وعملكم فيه مقبول(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)لا يزال حديثنا عن الخصوصيات التي يذكرها النبي(ص) لهذا الشريف والميز التي يتميز بها عن بقية الشهور الأخرى، فبعدما ذكر أمرين من الميز، وهما أن النفس فيه تسبيح، وأن النوم فيه عبادة، أشار إلى الميزة والخصيصة الثالثة في هذا الشهر، وهي أن العمل فيه مقبول، وحتى يتضح المقصود من كلامه(ص)، وأنه كيف يمتاز هذا الشهر على بقية الشهور بأن العمل فيه مقبول، مع أن العمل الصادر من المكلف في أي وقت كان مستجمعاً لما يعتبر فيه من شروط الصحة والقبول يكون مقبولاً، نمهد بمقدمة:
حقيقة العمل:
يقصد من العمل الأفعال التي يعملها المكلف، والأفعال الصادرة من المكلفين أقسام:
واجب: وهو ما يجب فعله، ويترتب على تركه العقاب، مثل الصلاة، فإنه يجب على الإنسان أدائها، ومتى تركها، فإنه يستحق العقاب، ومثل الصوم، فإنه يجب على الإنسان فعله، ومتى تركه فقد استحق العقاب من الله سبحانه وتعالى، وكذا الكلام بالنسبة للخمس.
مستحب: وهو ما يحسن فعله، لكنه لو تركه فإنه لا يستحق عقاباً عليه، مثل صلاة الليل، فإن فعل المكلف إياها يؤهله لنيل الثواب، وتركه فعلها لا يجعله مورداً للعقاب، ومثل نوافل الفرائض اليومية، وقراءة القرآن الكريم، وتسبيحة السيدة الزهراء(ع).
حرام: وهو ما يجب تركه، ويعاقب المكلف على فعله، مثل الغيـبة، فإنه يجب على المكلف تركها، فلو استغاب أحداً كان مستحقاً للعقوبة من الله سبحانه، ومثل الاستماع للغناء، فإنه محرم فلو أقدم المكلف على فعله كان مستحقاً للعقاب من الله سبحانه وتعالى، ومثل شرب الخمر، فلو شرب الإنسان الخمر يكون مستحقاً للعقاب، ومثل فعل الفاحشة.
مكروه: وهو ما يحسن تركه، لكنه لو فعله فإنه لا يعاقب عليه، مثل لبس الخاتم في اليد اليسرى، فإنه يجدر بالمؤمن أن يترك ذلك، فلو خالف وفعله لم يستحق عقاباً، ومثل الاستنقاع في نهار الصوم، فإنه مكروه لكن لو فعله المكلف لم يستحق عقاباً، ومثل شم الرياحين الطبيعية في نهار الصوم، فإنه مكروه لكن لو فعله المكلف لم يستحق عقاباً.
مباح: وهو الذي تتساوى فيه درجة الفعل والترك من حيث الأهمية، فلا يثاب المكلف على فعله، كما أنه لا يعاقب على تركه.
ولا يخفى أن الأفعال التي تصح أن توصف بالصحة والقبول من الأقسام الخمسة السابقة تنحصر في خصوص القسمين الأولين، الواجب والمستحب، ذلك لأن الوصف المتصور إما بالصحة أو الفساد، أو القبول، وعدمه، ولا معنى لأن يوصف الفعل المحرم أو المكروه بأنه صحيح، أو فاسد، كما لا يتصور وصف فعل محرم أو مكروه بأنه مقبول أو غير مقبول، لأن التوصيف بالصحة يشتمل على امتثال المكلف للأمر الصادر إليه من قبل المولى وذلك بفعله وتحقيقه خارجاً، بخلاف الحرام أو المكروه، فإن الأول يشتمل على معصية، والثاني يشتمل على فعلٍ مبغوض للمولى، كما أنه لا معنى لوصفهما(الحرام والمكروه) بالقبول، لأن ما يقبل هو ما يكون مستجمعاً لشرائط القبول، وعلى رأسها صحة العمل، وقد عرفت عدم قابلية هذين العنوانين للوصف بالصحة، فلاحظ.
ومثل ذلك يجري أيضاً بالنسبة للمباح، فإنه لا معنى لأن يوصف بكونه صحيحاً أو كونه مقبولاً، لأن ما يتصور فيه ذلك هو ما يتصور فيه الوصف بالفساد وعدم القبول، ومقتضى ما تقدم في بيان حقيقته يمنع من توصيفه بالفساد وعدم القبول، فلا يوصف بالصحة والقبول، فلاحظ.
حقيقة الصحة والقبول:
ثم إنه بعدما عرفنا ما يوصف من أفعال المكلفين بالصحة والقبول، ينبغي لنا أن نتعرف حقيقة الصحة والقبول، خصوصاً وأن هناك تصوراً عند كثيرين أن هذين المفهومين يشيران إلى معنى واحد، وأنهما يؤديان نفس المعنى بحيث لا يتصور وجود فارق بينهما.
لكن التصور المذكور خاطئ، ضرورة أن كل واحد من هذين المفهومين يشير إلى معنى يغاير المعنى الذي يفيده المفهوم الآخر، ولنوضح حقيقة المفهومين:
الصحة: تعني أن العمل الصادر من المكلف كان مستجمعاً لجميع الشروط والأجزاء التي يجب توفرها في العمل، مثلاً: إن الصلاة مشروطة بجملة من الشروط لابد من توفرها حتى يحكم بتحقق الصلاة، كما أن الصلاة مركبة من عدة أجزاء، لا يمكن القول بتحقق الصلاة خارجاً لو كانت ناقصة جزءاً من أجزائها، كما أنه لابد من عدم إيجاد الموانع التي تمنع من تحقق ماهية الصلاة، ككلام الآدمي والحركة الكثيرة، والضحك، فإذا تحققت هذه الأمور، يعني توفرت الأجزاء، وحصلت الشرائط، وانتفت الموانع، فإنه يحكم حينئذٍ بصحة الصلاة المؤداة من قبل المكلف.
وبالجملة، فصحة الصلاة تدور مدار إيجاد الشرائط والأجزاء، وفقدان الموانع.
وهكذا يجري الكلام بالنسبة للصوم أيضاً، فإنه لابد من توفر شرائط الصحة، ولابد من انتفاء موانع الصوم، وهو الامتناع عن المفطرات حتى يقال بتحقق الصوم، ومن ثمّ يحكم بصحته.
القبول: والمقصود منه أن العمل الصادر من المكلف يكون مقبولاً عند الله سبحانه وتعالى، وبالتالي يستحق عليه المثوبة منه. مثلاً إذا صام المكلف شهر رمضان المبارك، محققاً كل ما ينبغي تحقيقه في الصيام، فإنه يحكم عندها بقبول هذا العمل. نعم إحراز القبول قد يكون من خلال تحقق الغرض المشار له في الآية القرآنية، وهي قوله تعالى:- (لعلكم تتقون)، أو بطريق آخر.
والحاصل، إن بين القبول والجزاء علاقة السببية، فالقبول سبب للجزاء، فمتى قبل الله سبحانه وتعالى عمل عبد أنزل عليه الجزاء.
ومن أمثلة القبول ما جاء في القرآن الكريم في قصة السيدة مريم عندما نذرت أمها، قال تعالى:- (إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم* فلما وضعتها قالت ربِ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم* فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا)[1].
وقد يفعل المكلف الفعل ويمتثل التكليف الإلهي لكنه لا يقبل منه، وهذا له نماذج كثيرة:
منها: قصة ولدي آدم التي تحدث عنها القرآن الكريم عندما قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال تعالى:- (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين)[2].
ولعل من مصاديق عدم القبول أيضاً النص المتضمن كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، بمعنى أنه صام، وأفرغ ذمته من التكليف الموجه له، لكن صيامه لم يكن مقبولاً.
وبالجملة، فالمقصود من القبول، استحقاق المكلف الثواب من الله سبحانه وتعالى.
والفرق بين المفهومين وفقاً لما ذكرنا، أنه قد يكون العمل صحيحاً لكنه لا يكون مقبولاً بمعنى أن الغاية المتوخاة منه فقط هي فراغ ذمة المكلف مما اشتغلت بها، من دون أن يكون هناك أثر آخر، بخلاف القبول.
والظاهر أن النسبة بين المفهومين هي العموم المطلق،، لأن كل عمل مقبول، لابد وأن يكون صحيحاً، ولا أقل مصححاً، وقد يكون العمل صحيحاً لكنه لا يكون مقبولاً.
شروط القبول:
هذا وقد ذكرت مجموعة من الشروط التي لابد من توفرها حتى يحكم على العمل بكونه مقبولاً:
منها: صحة العمل:
فما لم يكن العمل صحيحاً فلن يكون مقبولاً، لأن قبول العمل إنما يتحقق إذا تحقق العمل خارجاً وتحققه في الخارج رهين توفر جميع أجزائه وشروطه المعتبرة فيه، فما لم تكن كذلك، فإنه لا يقال تحقق العمل.
ومنها: الإخلاص:
فلو كان العمل مشتملاً على رياء أو سمعة، أو كان مراداً به غير وجه الله سبحانه وتعالى، فلن يكون مقبولاً، لما ورد في الحديث القدسي: أنا خير الشريكين، من عمل لي ولغيري، تركته كله لغيري، وجاء عن النبي(ص) أنه قال: يؤمر برجال إلى النار، فيقول لهم خازن النار يا أشقياء ما كان حالكم؟ قالوا: كنا نعمل لغير الله، فقيل لنا: خذوا ثوابكم ممن عملتم له.
ومنها: إقبال القلب على العمل وحضوره:
فإن العمل يقبل بمقدار ما يقبل به القلب على العمل، ففي الصلاة مثلاً بمقدار ما يقبل الإنسان يقبل منه، فقد يكون نصفه مقبولاً، وقد يكون ثلثه مقبولاً، وقد يكون ربعه مقبولاً. فقد روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) أنه قال: إن العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها، فما يرفع له منها إلا ما أقبل عليه منها بقلبه، وإنما أمرنا بالنافلة ليتمم بها ما نقصوا من الفريضة[3].
وهذا يعني أن للإقبال وحضور القلب مراتب متفاوتة، تدور مدار اليقين بالباري سبحانه، والإيمان به.
ومنها: التقوى:
بل يمكن القول أن عمدة شرائط القبول هو هذا الشرط، وأنه جامع لجميع ما تقدم، بحيث أنه متى كان الإنسان متقياً، فذلك يعني أنه يعمل عملاً صحيحاً، ومتى كان متقياً، فإنه يكون مخلصاً، وسوف يكون مقبلاً بقلبه، ويشير لذلك قوله تعالى:- (إنما يتقبل الله من المتقين)[4]، فإن مقتضى الحصر المستفاد من الأداة(إنما)يفيد أن العمدة في قبول العمل الصادر من المكلف امتلاكه عنصر التقوى.
ولا يخفى أنه وفقاً لهذا الشرط لن تقبل أعمال الفاسقين، لانتفاء شرط القبول منهم، اللهم إلا أن يدعى أن التقوى الواردة في الآية الشريفة ليس المقصود منها معناها الأخص، بل يقصد منها معناها الأعم، وسوف نشير لذلك في الشرط الآتي، فأنتظر.
ولاية أهل البيت:
هذا وقد عدّ جملة من أعلامنا من شروط القبول ولاية أهل البيت(ع)، وهذا يعني أن كل من لم يكن موالياً فإن أعماله غير مقبولة.
وخالف في ذلك آخرون فجعلوا الولاية شرطاً من شروط الصحة، وهذا يعني أن من لم يكن موالياً فإن أعماله لا تكون صحيحة.
وتظهر الثمرة، في أن المخالف لا يستحق العقاب يوم القيامة وفقاً للقول الأول، ذلك أن أعماله متى كانت صحيحة، فإنه يكون قد أفرغ ذمته مما اشتغلت به من التكليف، عمدة ما كان أن أعماله غير مقبولة.
وهذا بخلافه على القول الثاني، فإنه يستحق العقاب، لأنه لم يمتثل أمر الله سبحانه وتعالى.
هذا وقد تمسك القائلون بالقول الأول بقوله تعالى:- (إنما يتقبل الله من المتقين)[5] على أساس أن المقصود من التقوى الواردة فيها ليست التقوى بمعناها الأخص، وهي ما جاء عن أمير المؤمنين(ع): أنها طاعة الجليل، وعمل بالتنـزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، أو ما عرفها به إمامنا الصادق(ع) من أنها: أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، بل المقصود منها معناها الأعم، وهو الموت على الإيمان والولاية، وجعل الشاهد على ذلك النصوص الواردة في تفسير هذه الآية المباركة.
والإنصاف أنه إن كانت النصوص المشار إليها فعلاً كما قيل، كان ذلك موجباً لرفع اليد عن ظاهر الآية المباركة، وإلا لو كنا وظاهر الآية لحملنا التقوى على معناها الأخص، والمسألة بحاجة إلى مزيد تأمل، ودراسة نتركها لغير هذا الموضع.
ولا يخفى أنه تظهر ثمرة كبيرة جداً، ضرورة أنه لو قلنا أن المقصود من التقوى في الآية هي خصوص التقوى بالمعنى الأخص، فإنه يلزم من ذلك عدم قبول أعمال الفاسقين، وبالتالي يكون هذا منافياً لقوله تعالى:- (فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره* ومن يعمل مثال ذرة خيراً يره)[6]، إذ أن المستفاد منهما أن كل ذي عمل يرى عمله يوم القيامة، والمقصود من رؤيته عمله جزائه، كما هو واضح.
وهذا بخلاف ما لو قلنا أن المقصود من التقوى في الآية هو المعنى الأعم، أعنى الولاية، فذلك يعني أنه تقبل أعمال الفاسقين متى ماتوا على طريق الولاية.
ويـبقى إشكال أعمال المخالف، فكيف يتصور عدم قبولها.
وجوابه واضح، حيث أن من الشرائط المعتبرة لقبول العمل أن يكون العامل موالياً لمن تجب ولايته، فما لم يكن كذلك، فقد افتقر لشرط من شروط القبول.
تلخيص لشروط القبول:
هذا ويمكن أن نلخص شروط القبول في شرطين أساسيـين وهما:
1-النية.
2-العمل.
وذلك لأن النية تقترن بالصدق، والإخلاص، والتقوى، كما أن شرط العمل الصحة والإحسان.
ولذا لو حصل خلل وفساد في النية، أو في العمل، فلن يكون مقبولاً، ويشهد لما ذكرناه، قوله تعالى:- (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)[7]، حيث أن المستفاد منها أن العمل المقبول ما كان متصفاً بكونه كلماً طيـباً، وعملاً صالحاً، ولذا صعد ورفع إليه سبحانه. والمقصود من الكلم الطيب، هو النية الصادقة، والإخلاص فيها، والإيمان والحب الإلهي، وخشية الباري سبحانه، والتقوى، والمعرفة واليقين. والجهد المبذول من الإنسان في طاعة الله سبحانه، هو العمل الصالح.
دخالة الزمان والمكان:
هذا ويمكن أن يجعل من شروط القبول أيضاً الزمان والمكان، بمعنى أن لكل واحد منهما مدخلية في قبول العمل، فربما يصدر العمل من المكلف في وقت يكون صدوره في ذلك الوقت سبباً رئيساً ومساعداً لقبوله، فالعبادة في الأشهر الحرم مثلاً، سبب من أسباب القبول فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: من صام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت، كتب الله له عبادة تسعمائة سنة[8].
وكذا صيام شهر رجب الأصب، فالعبادة فيه مثلاً لها مدخلية في قبول العمل، فعن أبي الحسن(ع) أنه قال: رجب شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات ويمحو فيه السيئات، من صام يوماً من رجب تباعدت عنه النار مسيرة مئة سنة، ومن صام ثلاثة أيام وجبت له الجنة[9]. ومثل ذلك ليلة النصف من شهر شعبان، فعن رسول الله(ص) أنه قال: فيها تنسخ الأعمال، وتقسم الأرزاق، وتكتب الآجال، ويغفر الله تعالى إلا لمشرك، أو مشاحن، أو قاطع رحم، أو مدمن مسكر، أو مصر على ذنب، أو شاعر أو كاهن[10].
وكذا يجري الكلام بالنسبة لليلة القدر، ويوم الجمعة وليلته، ويوم الغدير، ويوم عرفة، وليلة العاشر من شهر محرم، وآخر الليل، فقد ورد عنه(ص) أنه قال: أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن[11].
وكما أن للزمان مدخلية في قبول العمل، للمكان أيضاً مدخلية في قبوله، فمتى اختار المكلف مكاناً من تلك الأمكنة كان ذلك مساعداً إن لم يكن سبباً رئيسياً لقبول العمل الصادر منه، ولنشر لبعض تلك الأمكنة:
المسجد الحرام: فقد ورد عن أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: صلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة في غيره من المساجد.[12] خصوصاً لو تسنى للمكلف أن يوقع تلك الصلاة خلف المقام، فقد قال أبو جعفر الباقر(ع): من صلى عند المقام ركعتين، عدلتا عتق ست نسمات[13].
بل مكة المكرمة كلها، فقد ورد عن الإمام زين العابدين(ع) أنه قال: من ختم القرآن بمكة لم يمت حتى يرى رسول الله(ص)، ويرى منـزله في الجنة، وتسبيحة مكة تعدل خراج العراقين ينفق في سبيل الله عز وجل، ومن صلى بمكة سبعين ركعة، يقرأ في كل ركعة قل هو الله أحد، وإنا أنزلناه، وآية السخرة:- (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) إلى قوله:- (إن رحمت الله قريب من المحسنين)[14]، وآية الكرسي، لم يمت إلا شهيداً، والطاعم بمكة كالصائم فيما سواها، وصيام يوم بمكة يعدل صيام سنة فيما سواها، والماشي بمكة في عبادة الله عز وجل[15].
المسجد النبوي: فقد قال رسول الله(ص): صلاة في مسجد المدينة عشر آلاف صلاة[16].
ومثل ذلك في بيت المقدس، وكذا في مسجد الكوفة، ومسجد السهلة، ومسجد الخيف، ومسجد قبا، والكوفة، والنجف الأشرف وكربلاء المقدسة، فقد جاء عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إن مجاورة ليلة عند قبر أمير المؤمنين(ع) أفضل من عبادة سبعمائة عام، وعند قبر الحسين(ع) من عبادة سبعين عاماً[17].
وقد ذكر السيد بحر العلوم(قده) عدم اختصاص هذه المزية بالمشهدين الشريفين، العلوي والحسيني على مشرفيهما وآلهما أفضل الصلوات والتحيات، بل هي ثابتة لساير ما تحويه البلدتين المقدستين من الدور والبقاع، لظهور العندية في ذلك.
بل إن هذا الفضل جارٍ في مطلق المناطق المتضمنة لمشاهد الأئمة الأطهار(ع)، فعن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه جاءه رجل فقال له: يا بن رسول الله هل يزار والدك، قال: فقال: نعم، ويصلى عنده…قال: فما لمن أقام عنده، قال: كل يوم بألف شهر، قال: فما للمنفق في خروجه إليه والمنفق عنده، قال: درهم بألف درهم[18].
موانع القبول:
ثم إنه كما أن هناك موجبات لقبول العمل، فإن هناك موانع تمنع من قبول العمل، ولسنا هنا بصدد الحديث عن ذلك، إذ أن بحثنا ليس عن ذلك، وإنما نشير لذلك بصورة موجزة، وللتفصيل مجال آخر يطلب منه، فنقول:
منها: الإصرار على الذنوب:
فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: لا والله لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه[19].
ولعل منشأ كون الإصرار على الذنب مانعاً من القبول، هو ما تقدم من أن أحد شروط القبول أن يكون العامل متقياً، فمع كونه مصراً على الذنب، يعني انتفاء عنصر التقوى عنه، فكيف يكون عمله مقبولاً.
وإن شئت فعبر، إن الإصرار ليس ملحوظاً فيه جانب المانعية من القبول فقط، بل فيه عدم توفر المقتضي للقبول الناجم من انتفاء شرط من شروطه، وهو التقوى.
ومنها: غصب المؤمن ماله:
فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقه، لم يزل الله عز وجل معرضاً عنه، ماقتاً لأعماله التي يعملها من البر والخير، ولا يثبتها في حسناته حتى يتوب ويرد المال الذي أخذه إلى صاحبه.[20]
ومنها: عقوق الوالدين:
فقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: لو علم الله شيئاً أدنى من أف لحرمه، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار[21].
ومنها: إيذاء الزوجة زوجها:
فقد ورد عن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها، ولا حسنة من عملها حتى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر وقامت، وأعتقت الرقاب، وأنفقت الأموال في سبيل الله، وكانت أول من يرد النار، ثم قال: وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان مؤذياً ظالماً[22].
ومنها: كسب الحرام وأكله:
فقد قال رسول الله(ص): إن أحدكم ليرفع يديه إلى السماء فيقول: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، فأي دعاء يستجاب لهذا وأي عمل يقبل منه، وهو ينفق من غير حل، إن حج حراماً، وإن تصدق تصدق بحرام، وإن تزوج تزوج بحرام، وإن صام أفطر على حرام، فيا ويحه، أما علم إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، وقد قال الله تعالى في كتابه:- (إنما يتقبل الله من المتقين)[23].
ومنها: عدم ولاية أهل البيت:
فقد جاء عن أبي عبد الله الصادق(ع)-في دعاء طويل- أنه قال: ومن لم يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي، أو شهد بذلك ولم يشهد أن محمداً عبدي ورسولي، أو شهد بذلك ولم يشهد أن علي بن أبي طالب خليفتي، أو شهد بذلك ولم يشهد أن الأئمة من ولده حججي فقد جحد نعمتي، وصغّر عظمتي، وكفر بآياتي وكتبي، إن قصدني حجبته، وإن سألني حرمته، وإن ناداني لم أسمع نداءه، وإن دعاني لم استجب دعاؤه، وإن رجاني خيـبته، وذلك جزاؤه مني وما أنا بظلام للعبيد[24].
ومنها: العبادة بلا ورع:
فقد قال رسول الله(ص): لو صليتم حتى تكونوا كالأوتار، وصمتم حتى تكونوا كالحنايا، لم يقبل الله منكم إلا بورع[25].
مراتب القبول:
بقي أن نشير بصورة موجزة أن للقبول مراتب متفاوتة تختلف حسب اختلاف الإيمان، فكل مرتبة بحسب ما للإنسان من إيمان، فأكمل الناس إيماناً، أحسنهم قبولاً لعلمه.
عملكم فيه مقبول:
ثم إنه بعدما تعرفنا على حقيقة العمل، ومتى يكون مقبولاً، وموانع القبول، ينبغي أن نصرف البحث للحديث حول معنى العبارة التي أشارت إليها(ص)، وهو كون العمل مقبولاً، ففي هذه العبارة احتمالان:
الأول: أن يكون المقصود من العبارة أن شروط القبول المعتبرة في قبول الأعمال، لا يجب توفرها كلها في هذا الشهر الشريف، فتكون ميزة لهذا الشهر على بقية الشهور.
الثاني: أن يكون المقصود أن للزمان خصوصية في القبول، كما عرفت، وواحد من الأزمنة الدخيلة في قبول العمل هو شهر رمضان المبارك، فيكون موجب القبول وجود شرط من شروط القبول مضافاً لبقية الشروط الأخرى.
والفرق بين هذين الاحتمالين واضح، ذلك أن أولهما أوسع دائرة من ثانيهما، كما أنه ووفقاً للأول، فلا يعتبر توفر الشروط المعتبرة للقبول في هذا الشهر، بعكس الثاني، فإنها معتبرة.
هذا والظاهر أن الاحتمال الأول، هو المتعين، وذلك لأنه لو بنينا على الاحتمال الثاني، فإنه وإن كان امتيازاً للشهر الشريف من حيث الزمان، إلا أن ذلك الامتياز على بعض الشهور وليس جميعها، لأنه يشترك جملة من الأزمنة مع الشهر الشريف في هذه الخصوصية، كشهر رجب، وشهر شعبان، والأشهر الحرم، وهكذا.
فتحصل أن المقصود من العبارة هو توسعة الدائرة، ليقال بأن من الخصوصيات التي يمتاز بها الشهر الشريف أن قبول الأعمال فيه لا يعتبر فيها توفر الشروط، بل إن القبول يحصل ولو لم تكن الشروط متحققة، فكل عمل يصدر من المكلفين وكان مستجمعاً لشروط الصحة، فإنه يكون مقبولاً.
وهذا لا يختص بخصوص من كان مسلماً، بل هو جارٍ في الجميع، وفقاً لما سبق منا البناء عليه من العمومية في الخطاب، فلا تنسى.
——————————————————————————–
[1] سورة آل عمران الآيات رقم 35-37.
[2] سورة المائدة الآية رقم 27.
[3] جامع أحاديث الشيعة ب 4 من أبواب كيفية الصلاة ح 19.
[4] سورة المائدة الآية رقم 27.
[5] سورة المائدة الآية رقم 27.
[6] سورة الزلزلة الآيتان رقم 6-7.
[7] سورة فاطر الآية رقم
[8] وسائل الشيعة ج 10 ص 470.
[9] بحار الأنوار ج 94 ص 37.
[10] مصباح المتهجد ص 584.
[11] المواعظ العددية ص 88.
[12] ثواب الأعمال ص 30.
[13] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 134.
[14] سورة الأعراف الآيات رقم 54-56.
[15] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 146.
[16] بحار الأنوار ج 99 ص 378.
[17] الذريعة ج 20 ص 252.
[18] كامل الزيارات ص 37.
[19] أصول الكافي ص 447.
[20] عقاب الأعمال ص 273.
[21] مسند زيد بن علي ص 488.
[22] وسائل الشيعة ج 7 ص 116.
[23] إرشاد القلوب ج 1 ص 107.
[24] إرشاد القلوب ص 419.
[25] بحار الأنوار ج 84 ص 258.