ظهور بعض الآيات في عدم الوجوب:
ثم إنه قد يمنع من الحكم بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، استناداً إلى بعض الآيات القرآنية، بدعوى ظهورها في ذلك، فتشكل قرينة للتصرف في ظهور الآيات المدعى دلالتها على الوجوب، فتحمل على الاستحباب، ومثل ذلك يكون ظهور النصوص أيضاً، وعليه لن يكون حكم العقل بالوجوب، وإنما سوف يكون مفاده محبوبية هذا العمل، وحسنه ليس إلا.
فمن تلك الآيات قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، وتقريب دلالتها على عدم الوجوب بلحاظ ظهورها في أن المطلوب من كل مكلف القيام بحفظ نفسه من خلال إتيانه بما أمر به من أعمال، وتركه لما نهي عنه، ولا ربط له بأعمال الغير أياً ما كانت أفعالهم، وهذا يعني عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضرورة أنه نوع مراقبة للأفعال الصادرة من الآخرين، ونحو متابعة إليها، فتدبر.
ولا يذهب عليك أن تمامية الاستدلال بالآية الشريفة تعتمد على تحديد المقصود من الهداية التي تضمنتها، ذلك أن الأعلام في البحوث التفسيرية، والكلامية، قسموا الهداية إلى قسمين:
هداية تكوينية: وهي التي تعطى من قبل الباري سبحانه وتعالى إلى كافة الموجودات، من دون فرق بين الإنسان والحيوان، ويشار إليها في قوله تعالى:- (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)[1].
هداية تشريعية: وهي التي خصها سبحانه وتعالى بالعنصر البشري، من خلال بعث الأنبياء، وإرسال المرسلين، ونصب الأوصياء والأئمة(ع) بعدهم، ويشير إلى ذلك قوله تعالى:- (هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة).
ثم إنهم قسموا الهداية التشريعية أيضاً إلى قسمين، هداية تشريعية عامة، وهداية تشريعية خاصة، وفرقوا بينهما من خلال اختصاص الهداية الخاصة بفئة معينة من البشر دون العامة، فإنها تكون للجميع، ومن الطبيعي جداً أن يكون الموجب لتخصيص الهداية الخاصة بفئة معينة دون البقية، وجود عوامل أوجبت إعطائها هؤلاء دون البقية.
وإنما يتم الاستدلال بالآية الشريفة على المدعى، لو كان المقصود من الهداية فيها الهداية التشريعية العامة، أما لو كان المقصود منها-كما هو الصحيح-الهداية التشريعية الخاصة، فلن تكون صالحة للمدعى، بل على العكس تماماً سوف تكون دالة على لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبه، لأنه لا يمكن أن ينال فرد من الأفراد الهداية الخاصة، إلا بعد أن يكون ملتـزماً بجميع ما يكون مأموراً بأدائه، وقد عرفت أن أحد الأمور المأمور بأدائها هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلاحظ.
ومنها: قوله تعالى:- (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون)، على أساس أن المستفاد منها عدم التعرض لما يعمله الآخرون، وعدم التدخل فيه. نعم المطلوب من الإنسان المؤمن أن يقوم بإظهار البراءة من عملهم ما دام لا يتوافق والموازين الشرعية المطلوبة.
وبالجملة، إن مقتضى القول بلزوم عدم التدخل في الأعمال الصادرة من الآخرين، يستدعي عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما عرفت من ثبوت حالة من الرقابة والمتابعة تقضي القيام بهذا العمل.
ولا يخفى أن الاستدلال بالآية الشريفة يعتمد على إحراز أمرين:
الأول: أن يكون نزولها بعد تشريع فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يعني أنها من الآيات المدنية، وفقاً لكون هذه الفريضة قد شرعت في المدينة المنورة، اعتماداً على مبدأ التدريج في جعل الأحكام وتشريعها.
الثاني: أن يتصور تحقق البراءة وحصولها قبل أن يكون حصول التوجيه والتحذير والإنذار.
وقد منع كلا الأمرين، فبني على أن الآية الشريفة من الآيات المكية، وليست من المدنية، ما يعني أنها قد نزلت قبل تحقق تشريع فريضة الأمر بالمعروف، على أساس أن تشريعها في المدينة المنورة.
وأما الثاني، فإنه لا يتصور أن تتحقق البراءة من الأعمال الصادرة من الآخرين من دون أن يكون الآخرون قد وجهوا وحذروا من تلك الأعمال وتبعاتها، وعليه فيكون مفاد الآية الشريفة توجيه الخطاب للنبي(ص) بأن يتبرأ من أعمالهم بعدما قام بإنذارهم، وتحذيرهم، ما يعني أن مفادها بعد الفراغ عن القيام بعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم تجاوبهم إياك، أظهر البراءة من أعمالهم، وبالتالي تكون الآية أيضاً من الأدلة المفيدة لوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا أنها تفيد خلاف ذلك، فلاحظ[2].
الأمر بالمعروف والنهي كبيرة أم لا:
ثم إنه بعد الفراغ عن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرمة تركهما، يقع الكلام في أن تركهما يعدّ كبيرة من الكبائر أم لا؟
ولا يذهب عليك أن هذا البحث يبتني على تحقيق أمرين:
الأول: تحديد المقصود من الكبيرة، فإن علمائنا يختلفون في المقصود منها، فقد ذكر بعضهم أن الميزان في صدق عنوان الكبيرة أن تكون مما توعد الله تعالى عليه بالنار، وقال آخرون، بأن الميزان فيها هو ما وقع في سورة النساء، وهناك أقوال أخر.
الثاني: تحديد أن انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، هل هو انقسام حقيقي، أم أنه انقسام اضافي، فلو بني على الثاني، فلا ريب في انطباق عنوان الكبيرة عليه حينئذٍ، لأنه لعدم وجوب ذنب صغير في نفسه، وإنما يكون وجوده بالإضافة إلى غيره.
وتظهر ثمرة هذا البحث وما يتعلق به في بقاء صفة العدالة عند المكلف وعدمها، فلو بني على كون ترك الأمر بالمعروف من الكبائر، كان ذلك موجباً لسلب صفة العدالة عن كل من لم يقم بأداء هذه الوظيفة الشرعية بعدما تعينت عليه. نعم وفقاً لما عليه الإمام الخوئي(ره)، وكذا الإمام السيستاني(دامت أيام بركاته)، من أن الموجب لانتفاء صفة العدالة هو مجرد الاتيان بالمعصية، من دون فرق بين كونها صغيرة أو كبيرة، لن يكون لهذا البحث ثمرة عملية، وإنما سوف تنحصر ثمرته في البعد العلمي فقط، فلاحظ.
———————————————————————-
[1] سورة طه الآية رقم 50.
[2] فقه الصادق ج 19 ص