تأملات في الخطبة الشعبانية (3) – العطاءات الثلاثة (1)

لا تعليق
من القلب إلى القلب
104
0

البـركة

روى الشيخ الصدوق(ره)عن الإمام الرضا(ع) عن آبائه(ع) عن أمير المؤمنين(ع) قال: إن رسول الله(ص) خطبنا ذات يوم، فقال: أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات[1].

مدخل:

بعدما تحدث(ص) عن أن شهر رمضان المبارك، هو شهر الله سبحانه وتعالى، جاء يستعرض ما يتضمنه هذا الشهر من عطايا، فذكر أنه يحمل في طياته ثلاثة عطاءات رئيسة:

الأول: البركة.

الثاني: الرحمة.

الثالث: المغفرة.

ولنـتحدث عن كل واحد من هذه الأمور بما يتناسب والمقام.

البـــــركة:

أول العطاءات الثلاثة هو البركة، وقد ذكر اللغويون في معناها أنها دوام الخير وثبوته بالزيادة والنماء.

ووفقاً لهذا التعريف يمكن تعداد جملة من المصاديق، فالبركة في النسل تكون بكثرة الأعقاب، أو ببقاء الذكر خالداً، والبركة في الطعام تكون من خلال إشباع خلق كثير، والبركة في الوقت من خلال أن يتسع الوقت لعمل أكثر مما يتصور فيه، وهكذا[2].

هذا ولا يخفى أن منشئ البركات هو الباري سبحانه وتعالى، قال تعالى:- (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)[3]. وقال(ص): يا قاضي الحاجات، يا راحم العبرات، يا منجح الطلبات، يا جاعل البركات.

وليس في صفحة الوجود من مخلوق إلا ويحظى بالبركات الإلهية وفقاً لما لديه من قابلية واستعداد.

ووفقاً لما ذكر فذلك يعني أن البركة الإلهية غير محددة بوقت دون وقت، أو زمان دون آخر، ولا مكان دون مكان، بل هي حاصلة في جميع ذلك، فلماذا التخصيص بهذا الشهر المبارك دون بقية الشهور؟…

إن المستفاد من النصوص الشريفة أن هناك تفاوتاً بين العبادات بحسب اختلاف الأوقات، بمعنى أن العبادة المعينة لو أنها أديت في هذا الوقت كان فضلها أكثر مما لو أديت في وقت آخر، مثلاً صلاة جعفر الطيار، من المستحبات المؤكدة، ويمكن للإنسان أن يؤديها متى شاء وأراد، لكنه لو أداها يوم الجمعة، لكان ثوابه أفضل مما لو أدها بقية أيام الأسبوع، ولو أداها في شهر رمضان المبارك وفي جمعة منه كان ذلك أفضل من جمعة في شهر آخر، ولو كانت آخر جمعة من شهر رمضان المبارك لكان ذلك أكثر فضلاً، كل ذلك لماذا؟…

إن ذلك يعود لأن ليوم الجمعة خصوصية وفضلاً يمتاز به على بقية الأيام، وللجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك خصوصية إضافية على بقية الجمع، في الشهر نفسه، لما ورد فيها العتق وما شابه.

وكذا أيضاً نجد فضل الصيام في شهر رجب الأصب، فقد ورد عن أبي الحسن(ع) أنه قال: رجب شهر عظيم، يضاعف الله فيه الحسنات ويمحو فيه السيئات، من صام يوماً من رجب تباعدت عنه النار مسيرة مئة سنة، ومن صام ثلاثة أيام وجبت له الجنة[4].

وهكذا نجد أن ليلة النصف من شهر شعبان المعظم أيضاً لها مدخلية في الأجر والثواب، فقد ورد في شأنها أنه قال(ص): فيها تنسخ الأعمال، وتقسم الأرزاق، وتكتب الآجال، ويغفر الله تعالى إلا لمشرك أو مشاحن، أو قاطع رحم، أو مدمن مسكر، أو مصر على ذنب، أو شاعر أو كاهن[5].

وبالجملة، إن المستفاد مما ذكر أن للزمان مدخلية في زيادة الأجر والثواب المجعول على العمل الصادر من الإنسان.

هذا وواحد من الأزمان ذات الامتياز المذكور هو شهر رمضان المبارك، فكونه شهر البركة يعني أن له مدخلية في زيادة الأجر والثواب، فكل عمل يصدر من الإنسان فيه يكون مضاعفاً، وقد أشارت النصوص الشريفة لهذا المعنى، فقد ورد عن إمامنا الرضا(ع) أنه قال: الحسنات في شهر رمضان مقبولة، والسيئات فيه مغفورة، من قرأ في شهر رمضان آية من القرآن كان كمن ختم القرآن في غيره من الشهور، ومن ضحك في وجه أخيه المؤمن لم يلقه يوم القيامة إلا ضحك في وجهه، وبشره بالجنة، ومن أعان فيه مؤمناً أعانه الله تعالى على الجواز على الصراط، يوم تزول فيه الأقدام، ومن كف فيه غضبه كف الله عنه غضبه يوم القيامة، ومن أغاث ملهوفاً آمنه الله من الفزع الأكبر يوم القيامة، ومن نصر فيه مظلوماً نصره الله على كل من عاداه في الدنيا ونصره يوم القيامة عند الحساب والميزان، رمضان شهر البركة والرحمة وشهر المغفرة وشهر التوبة، وشهر الإنابة، من لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له[6].

فإن هذه النصوص تؤكد معنى كون شهر رمضان المبارك بركة، من خلال بيانها لما يتحصل عليه الصائمون في هذا الشهر، وتضاعف الأجر الحاصل لهم نتيجة ما يقومون به من عمل. فأي ثواب أعظم بركة من هكذا ثواب، إن الآية في شهر رمضان المبارك تعدل ختمة في غيره من الشهور، وإن الحسنة فيه تساوي ألفاً في غيره من الشهور، وإن النفس فيه تسبيح، وإن النوم فيه عبادة.

ووفقاً لما ذكرنا، يمكن القول أن من كان مجتهداً طيلة عامه، لكنه كسل أثناء شهر رمضان، ومن كسل طيلة عامه، لكنه اجتهد أثناء رمضان، ربما كان الثاني فائزاً على الأول وأفضل منه أجراً وثواباً.

شهر رمضان سبب البركة:

على أنه يمكن أن يوجه إقبال الشهر المبارك بالبركة بوجه آخر، وذلك من خلال ملاحظة أن للبركة أسباباً لابد من تحققها خارجاً حتى تحصل البركة، كما أن هناك موانعاً وجودها يمنع من حصول البركة، ومن الأسباب التي تساعد على حصول البركة، شهر رمضان المبارك، فقد جاء عن رسول الله(ص) أنه قال: شهر رمضان شهر الله عز وجل، وهو شهر يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، وهو شهر البركة.

وقال(ص) أيضاً: إن شهر رمضان شهر عظيم، يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات ويرفع فيه الدرجات، من تصدق في هذا الشهر بصدقة غفر الله له، ومن أحسن فيه إلى ما ملكت يمينه غفر الله له، ومن حسن فيه خلقه غفر الله له.

وعن إمامنا الباقر(ع) أنه قال: إن لله تعالى ملائكة موكلين بالصائمين، يستغفرون لهم في كل يوم من شهر رمضان إلى آخره، وينادون الصائمين كل ليلة عند إفطارهم: أبشروا عباد الله، فقد جعتم قليلاً وستشبعون كثيراً، بوركتم وبورك فيكم.

فإن المستفاد من هذه النصوص أن السبب في تحصيل المكلف لما جاء فيها من الأجر والثواب سببه هو شهر رمضان المبارك.

وبعبارة أخرى، كما أن للزمان دوراً في زيادة الأجر والثواب وفقاً لما عرفت فيما تقدم، يمكن القول أن للزمان أيضاً دوراً في حصول البركة، وواحد من الأزمنة ذات التأثير في حصول البركة، شهر رمضان المبارك.

وبالجملة، إن المغبون حقاً هو من لم يستثمر هذا الشهر عبادة وطاعة، وتهجداً ودعاءاً.

ومما يؤسف له أن الكثيرين من المؤمنين اليوم، يقضون ليالي هذا الشهر الشريف وأيامه، تحت شاشات التلفاز متابعين لما يعرض عليها من مسلسلات يكثر عرضها في هذا الشهر، أو ربما يقضون أوقاتهم في المجالس والديوانيات مشتغلين بجملة من الألعاب والملاهي من الدومنة والورقة وما شابه، وكأن ساعات هذا الشهر المبارك لابد من إضاعتها عوضاً عن استثمارها، وقد غاب عن أذهانهم أنه كما أن هذا الشهر المبارك شهر البركة، فتضاعف فيه الحسنات، فإنه تضاعف فيه السيئات أيضاً، وذلك لأن الزمان كما أن له خصوصية في زيادة الأجر والثواب، فإن فعل المعصية فيه أيضاً سبيل إلى مضاعفة العقوبة، بمعنى أن للوقت حرمة، فمن انتهكها استحق حينها عقوبة مضاعفة، لأن دواعي ترك الذنوب في شهر رمضان متوفرة، فلو تجاوز الفرد ولم يتأثر بهذه الدواعي كان فعله أقبح من ارتكاب الذنب في الأشهر الأخرى، ومنشأ توفر دواعي ترك الذنب، كون الشياطين مغلولة فيه.

نسأل الله سبحانه وتعالى الهداية والصلاح لكافة المؤمنين والمؤمنات في أيام هذا الشهر ولياليه.

——————————————————————————–

[1] فضائل الأشهر الثلاثة ص 61، أمالي الصدوق ص 149، عيون أخبار الرضا ج1، الإقبال ص 26، بحار الأنوار ج 96 ص 356.

[2] أشار لهذا المعنى السيد العلامة الطباطبائي(ره) في الميزان ج 7 ص 381.

[3] سورة آل عمران آية رقم 26.

[4] بحار الأنوار ج 94 ص 37.

[5] مصباح المتهجد ص 584.

[6] بحار الأنوار ج 93 ص 341.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة