هذه هي النقطة الرابعة من الحديث حول آية التطهير،وهي تدور حول كلمة(الرجس)التي وردت في الاية الشريفة،وما هو معناها.
الرجس في النظرة القرآنية:
لقد ورد ذكر كلمة الرجس في القرآن الكريم،في عشرة مواضع،ضمن آيات مختلفة،وإذا أردنا أن نتعرف معناه نحتاج إلى التدقيق في المواضع التي ذكر فيها وهي الآيات العشر،حتى يتضح لنا معناه.
وقبل بيان ذلك نشير إلى أن للرجس معنى عام جامع،وهو عبارة عن الشيء المستقذر،كما نص على ذلك علماء اللغة.
أما استعماله في القرآن فقد جاء بصورة أوسع،بحيث شمل منابع القذارة المتعددة،واستعمل بلحاظ المنشأ الذي ينبعث منه التلوث الروحي أيضاً.
فمثلاً نلاحظ قوله تعالى:- (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)[1]،حيث أطلق الرجس على الخمر والقمار والأصنام وأعواد الخشب التي كان يتخذ منها أهل الجاهلية السهام ليقتسموا بها الأزلام.
وقد حمل هذا المفهوم على تلك الذوات الأربع بلحاظ أن تلك الموضوعات عوامل يستـتبعها الرجس،وينشأ عنها،ويشهد على ذلك الآية الشريفة التالية:- (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)[2].
وهنا نرى أنه تعالى قد أطلق على الأمور المسببة عن تلك الأشياء المذكورة في الاية من زوال العقل ونمو الرذيلة بالرجس،وذلك بإعتبار آثارها التي تـتحقق عند ممارستها وارتكابها.
ونجد في آية أخرى كما في سورة الأنعام التعبير عن ضيق الصدر وانقباض النفس بالرجس،قال تعالى:- (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)[3].
فالروح الكدرة بالمعاصي المضطربة بالآثام،المنقبضة التي تعيق القذارات تنفسها الصحيح،تسمى رجساً.
ونرى في آية أخرى التعبير عن الأمراض الروحية والآفات القلبية بالرجس،قال تعالى:- (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون،وأما الذين في قلوبهم مرض فزاتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون)[4].
فالآية تقرر أن ذوي الأرواح المريضة والأنفس السقيمة يزدادون علة وسقماً كلما نزلت سورة من القرآن،وأن الداء القلبي يستفحل في نفوسهم بتراكم الأمراض والأرجاس حتى يصابوا بالكفر والإلحاد.
ويالجملة نخلص إلى أن النظرة القرآنية للرجس أنه داء يصيب الروح وينال من سلامتها،بحيث يشمل ذلك الأمراض الروحية والآفات الأخلاقية التي تخفت أوار الحق وبريق إشعاعه في ضمير الإنسان وتكدر صفاء الروح وتنال من عظمة النفس،وتقضي على الخير المودع فيها والذي يتجلى في صور التسليم للحق والإذعان للحقيقة بعد السعي لها وللقيم المعنوية العالية.
فالرجس يعري الإنسان من جميع الفضائل ويخلفه روحاً مشبعة بالآفات والأسقام،وقد جعل القرآن الكريم ضيق الصدر عنواناً جامعاً لهذه العلل.
الرجس في آية التطهير:
ومن خلال ما تقدم يظهر أن الله سبحانه وتعالى قد شرح صدور أهل البيت(ع)،فلم يـبتلهم بضيق الصدر،وصور قلوبهم سليمة معافاة من الأمراض الروحية التي جعل بينها وبينهم فاصلاً لا يسمح بسريان الداء وتسربه إليهم.
إن أهل البيت(ع)الذين انفصلوا عن الآفات والأمراض التي تحول بين المرء والإذعان للحق وتدفعه للتمرد عليه،تجدهم بتلك القلوب النقية والصدور الرحبة في حالة من الإنقياد المحض لإرادة الله سبحانه،والإستعداد التام لتلقي القيم المعنوية وفهم دقائق أسرارها.
وقد سلكت بهم تلك الفاصلة وهذه الرحابة إلى قمة الإنسانية الشامخة،وجعلتهم صفوة الله التي تسبح في بحر الفضائل والكمالات،وما هذا الفاصل وتلك الرحابة إلا من تفضل الله تعالى:- (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام…)[5].
ولذا فإن عدم تلوثهم بالذنوب معلول لسعة صدورهم ورحابتها وامتلاء أرواحهم بالفضائل والكمالات وتعلقها.
هكذا يتبين أن آية التطهير شاهد صدق على عظمة أرواح هذه الصفوة،وبرهان حق على سمو أفكارهم وتحررهم من قيود الآفات الروحية وخلاصهم من تبعات الأمراض الأخلاقية،وما هذه العظمة إلا موهبة إلهية،وهي التي نزهتهم عن الذنوب وطهرتهم عن المعاصي،وهي التي فتحت أبواب الفضائل والخيرات أمامهم لينهلوا منها الغاية والحد الأقصى،فالإنسان العظيم لا يجاور الرذائل،والفكر السليم لا يستمد من الخرافات والأباطيل،والنفوس القوية والهمم العالية لا تتمكن منها الإضطرابات الروحية،ولا يمكنها أن تصبوا إلى المعاصي،وآية التطهير عنوان وعلامة على تمتع أهل البيت(ع)بهذه الكمالات الروحية الدافعة إلى الخير والمانعة للشر.
ولعمري إذا كانت هذه المواهب الجمة والفيوضات الزاخرة التي نـزلت على أهل البيت(ع)جبراً فأي الفيض لا يكون كذلك،ومتى وفيمن تتحقق حالة الإرادة والإختيار؟…
فعندما نرى علياً يمثل القمة في التقوى،فلأنه ينطلق من تلك الركائز،وإذ يقول:
والله لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته[6].
وإذا كانت الدنيا عنده أزهد من عفطة عنـز[7]،وأهون من ورقة في فم جرادة قضمها[8]،وكعراق خنـزير في يد مجذوم[9]،وكانت قيمة الرئاسة والإمرة عنده دون شسع نعل بالية[10].
فكل ذلك لما أشارت إليه آية التطهير من المنح والمواهب الإلهية التي منّ الله بها على أمير المؤمنين(ع)،فنوّره بالعلم والمعرفة،وأذهب عنه الرجس وطهره تطهيراً،فتسامى على هذا العالم وتعالى عن هذه الدنيا وحلق في سماء المجد والعظمة في الآفاق التي أرادها الله له وللعترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين.
وهكذا إذا وجدنا ابنه الحسين(ع)يقدم رضيعه ذا الآشهر،وولده شبيه رسول الله(ص)قرابين على طريق محبة الله وفي سبيل انقاذ عباده من جور يزيد وتحريرهم من استبداده.
إلفات مهم:
إن هذا اللطف والعطاء الإلهي لم يكن لبحصل عبثاً واعتباطاً،بحيث انصبت العناية الإلهية دون حكمة وبشكل عشوائي.
بل إن ذلك وقع بعد ملاحظة استعداد الإنسان وقابليته لتلقي هذا العطاء الكبير،وأن الأمر شمل أهل البيت(ع)ليس لمجرد كونهم أهل بيت النبي وقرابته،فإن هذا التصور من الوهم الخاطئ.
بل إن أرضية العطاء واإستعداد لتلقي العناية واللطف الخاص أمر بيد الإنسان ورهن رغبته وإرادته،فهو الذي يصنع نفسه ويهيئ حاله لتكون على ذلك المستوى،لاحظ قوله تعالى:- (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيـين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً،ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً)[11].
فالآيتان تقرران سر الإنعام الإلهي والحصول على الفضل الخاص من خلال طاعة الإنسان وعمله في سبيل حياة خالدة،وذلك بامتثال أوامر الله ورسوله(ص).
فالنتيجة أن مرد السعادة والتكرم بالفيض الإلهي يعود للإنسان نفسه ومدى سعيه لتحقيق أرضية أكثر استعداداً لتلقي المزيد من الفيض والعطاء الإلهي غير المجذوذ ولا المحظور.
——————————————————————————–
[1] سورة المائدة الآية رقم 90.
[2] سورة المائدة الآية رقم 91.
[3] سورة النعام الآية رقم 125.
[4] سورة التوبة الآية رقم 124-125.
[5] سورة الأنعام الآية 125.
[6] نهج البلاغة الخطبة رقم 224.
[7] المصدر السابق الخطبة رقم 3.
[8] المصدر السابق الخطبة رقم 224.
[9] المصدر السابق الحكمة رقم 236.
[10] المصدر السابق الخطبة رقم 33.
[11] سورة النساء الآية رقم 69-70.