مدخل:
تـتجلى أهمية سورة الفاتحة من خلال ملاحظة عدة جوانب وأبعاد، حيث أنها من السور القرآنية التي قيل بتكرر نزولها مرتين، مرة في مكة، وأخرى في المدينة، كما أنها السورة التي قيل أنها تتضمن العديد من المضامين والمفاهيم القرآنية، بل قيل أنها تحوي جميع ما جاء في القرآن الكريم من مفاهيم وعلوم، ويكفي أنها السورة التي يقرأها الإنسان كل يوم وليلة في صلاته التي تمثل الرابط الأساس بينه وبين ربه خمس مرات.
وما ذكرناه وغيره من الأمور أوجب أهمية خاصة لسورة الفاتحة ما بين السور القرآنية، ولذا أحببنا أن نجعل حديثنا حول هذه السورة الشريفة، وما يمكن أن يستفاد منها، من خلال ما يستفاد من كلمات أعلام التفسير وغيرهم من الأعلام(رض).
فضل سورة الفاتحة:
هذا وينبغي قبل الحديث حول تفسير السورة الشريفة، أن نشير إلى فضلها، مما ورد في النصوص الواردة عن أهل البيت(ع)، فقد روى شيخنا الصدوق(ره) بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله(ص): من عليّ ربي وقال لي: يا محمد أرسلتك إلى كل أحمر وأسود، ونصرتك بالرعب وأحللت لك الغنيمة، وأعطيت لك ولأمتك كنـزاً من كنوز عرشي: فاتحة الكتاب، وخاتمة سورة البقرة.
حيث يستفاد من هذا الحديث أن سورة الفاتحة من الكنوز التي وهبت للأمة المرحومة، أمة النبي(ص)، وليس هذا الكنـز كنـزاً عادياً، بل هو من الكنوز الخاصة كونه من كنوز العرش، مما يعطيه أهمية خاصة يمتاز بها دون بقية الكنوز كما هو واضح.
ومنها: ما جاء في تفسير العياشي مرفوعاً عن النبي(ص) قال: قال رسول الله(ص) لجابر بن عبد الله: يا جابر ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟ قال: فقال جابر: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله علمنيها، قال: فعلمه الحمد لله أم الكتاب، قال: ثم قال له: يا جابر ألا أخبرك عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي فأخبرني، قال: هي شفاء من كل داء إلا السام، يعني الموت.
ومن الواضح ما تضمنه الحديث الشريف من بيان لمدى فضيلة سورة الفاتحة، حيث أشار إلى أمرين أساسيـين:
أولهما: أنها أفضل سورة أنزلت في القرآن الكريم من الباري سبحانه وتعالى على رسوله الكريم(ص).
ثانيهما: أنها شفاء من كل داء، ما عدى الموت، لأنه لا مجال للتصرف فيه بعدما يحين الوقت ويحل الأجل.
نعم هناك بعض النصوص قد تضمنت أن هذه السورة لو قرأت على ميت لعادت له الروح، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: لو قرأت الحمد على ميت سبعين مرة، ثم ردت فيه الروح ما كان عجباً.
وورد أيضاً: عن النبي(ص) في مكارم الأخلاق أنه قال: في الحمد سبع مرات شفاء من كل داء، فإن عوذ بها صاحبها مائة مرة وكان الروح قد خرج من الجسد ردّ الله عليه الروح.
ولعل مقتضى الجمع والتوفيق بينهما، أن المراد من الميت ليس الميت حقيقة، بمعنى الذي لم تخرج روحه من جسده بعد، وإنما يراد به المريض الذي يعدّ بمثابة الميت نتيجة استعصاء علاجه، واليأس من شفائه.
كما يحتمل أنها ناظرة إلى الأجل الذي يمكن حصول البداء فيه، ويمكن أن يتغير القرار بالنسبة له، لأن من المعلوم أن هناك أجلين للإنسان، أجلاً مخروماً، وهو الذي يمكن أن يحصل فيه التغيـير والتبدل، نتيجة صدور مجموعة من الأعمال مثلاً من الإنسان كالصدقة، وما شابه مما يؤدي إلى زيادة في العمر والأجل، وأجلاً آخر هو الأجل المحتوم الذي لا يتصور فيه قابلية التغير والتبدل، بل متى حل الأجل فلا مجال للتغيـير والتبدل أصلاً. وعليه نقول، بأنه من المحتمل أن تكون تلك النصوص ناظرة إلى الأجل المخروم، لا الأجل المحتوم، ويكون النص الذي نحن بصدد الحديث عنه ناظراً إلى الأجل المحتوم.
ومن النصوص التي تشير إلى فضل هذه السورة وما لها من أثر على القارئ لها، ما ورد عن الإمام الحسن العسكري عن آبائه عن الإمام الصادق(ع) قال: من نالته علة فليقرء في جيـبه سورة الحمد سبع مرات، فإن ذهبت العلة وإلا فليقرأها سبعين مرة، وأنا الضامن له العافية.
ودلالة هذا النص على مدى أهمية هذه السورة وبيان فضلها واضح لا يحتاج بياناً، لكنه ربما يتسائل البعض فيقول: إننا نقرأ هذه السورة، لكننا لا نحرز ما ورد فيها من أثر، فكم قرأناها على مرضانا لكننا لم نحصل الشفاء، فما معنى ذلك؟…
لا ريب في أن الإمام المعصوم(ع) بعيد كل البعد عن أن يحتمل فيه الكذب، لكننا نجيب بأنه هناك أمرين لابد من الالتفات إليهما في مثل هكذا موارد:
الأول: أن هناك مصالح لا يطلع عليها الإنسان، بحيث ربما كانت المصلحة في أن يكون الإنسان مبتلى بالمرض، لأن المرض مثلاً ليس دائماً وأبداً أمراً ضاراً، فكم من إنسان كان مرضه سبباً من الأسباب الأساسية في بلوغه مرتبة الأولياء والصلحاء والأتقياء.
كما أن هناك أشخاصاً يكون المرض سبباً لعدم ارتكابهم المعاصي وإقدامهم على السيئات، بحيث يكون المرض بمثابة المانع من الوقوع في الخطيئة وارتكاب المعصية.
إذن، ربما كان بقاء المرض على سبيل المثال، لمصلحة لا يطلع عليها العبد، هي التي قضت بقاء الأمر على حاله، وعدم تغيره، ومن الواضح أن هذا ليس تكذيـباً للحديث الصادر من المعصوم، بل ملاحظة المصلحة التي لا يمكن للإنسان أن يطلع عليها.
الثاني: هناك مجموعة من الظروف الموضوعية، لابد من توفرها لكي يفيض الله سبحانه وتعالى على عباده نعمه، فما لم تـتوفر تلك الظروف، فلا ريب في أن الإنسان لن يكون محلاً لإفاضة النعمة الإلهية عليه، وذلك بسبب عدم وجود القابلية عنده، نعم كرم الله سبحانه لا حدّ له، فإنه يفيض على عباده، حتى لو لم يكونوا أهلاً لذلك رحمة منه بهم ورأفة عليهم.
فإذا لم يعطَ شخص من الأشخاص ما يؤمل، فإن السبب ربما كان هو، لا البخل الإلهي، ولا عدم صحة الأمر كما لا يخفى.
ثم إن هذا الذي ذكرناه في المقام، يجري أيضاً بالنسبة إلى الدعاء، فلو لم يستجب الدعاء، فذلك يعود لأحد السببين اللذين ذكرناهما.
ومن النصوص التي تضمنت الاستشفاء بسورة الفاتحة، ما جاء في كتاب طب الأئمة، بالإسناد عن إسماعيل بن أبي زياد عن الصادق(ع) قال: كان رسول الله(ص) إذا كسل أو أصابته عين أو صداع بسط يديه فقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين، ثم يمسح بها وجهه، فيذهب عنه ما كان يجد.
ومن النصوص التي تضمنت بيان ثواب قراءة هذه السورة، ما جاء عن رسول الله(ص) أنه قال: من قرء فاتحة الكتاب أعطاه الله بعدد كل آية أنزلت من السماء، فيجزى بها ثوابها.
محل نزول سورة الفاتحة:
وقع الكلام بين المفسرين، في أن سورة الفاتحة، هل نزلت في مكة، فتكون سورة مكية، أم أنها نزلت في المدينة، وهذا يعني أنها ستكون سورة مدنية، أم أنها نزلت مرتين، مرة في مكة المكرمة، ومرة أخرى في المدينة المنورة؟…وجوه وأقوال:
أما نزولها في مكة المكرمة، فكان بعد نزول سورة العلق وهي أول ما نزل على رسول الله(ص)، وأما نزولها في المدينة المنورة، فقد نزلت عندما أمر رسول الله(ص) بتحويل القبلة من بيت المقدس، إلى الكعبة المشرفة.
وربما يشهد لكونها نزلت في مكة ما هو محل اتفاق أن رسول الله(ص) كان يصلي فيها ومعه أمير المؤمنين(ع) وسيدتنا خديجة(رض)، ومن المعلوم أنه ما كان(ص) يصلي من دون فاتحة الكتاب، فيثبت أنها نزلت ومن ثمّ جاء تشريع الصلاة.
كما يشهد لذلك ما جاء في سورة الحجر وهو قوله تعالى:- (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم)، بقرينة النصوص التي دلت على أن المراد من السبع المثاني هو سورة الفاتحة، ومن المعلوم أن سورة الحجر من السور المكية، فيثبت أن سورة الفاتحة مكية.
وأما نزولها في المدينة، فالظاهر أنه مورد اتفاق بحيث لا خلاف فيه بين المفسرين، فيثبت المطلوب من تكرر نزولها مرتين.
غايات سورة الفاتحة:
الظاهر أن غاية هذه السورة هو إثبات الأصول الخمسة، حيث اشتملت على ذلك بشكل واضح، فإنها تعرضت للحديث عن توحيد العبادة لله سبحانه،(إياك نعبد وإياك نستعين) بحيث تكون العبادة محصورة فيه، لا يشاركه فيها غيره، ومن الواضح أنه لن يصل المكلف إلى توحيد العبادة إلا بعد الفراغ عن إثبات الوجود للذات المقدسة، وإثبات وحدانيتها بالتوحيد الأحدي والتوحيد الواحدي، وما لم يكن كذلك، فلن يصل إلى توحيد العبادة كما هو واضح لا يخفى على أحد.
ولا يخفى على أحد أن الناس ليسوا في ذلك شرع سواء من حيث القبول والتصديق بما جاء به الأنبياء والرسل، بل إنهم ما بين مصدق وما بين مكذب، من هنا يمكن القول بأن قوله تعالى:- (إياك نعبد وإياك نستعين) مشير إلى حال الناس أيضاً من حيث قبولهم للرسالة وعدمه، بحيث أن فيهم من يقبل ويصدق، وأن فيهم من لا يقبل ولا يصدق بذلك. نعم دواعي عدم القبول تختلف من فرد لآخر، وربما اجتمعت واتفقت في بعض الأفراد.
كما أنها تعرضت إلى الإشارة إلى المعاد والحشر ولزوم الإيمان بهما(مالك يوم الدين) ومن الواضح أن الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، هي الوصول إلى الإيمان بالمبدأ والمعاد مع الإيمان لله سبحانه وتعالى بالوحدانية.