المعروف بين أصحابنا أن مقتضى الأصل الأولي هو عدم ثبوت ولاية أحد على أحد. كما أن مقتضى استصحاب العدم الأزلي-على فرض البناء على حجيته-هو ذلك أيضاً، فإن الإنسان كان في الأزل ولا ولي عليه، وبعد وجوده يشك في ثبوت ولاية عليه، فيستصحب عدمها.
ويقصد بالولاية عبارة عن: كل ما يرتبط بالتصرفات في أموال الصغير وحقوقه وشؤونها، وتربيته وتعليمه، وكذلك زواجه قبل البلوغ، بل حتى بعده في بعض الحالات والموارد.
وإن شئت قل، إن المقصود بها كل ما يكون تصرفاً مرتبطاً بنفع الصغير ومصلحته.
ومنه يتضح الفرق بينها وبين الحضانة، فإن الحضانة تختص بالصغير في شؤونه البدنية وربما الفكرية، فتشمل العناية بسلامة جسده، ونظافته، ونظافة لباسه، وهندامه، والحفاظ عليه من الانحراف الديني والعقدي، والفكري.
وهذا يعني أن النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجه، فقد يكون حاضناً ولا يكون ولياً وقد يكون ولياً ولا يكون حاضناً.
وقد اتفقت كلمة الأعلام(رض) على ثبوت الولاية للأب على الصغير مطلقاً، سواء في ما يرتبط بالتصرف في أمواله وشؤونه وحقوقه، أم في ما يرتبط بتـزويجه.
كما أن المعروف بينهم ثبوتها للجد للأب أيضاً في التـزويج، ولم يخالف في ذلك إلا ابن أبي عقيل.
وظاهرهم، عدم الفرق في ثبوتها له سواء كان الأب موجوداً وعلى قيد الحياة، أم كان بعد وفاة الأب.
وهل له ولاية على الصغير في غير التـزويج، أعني ولاية التصرف في أمواله وحقوقه وشؤونه بعد وفاة الأب، أم لا؟
المعروف بين الأعلام، هو البناء على ثبوت الولاية إليه أيضاً، بل في المسالك[1] والكفاية[2] حكاية نفي الخلاف في ثبوت الولاية للأب والجد للأب في أموال الصغير، بل عن التذكرة ومجمع البرهان[3]، الإجماع عليه.
وخالف في ذلك بعض الأعلام المعاصرين(دام ظله)[4]، فحكم بعدم ثبوت ولايته حال وجود الأم، وأن لها الولاية بعد الأب على الصغير في كل ما يختص بشؤونه بما في ذلك تزويجه، وقد جعل لها ذلك بشرطين:
الأول: أن تكون الأم أمينة على ولدها، فلا تثبت لها الولاية لو انتفت عنها الأمانة.
الثاني: صلاحيتها للتدبير، ومعرفتها بشؤون رعاية الطفل، وإدارة مصالحه، وإلا لم تثبت لها الولاية.
وليس الشرطان قيدين إضافيـين في ثبوت الولاية لها، بل هما على وفق القاعدة لاعتبارهما في الأب أيضاً، بحيث لو فقد أحدهما لم يكن صالحاً للولاية، كذلك الأم.
وكيف ما كان، فالمشهور بين الأعلام(ره)، أن الولاية على الصغير بعد وفاة الأب تكون للجد للأب، بل في الجواهر دعوى الإجماع عليه من العلامة(ره) في التذكرة، ومن المقدس الأردبيلي(ره)، في مجمع الفائدة والبرهان.
ولا يذهب عليك، أنه لو تم الإجماع المذكور كان موجباً لرفع اليد عن مقتضى الأصل الأولي في عدم ثبوت الولاية، كما يكون حاكماً على الاستصحاب العدمي.
نعم احتمال المدركية فيه، لو لم تتعين، فليس ذلك بعيداً، ما يمنع من صلاحيته لذلك.
هذا كله بعد إحراز تحققه، وإلا قد يمنع من تحقق صغراه، كون المسألة غير معنونة في كلمات القدماء، فلاحظ.
والحاصل، يلزم النظر في ما استند إليه بعض الأعلام(حفظه الله) مقابل المشهور، بل المجمع عليه، وهل أنه ينهض لإثبات مدعاه أم لا.
أدلة بعض الأعلام:
استدل بعض الأعلام(دام ظله) لمختاره بأمور ثلاثة، يمكن تلخيصها في كونها تثبت وجود المقتضي لثبوت الولاية للأم، ومن ثمّ ينصب الجهد في دفع المانع عنها.
وقد جعل المقتضي لإثبات الولاية لها أموراً ثلاثة:
الأول: عمومات ولاية المؤمنين:
وقد ذكر في ذلك صنفين، بعض آيات الكتاب العزيز، وبعض نصوص السنة المباركة.
فمن الكتاب الكريم، ذكر(حفظه الله) طوائف:
الأولى: ما دل على المسابقة للخيرات، وهي قوله تعالى:- (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات)[5]، وتقريب دلالتها أن يقال: لقد تضمنت الآية المباركة الحث على المسابقة لفعل الخير، من دون تخصيص لمن يستبق إليه، ولا ريب في كون القيام بإدارة شأن الصغير والعناية به من مصاديق المسابقة لفعل الخير الذي لا يختص بأحد دون أحد، فيكون شاملاً للأم.
وبكلمة، إن للآية المباركة عموماً يفيد حقانية كل أحد في المسابقة للقيام بشؤن الطفل، ومنها الأم، فيثبت أن لها ولاية عليه.
ومن الواضح أن الاستدلال بالآية الشريفة، يقوم على تمامية أمرين، وهما:
الأول: كون القيام بشؤون الطفل ورعاية مصالحه، مصداق للخيرات التي تضمنت الآية الشريفة الندب إليها.
الثاني: أن ذلك من الأمور التي يتسابق إليها العقلاء، بل المتشرعة.
وهذا يعني أنه مع منع صدق عنوان الخيرات على هذا العمل، فلن يكون للآية الشريفة دلالة على المدعى.
ولا يذهب عليك، أن دلالة الآية المباركة-على فرض التسليم بها-على المدعى بالعموم، وهو يقبل التخصيص بالنصوص التي دلت على ولاية الجد.
وإن شئت قلت، لو سلم بتمامية المقتضي لثبوت الولاية لها، لابد من رفع المانع عن ذلك، وهو نصوص ولاية الجد.
كما أنه يلزم أن يكون مدلولها بيان حكم شرعي، وليست ناظرة للدلالة على حكم أخلاقي، فإنها لو كانت كذلك، فسوف تكون أجنبية عن المقام.
ويعتمد الاستدلال بالآية الشريفة على ظهور كلمة(فاستبقوا) في الاستباق بمعنى المسابقة، أما لو كانت ظاهرة في معنى آخر، كالسَبَق المجعول في رهان المسابقة، وفقاً لما أختاره الشيخ البلاغي(ره)، فسوف تكون أجنبية عن المقام، وقد بنى(ره) مختاره على أساس أن قوله تعالى(فاستبقوا) جاءت متعدية للمفعول بنفسه، كما في سورة المائدة، وفي سورة يوسف:- (واستبقا الباب)، وفي سورة يس:- (فاستبقوا الصراط)، فلو كانت بمعنى الاستباق وطلب السَبْق-بفتح السين-لوجب تعديتها بـ(إلى)، والنصب بنـزع الخافض في مثل المقام بعيد عن كرامة القرآن في عربيته وفصاحته.
فالوجه: أنها في هذه الموارد من طلب السَبَق-بفتح السين والياء-وهو ما يحصله السابق بسبقه. ومنه السَبَق المجعول في رهان المسابقة، وفي جعل الخيرات والباب والصراط في الآيات سبقاً-بفتح السين والباء-كناية لطيفة عن أنه هو الغاية المطلوبة والفائدة المقصودة في المسابقة.
وحاصل المعنى-والله العالم-لكل أمة شريعة أمرت باتباعها، وقد نسخ بعض الشرائع، فسارعوا إلى الحق، واطلبوا أن تكون خيرات الأحكام-وهي التي لم تنسخ، وجاء بها الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم-هذه اطلبوها سَبَقاً لكم والغاية الشريفة من مسارعتكم، وما هي إلا شريعة رسول الله والقرآن الكريم[6].
——————————————————————————–
[1] مسالك الأفهام ج 4 ص 161.
[2] كفاية الأحكام ص 113.
[3] مجمع البرهان ج 9 ص 231.
[4] المرجع الديني الشيخ يوسف الصانعي(حفظه الله) في بحثه قيمومة الأم.
[5] سورة البقرة الآية رقم 148.
[6] موسوعة العلامة البلاغي ج 1 ص 263-264.