التغيـير الجذري:
هذا هو البعد الأول من أبعاد الهدف الرئيس من نزول القرآن الكريم، وهو التغيـير الجذري، وهو ما يعبر عنه بلغة اليوم بالثورة ،وقد عبر عنه القرآن الكريم، بعملية الإخراج من الظلمات إلى النور، قال تعالى:- ( يخرجهم من الظلمات إلى النور)[o1]
على أساس قاعدة:- ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[o2] ، وقال سبحانه:- ( ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[o3] .
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البعد في آيات عديدة تضمنت الهدف الأصلي من القرآن، كما تضمنت أيضاً الهدف الأصلي من مهمة النبي(ص)، قال تعالى:- ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)[o4]
وقال عز من قائل:- ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)[o5]
ففي هذه الآيات يشير القرآن الكريم إلى أن عملية التغيـير الجذري التي يعبر عنها بعملية الخروج من أحد القطبين المتناقضين إلى القطب الآخر(النور والظلمات)، ليست فقط من الأهداف التي يحققها ويتصف بها، كما في الآية الأولى، بل هي الهدف من أصل نزول القرآن، كما في الآية الثانية والثالثة.
ويؤكد هذا ما جاء في القرآن الكريم من وصف الله سبحانه بأنه:- ( نور السموات والأرض) الذي يعني أن هذا النور هو(الله) سبحانه، فكيف يكون الهدف من القرآن تغيـير هذا الإنسان تغيـيراً يجعله مرتبطاً بالله تعالى:- ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم)[o6]
ومما يلقي الضوء على أن عملية التغيـير الجذري أعني الإخراج من الظلمات إلى النور، هي الهدف الرئيس، ما أشير إليه في القرآن الكريم من ربط هذه العملية بشكل متضاد ومتعاكس بتوجهات علاقات الإنسان المؤمن والكافر بالقطبين(الله) و (الطاغوت) في مختلف مجالات حياته وممارساته ونتائج مسيرته:- ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً)[o7]
وقال سبحانه وتعالى:- ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)[o8]
كما أننا نلاحظ تصريح القرآن الكريم بأن الهدف الرئيس الذي وضع على عاتق الرسل هو تحقيق هذا الهدف، يقول تعالى:- ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)[o9]
وإنما كان الأمر كذلك، لأن ولاء الله يعني الخروج من الظلمات إلى النور، وولاء الطاغوت هو الخروج من النور إلى الظلمات، و( الصيرورة) إلى الجنة والنار، إنما تكون على أساس هذا الولاء، قال تعالى:- ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)[o10] .
ولعل التعبير بالمفرد عن النور، وبالجمع عن الظلمات للإشارة إلى أن طريق الله واحد، بينما يأخذ الطريق إلى الطاغوت أشكالاً متعددة، لأن الله واحد والطاغوت متعدد.
شمولية عملية التغيـير الاجتماعي:
وقد أشار القرآن الكريم إلى الأبعاد الشمولية لعملية التغيـير هذه، بحيث يكوّن لنا صورة عن أعماق الجذور التي تـتناولها هذه العملية التغيـيرية:- ( يخرجهم من الظلمات إلى النور)، وذلك عندما تحدث عن مهمة النبي محمد(ص) تجاه أهل الكتاب:- ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)[o11]
وكذلك عندما تحدث عن مهمة النبي تجاه( الأميـين) من الناس، قال تعالى:- ( هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[o12]
أولو العزم ومهمة التغيـير الاجتماعي:
ولعل هذا البعد هو الذي يميز مهمة الأنبياء أولي العزم من الرسل عن غيرهم من أنبياء الرسالات، حيث قد يكون المقصود من تلاوة الآيات:- ( يتلو عليهم آياته) هذا البعد من العملية التغيـيرية.
وقد تكون الآية التي وردت في سورة إبراهيم بشأن موسى(ع) تشير إلى هذه الحقيقة، قال تعالى:- ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)[o13]
خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنها وردت في سياق قوله تعالى:- ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)[o14] .
حيث قد يكون المقصود هو المقارنة بين المهمة الأصلية للنبي محمد(ص) من خلال القرآن الكريم، ومهمة موسى (ع) التغيـيرية.
المنهج الصحيح للتغيـير:
وهذا التغيـير بطبيعة الحال يحتاج إلى ( منهج صحيح) وطريق مستقيم يمثل (البعد الثاني) للهدف، ويتمثل هذا المنهج بالكتاب والحكمة، قال تعالى:- ( ويعلمهم الكتاب والحكمة).
ومن الواضح أن (الكتاب) يمثل الشريعة والدين، و (الحكمة) التي تمثل معرفة الحقائق الكونية والروحية والقوانين والسنن العامة التي تـتحكم في الوجود، وفي تأريخ الإنسان وحركته وتطوره، وتؤثر على سعادته وشقائه.
ومن هنا جاء القرآن الكريم ليرسم هذا الطريق، فهو المنهج الشامل الذي يحدد العلاقات العامة في هذا الكون، ويمثل الإنسان المحور الرئيس فيه، ويتعرض لكل نواحي حياة الإنسان ويتناول تفاصيلها، كما أنه يحدد المواقف تجاه كل القضايا، ولا يخـتص بجماعة من الناس دون أخرى، بل يتكفل مسيرة الإنسانية، حاضرها ومستقبلها، قال تعالى:- ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً)[o15]
وقال عز من قائل:- ( ونـنـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً)[o16]
ويقول سبحانه:- ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)[o17]
وهذا المنهج الصحيح هو الذي يعبر عنه القرآن الكريم في مواضع عديدة بالصراط المستقيم، والذي يمثل الطريق إلى الكمال الإنساني، وتمام النعمة للبشرية، ومنـتهى طموحاتها وآمالها، قال تعالى:- ( اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)[o18] .
وقال سبحانه:- ( قل إنـني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)[o19]
ويقول تعالى:- ( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين* شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم)[o20] .
خلق القاعدة الثورية:
إن عملية التغيـير الاجتماعي الجذري تحتاج أيضاً بطبيعة الحال، إلى خلق( القاعدة الثورية) التي تمثل (البعد الثالث) للهدف، ولعل هذا هو المراد بما أشير له في عدة آيات من القرآن بالتـزكية، في قوله تعالى:- ( ويزكيهم).
ولذلك سعى القرآن إلى خلق هذه القاعدة الثورية، وأعطى ذلك أهمية خاصة، واهتم بمعالجة القضايا الآنية والمستجدة التي يعيشها الرسول بشكل خاص، وتابع الأحداث التي كانت تواجه الرسالة، واتخذ المواقف تجاهها ليحقق هذا الهدف العظيم.
ومن الواضح أن خلق هذه القاعدة وتكوينها في الوقت الذي يمثل مهمة صعبة وبالغة التعقيد، كذلك يمثل دوراً ذا أهمية في مستقبل الرسالة وقدرتها على البقاء والاستمرار، إضافة إلى قدرتها على الشمول والانـتشار.
فإضافة إلى البعد الكيفي في عملية التغيـير التي استهدفها القرآن، كان هناك بعد كمي في الهدف يتوخى بشكل خاص أن يقوم النبي ببناء القاعدة للرسالة بحيث يمكن لهذه الرسالة بعد رحيل الرسول الأعظم(ص) وانقطاع الوحي أن تستمر وتنـتشر من خلال هذه القاعدة التي أولاها القرآن الكريم أهمية خاصة، وأعطاها قسطاً كبيراً وحظاً وافراً، كما نلاحظ ذلك في مجمل الآيات التي تناولت الأحداث في عصر الرسالة وتفصيلاتها، وكذلك بعض التقاليد والعادات والقوانين، إضافة إلى عنصر اللغة وأساليـبها في القرآن.
الأهداف الأخرى:
هذا ومن خلال هذا التفسير للهدف القرآني الرئيس، يمكن أن نفهم دور الأهداف الأخرى في تحقيق هذا الهدف، إضافة إلى موقعها الأصلي من الهدف الرئيس، فضلاً عن أن يكون كل واحد منها هو الهدف الرئيس.
الإنذار والتـذكير:
فالإنذار والتذكير اللذان ورد في القرآن ذكرهما كهدف لنـزوله، كما في بعض الآيات التي استعرضناها، كذلك ورد ذكرهما كمهمة يتولاها الأنبياء في عملهم، هذا الإنذار يمثل جزءاً من مهمة الأنبياء، وجانباً من الهدف القرآني والأسلوب الرئيس لتحقيق عملية التغيـير الاجتماعي.
ويتضح ذلك عندما نلاحظ( الإنذار) مذكوراً إلى جانب قضايا أخرى يتكفلها القرآن والنبي، قال تعالى:- ( قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)[o21]
فالموعظة إلى جانب الشفاء والهدى والرحمة. ويقول تعالى:- ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)[o22] .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جانب تحليل الطيـبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال، كما أن الإنذار يقترن في كثير من الآيات بالبشارة، يقول تعالى:-
( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيـين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)[o23] .
ولعل هذه الآية تلقي الضوء بشكل واضح على دور الإنذار في القرآن وعمل النبيـين، وأن الإنذار مهمة يقوم بها النبي إلى جانب الكتاب الذي يحكم بالحق ويحل الاختلافات ويهدي إلى المنهج والصراط المستقيم.
وإذا عرفنا أن المعادلة الأصلية للدين تـتوقف على قضية (الإنذار) بالعقاب و
( البشارة)بالثواب في الدار الآخرة، عرفنا السبب في تأكيد القرآن الإنذار هدفاً لنـزوله ومهمة الأنبياء، وذلك أن صورة الحياة ومقايـيسها التي يعتمدها الدين في القسط والميزان ترتبط بشكل رئيس بقضية الحياة الآخرة والبشارة بالثواب والإنذار بالعذاب فيها.
وإقامة الحجة على الناس تجاه القضايا التي يطرحها الدين والنبي تدخل كعنصر أساسي في هذه المعادلة، ولذا أكد القرآن هذا المفهوم.
وبالجملة نجد أن كل الأهداف الأخرى على أهميتها من ضرب الأمثال، والفصل وحسم الخلاف، وتصديق الرسالات، وغير ذلك، كلها أهداف فرعية بالنسبة إلى الهدف الأساس، وهي تساهم في تحقيقه إلى حدٍ بعيد.
——————————————————————————–
[o1]سورة البقرة الآية رقم 257.
[o2]سورة الرعد الآية رقم 11.
[o3]سورة الأنفال الآية رقم 53.
[o4]سورة المائدة الآية رقم 15-16.
[o5]سورة إبراهيم الآية رقم 1.
[o6]سورة النور الآية رقم 35.
[o7]سورة النساء الآية رقم 76.
[o8]سورة الزمر الآية رقم 17-18.
[o9]سورة النحل الآية رقم 36.
[o10]سورة البقرة الآية رقم 257.
[o11]سورة الأعراف الآية رقم 157.
[o12]سورة الجمعة الآية رقم 2.
[o13]سورة إبراهيم الآية رقم 5.
[o14]سورة إبراهيم الآية رقم 1.
[o15]سورة الإسراء الآية رقم 9.
[o16]سورة الإسراء الآية رقم 82.
[o17]سورة النحل الآية رقم 89.
[o18]سورة الفاتحة الآية رقم 6-7.
[o19]سورة الأنعام الآية رقم 161.
[o20]سورة النحل الآية رقم 120-121.
[o21]سورة يونس الآية رقم 57.
[o22]سورة الأعراف الآية رقم 157.
[o23]سورة البقرة الآية رقم 213.