتوسطه بينهما.

 

ويزداد الجزء المضاء من القمر كلما بعد عن موضع المحاق، ولا يزال يزداد الجزء المنير حتى يواجهنا النصف المضاء بتمامه في منتصف الشهر، فيكون القمر عندها بدراً، وتكون الأرض بينه وبين الشمس، ثم يعود الجزء المضيء إلى التناقص حتى يدخل في دور المحاق، ويبدأ دورة اقترانية جديدة، وهكذا.

ووفقاً لما تقدم يتضح أن بداية الشهر الطبيعي التكويني تبدأ بخروج القمر من المحاق وابتداء خروجه عن حالة التوسط بين الأرض والشمس، ليواجه جزء من نصفه المضيء الأرض وهو الهلال، ليكون الهلال المظهر الكوني لبداية الشهر القمري الطبيعي الكوني.

 

ومدة مكث الهلال الكوني عند ظهوره فوق الأفق الغربي بقليل حال غروب الشمس قليلة، ثم يختفي تحت الأفق الغربي، ولا يكون واضح الظهور، لذا تصعب رؤيته، بل قد لا يرى بحال من الأحوال لسبب أو لآخر، كما لو كانت مدة مكثه بعد الغروب قصيرة جداً بحيث يتعذر تميـيزه من بين ضوء الشمس الغاربة القريبة منه[21].

 

ويقابل الشهر القمري الكوني الطبيعي الشهر القمري الشرعي، والذي يعتبر في تحققه مضافاً لما عرفت من خروج الهلال من المحاق، إلى عامل آخر، وهو موضع خلاف بين الأعلام، فوجد فيه محتملان:

أحدهما: ما بنى عليه بعض الأعاظم(ره)، من اعتبار تحقق الرؤية الفعلية للهلال في الخارج بالعين المجردة، ولذا لو لم يره المستهلون، لم يحكم بدخول الشهر الشرعي، ولو كان الهلال موجوداً في الأفق.

ثانيهما: ما بنى عليه بعض الأكابر(ره)، من كفاية إمكانية رؤية الهلال بالعين الاعتيادية المجردة[22]، وهو المختار.

 

ولا يذهب عليك أن العامل الثاني سوف يختلف وفق اختلاف مباني الفقهاء في إثبات الهلال، فمن يعتبر منهم وحدة الأفق في ثبوته، سوف يبني على أنه عامل نسبي، بخلاف من يبني على عدم اعتبار ذلك، فإنه لن يجعله عاملاً نسبياً.

ومقتضى ما ذكر، أن الشهر القمري الشرعي، قد يتأخر عن الشهر القمري الكوني الطبيعي، فيبدأ الشهر القمري الكوني، ولا يبدأ الشهر القمري الشرعي.

 

ومع البناء على أن الموضوع هو الشهر القمري الشرعي، والذي قد أخذت فيه الرؤية وقوعاً، فلن يتم الدليل المذكور، لأن مجرد دلالة النصوص على الطريقية لا يعني عدم اعتبار شيء آخر في البين وهو الرؤية، وهذا هو مقتضى كون الهلال شرعياً وليس تكوينياً شأنه شأن أي موضوع عرفي تدخل الشارع المقدس في إضافة بعض القيود فيه، كالسفر والحيض، وغير ذلك.

 

أما لو بني على أخذ الرؤية إمكاناً، فلا يعتبر تحققها في الخارج، فيكفي إمكانية ذلك بالعين المجردة الاعتيادية، كما هو المختار[23]، فإنه يمكن البناء على تمامية الدليل المذكور، فإذا شهد الفلكي بإمكانية رؤية الهلال في الظروف الطبيعية الاعتيادية، لأن ظروف رؤيته المعتبرة من عمره، وبعده الزاوي، ومدة مكثه، ونسبة الإضاءة فيه، متوفرة، فسوف يبنى على حجية قوله، وإن حالت بعض العوامل الطبيعية في الجو، من الغيم والغبار، والرطوبة، والأدخنة والأبخرة وما شابه ذلك من رؤيته.

 

وأوضح من ذلك في البناء على حجية قوله، لو بني على أن موضوع الحكم الشرعي وهو الهلال أمر تكويني، وليس عنواناً شرعياً، قد جعله الشارع المقدس موضوعاً لجملة من الأحكام التي جعلها جرياً على ما عليه العقلاء. لأنه يكفي في ثبوت الشهر مجرد خروج القمر من المحاق كما عرفت، وهذا ما يمكن للفلكي أن يحققه.

 

نعم لم أعرف قائلاً بذلك بين الأعلام، وحتى من نسب إليه القول بذلك، فإن المحكي عنه عدوله عنه، وبناءه على مختار بعض الأكابر(قده).

 

نعم يبقى المانع من البناء على تمامية الدليل المذكور ما ذكروه في الصغرى، أعني قول الفلكي، من وقوع الاختلاف بين الفلكيـين أنفسهم في حيثيات إثبات الهلال، وهذا مانع من تحقيق الغرض الذي من أجله أريد جعله طريقاً من طرق إثبات الهلال، كونه يفيد العلم، فقد ذكر أنهم يختلفون في المعايـير التي يمكن فيها رؤية الهلال بعد خروجه من المحاق، وهي:

 

1-عمر الهلال وبعده عن الشمس.

2-مدة مكثه وبقائه في الأفق.

3-مقدار ارتفاعه عن الأرض وبعده الزاوي عن الشمس.

 

أما المعيار الأول، فقد ذكرت أقوال بينهم في ذلك:

منها: تقدير البعد المطلوب بثلاث درجات ونصف تقريباً، وكل درجة تساوي ساعتين، فيكون المطلوب هو سبع ساعات تقريباً.

ومنها: أن يكون البعد المطلوب أربع درجات ويكون الزمن ثمان ساعات.

ومنها: أن يكون البعد المطلوب ست درجات، ويكون الزمن اثنتي عشر ساعة.

 

وتـتـزايد الدرجات في كلماتهم حتى أوصلها بعضهم إلى اثنتي عشر درجة، ليكون الزمن المطلوب أربعاً وعشرين ساعة.

والظاهر أن منشأ الاختلاف الحاصل بينهم راجع للتجربة والحس والاستقراء والتتبع، وليس مبنياً على معايـير رياضية وحسابات علمية فلكية.

ومن الواضح جداً أن هذا الاختلاف الحاصل بينهم يؤدي إلى تغايرهم في القرار من حيث إمكانية رؤية الهلال وعدمه، فإنه وفقاً لمعايـير القول الأول، سوف يبنى على إمكانية رؤية الهلال حال توفر الزمن المطلوب، بينما على وفق معيار القول الأخير، سوف تستحيل رؤية الهلال.

 

وأما المعيار الثاني، وهو مدة المكث والبقاء، الذي يمكن فيه رؤية الهلال، فقد تعددت الأقوال فيه أيضاً:

منها: البناء على اعتبار بقائه أربعين دقيقة.

ومنها: الاكتفاء بست وثلاثين دقيقة.

ومنها: كفاية بقائه في الأفق عشرين دقيقة على الأقل.

ولا يختلف الحال في الاختلاف الحاصل بينهم في هذا المعيار عن سابقه، من أنهم لم يستندوا في ما تبنوه من تحديد إلى معادلات وحسابات علمية فلكية، بل اعتمدوا على الاستقراء والتجربة، والمراقبة والمتابعة، ولذا من الممكن جداً أن يبني أحدهم على مدة، ثم يغيرها بعد مدة لظهور شيء جديد له خلالها جراء المتابعة.

 

ولم يختلف الحال في المعيار الثالث عنه في المعيارين السابقين، إذ وقع الاختلاف بينهم أيضاً فيه، فذكرت أقوال، ويجري عندها عين ما قدمنا ذكره تعقيباً على الاختلاف الحاصل في المعيارين.

من هنا، كيف يمكن البناء على تحقق العلم من خلال قول الفلكي، والحال هذه من وجود الاختلاف بينهم في البناء على معايير إمكانية رؤية الهلال.

ولا مجال لأن يقاس الأمر بمسألتي الخسوف والكسوف، وتحديد الأوقات، فإن هذه أمور كانت معروفة من قديم، والظاهر عدم وجود اختلاف بينهم فيها، وهي مغايرة لمسألة ثبوت الهلال، وإمكانية رؤيته بعد خروجه من المحاق، لأن معايـيرهم كما عرفت مختلفة في حالات إمكانية الرؤية.

 

نعم لو بني على أن الهلال أمر كوني، وجعل موضوع الحكم هو الشهر القمري الطبيعي الكوني، وليس الشهر القمري الشرعي، فإن الظاهر تحقق الغرض المطلوب، لأن الفلكيـين ظاهراً يتفقون على خروج الهلال من المحاق، ودخول الشهر القمري الطبيعي، إلا أن المقرر في محله أن الموضوع للأحكام هو الشهر القمري الشرعي.

 

والظاهر أن العلاج لهذا الأمر من السهولة بمكان، إذ يمكن التغلب على ذلك من خلال ملاحظة المعايير المعتمدة والتي تكون من الدقة بمكان بحيث لا تخطأ أو تكون نسبة الخطأ فيها قليلة جداً.

الثاني: ما يظهر من كلام بعض المقدسين(ره)، من أن الاعتماد على قول الفلكي من باب كونه خبيراً، فيكون التعويل على قوله تعويلاً على كلام أهل الخبرة. قال(ره): قد يقع الاتفاق بين مهرة الفن، فيشكل رفع اليد عن قولهم مع أنهم أهل الخبرة[24].

 

ومثله ذكر بعض الأعلام(قده)، تعقيباً على عدم ثبوت الهلال بقول المنجمين، بأن ثبوت الهلال يتوقف على الرؤية أو شهادة عدلين، قال: ولولاه لكان للقول باعتبار قولهم مجال لأنهم من أهل الخبرة والرجوع إلى أهل الخبرة موافق للأصل الأولي[25].

ولا يخلو حاله عن أحد أمرين، إما أن يكون قولهم مفيداً للعلم واليقين، فيعود للدليل الأول، وقد عرفت أن القبول به بناءً على الالتـزام بكفاية إمكانية الرؤية، لا بناءً على القول باعتبار تحققها بالعين المجردة فعلاً في الخارج. وهذا يمنع عدّه دليلاً مستقلاً في عرض الدليل الأول كما هو واضح.

 

وإما أن يكون المستفاد منه هو خصوص الظن، وهذا يستدعي وجود دليل يدل على حجية إما مطلق الظن في كل مورد، أو حجيته في موارد خاصة، وعليه، لابد من وجود دليل يدل على حجية الظن في باب الهلال، والظاهر عدمه، لما عرفت أن مفاد أدلة طرق الإثبات غرضها تحصيل العلم واليقين بثبوت الهلال، ولا يكفي الظن، بل قد ورد في بعض النصوص منع ثبوته بالتظني.

ولعل هذا هو مقصود بعض الأعلام(ره)، في إشكاله على هذا الوجه، حيث: إن الروايات الواردة في موردهم تدل على عدم اعتبار أقوالهم حتى بالنسبة إلى ثبوت الهلال[26]. على أساس أن قول أهل الخبرة لا يعدو كونه ظناً، والظن لا يعول عليه في ثبوت الهلال.

 

تنبيه:

ثم إنه لو بني على عدم حجية قول الفلكي في ثبوت الهلال، قد يعترض بوجود تناقض عند بعض الفقهاء، لأنهم يمنعون حجية قوله في مقام الإثبات، إلا أنهم يعولون عليه في مقام النفي، بحيث أنه لو قامت البينة على رؤية الهلال، وقال الفلكيون بعدم ولادته مثلاً، ردت البينة، ولم يعول عليها، وعمل بمقتضى ما ذكره الفلكيون، وهذا يوجب التناقض، فبينما هم لا يرون حجية قولهم، يعمدون لترتيب الأثر عليه.

وهو مدفوع، لعدم وجود أدنى مناقضة في المقام، لأنه يعتبر في حجية البينة عدم وجود علم بخطئها واشتباهها، ومن المعلوم أن قول الفلكيـين بنفي الولادة مثلاً، أو بعدم إمكان الرؤية يوجب حصول العلم بخطأ البينة، ويمنع من التصديق بها[27].

 

 

 

 

[1] جامع المدارك ج 2 ص 200.

[2] مستمسك العروة ج 8 ص 464.

[3] صراط النجاة ج 1 ص 132.

[4] المعتبر ج 2 ص 688، وسائل الشيعة ج 17 ب 24 من أبواب ما يكتسب به ح 104 ص ، مستدرك الوسائل ج 13 ب ح ص 112.

[5] الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء ج 2 ص 98-99.

[6] تفصيل الشريعة كتاب الصوم ص 248,

[7] يمكن استفادة مشروعيته من كلمات غير واحد من الأعلام، كالسيد السبزواري(ره) في تفسيره القيم عند تفسير قوله تعالى:- (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون)، في سورة الأنعام، في موضعين، فلاحظ ج 14 ص 210، و ص 250 في البحث الدلالي في الثاني عشر.

وهذا هو ظاهر العلامة الطباطبائي(ره) أيضاً، فإنه اكتفى في تفسير الآية الشريفة، بقوله: المعنى واضح، والمستفاد من كلامه(قده) إبقاء اللفظ على ظاهره، فيكون مفاده أن النجوم من العلامات الني يعتمد عليها في الدلالة والمعرفة، وهذا لا يكون إلا بتعلم علم الهيئة والفلك، ليكون الإنسان محيطاً بشؤون النجوم وما يرتبط بها.

ولا يضر بدلالة الآية على المطلوب تفسيرها في بعض النصوص كالتفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم، بآل محمد(ع)، لأنه من صغريات الجري والتطبيق.

وقد تضمن كلام العلامة(ره) الرد على من استدل على شرعية الجدول في ثبوت الهلال، بقوله تعالى:- (وبالنجم هم يهتدون)، بما يشير إلى مشروعية تعلم الهيئة والفلك، فراجع ما ذكره في المنتهى، وقد نقل كلامه أيضاً صاحب الحدائق(ره) في ج 13 ص 269.

كما يمكن استفادة ذلك من بعض النصوص مثل رواية هشام بن الحكم عن الإمام الكاظم(ع)، والتي جاء فيها: يا هشام إن كل الناس يبصر النجوم، ولكن لا يهتدي بها إلا ن يعرف مجاريها ومنازلها.

[8] الحبل المتين ص 632.

[9] كتيب، جدول.

[10] الدكتور يوسف مروّة، دكتوراه في الفيزياء النووية، حكى ذلك عنه بعض الباحثين.

[11] موسوعة الإمام الخوئي(ره) ج 22 ص 91. وصدور هذا الكلام منه(ره) غريب جداً، لعدم بنائه على الحصر الحقيقي في الأدلة بقرينة التزامه بأمارية التطويق لثبوت الهلال، وأنه لليلتين.

[12] تفصيل الشريعة كتاب الصوم ص 248-249.

[13] المقنعة ص 296.

[14] صراط النجاة ج 1 ص 298.

[15] رسالة الطهراني حول رؤية الهلال ص 118.

[16] رسالة الطهراني ص 81. ذكر الشواهد أيضاً في كتاب الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء ج 2 ص 144.

[17] المصدر السابق.

[18] الفتاوى الواضحة ص 716.

[19] الفتاوى الواضحة ص 716.

[20] اعتمدنا بصورة أساسية على ما جاء في الفتاوى الواضحة لبعض الأكابر(ره) ص 709 فما بعد. وقد أشير لذلك أيضاً في كتاب الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء ج 2 ص 141-143.

[21] ذكر بعض الأكابر(ره) في الفتاوى الواضحة ص 709، أسباباً أخرى أعرضنا عن ذكرها حذراً من الإطالة.

[22] الفتاوى الواضحة ص 716. وقد أشار(ره) إلى

[23] تعرضنا لتفصيل ذلك في محله، ولم نعمد لذكر ذلك حذراً من الإطالة.

[24] جامع المدارك ج 2 ص 200.

[25] مباني منهاج الصالحين ج 6 ص 216.

[26] المصدر السابق.

[27] تعاليق مبسوطة ج 5 ص 187.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة