الوحي حقيقته وطرقه
تعتبر حقيقة الوحي وبيان أهميته والفرق بينه وبين بقية الإدراكات البشرية من المواضيع الحساسة في بحث النبوة، وللأسف أنه لم يسلط الضوء عليه بصورة جلية واضحة، مع أنه أساس النبوات والتكاليف والشرائع السماوية، لأن الأنبياء(ع) يتلقون من خلاله التعاليم الإلهية، وبدونه تنقطع أخبار السماء وصلة الأنبياء(ع) بالله سبحانه وتعالى.
وربما برر عدم تسليط الضوء عليه بما ينبغي، أنه من الموضوعات غير الابتلائية في حياة الأفراد، لكونه أمراً مختصاً بالأنبياء(ع).
حقيقة الوحي في اللغة:
إن الرجوع لكلمات أهل اللغة، يفيد أن حقيقة الوحي عبارة الإعلام بخفاء بطريق من الطرق.
وقد استعمل في القرآن الكريم في معاني متعددة:
منها: تقدير الخلقة بالسنن والقوانين، قال تعالى:- (وأوحى في كل سماء أمرها)[1]، والمعنى أنه قد أودع فيها السنن والأنظمة الكونية، وقدّر عليها دوامها. ومثل هذا قوله سبحانه:- (بأن ربك أوحى لها)[2].
ومنها: الإدراك والغريزة، قال تعالى:- (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون)[3]، فإن ما يقوم به النحل هو نتيجة غريزة إلهية مودعة في مكامن خلقتها.
ومنها: الالهام والإلقاء في القلب، قال عز من قائل:- (وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه)[4]، فقد كان ذلك بإلهام وإعلام خفي عبر عنه بالوحي.
ومنها: الإشارة، قال سبحانه:- (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً)[5]، يعني أشار إليهم.
ومنها: الإلقاءات الشيطانية، قال تعالى:- (وكذلك جعلنا لكل نبي شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً)[6].
ومنها: كلام الله سبحانه وتعالى المنـزل على نبي من أنبيائه، قال تعالى:- (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك)[7].
ويعتبر المعنى اللغوي جامع لجميع الاستعمالات التي وردت في القرآن الكريم لمفردة الوحي، وهو الإعلام بخفاء. نعم استعماله في بعضها حقيقة، وفي الآخر مجاز، كما لو كان الموحى إليه جماداً، أو كان حيواناً لا يعقل.
وكلما أطلق الوحي وكان مجرداً عن القرينة، فإن المراد منه هو الذي يلقى إلى الأنبياء(ع) من قبل الله سبحانه وتعالى.
حقيقة الوحي في النبوة:
يحصل الإنسان على مجموعة من الإدراكات، وهي على أقسام:
أحدها: الإدراكات العادية، وهي التي يتم الحصول عليها عن طريق الحس، كإدراك المبصرات، والمسموعات، فإنها رهن إعمال الحواس الموجودة عند الإنسان.
ثانيها: الإدراكات المعرفية، وهي التي يكون الحصول عليها عن طريق التفكر والاستدلال، كما في الوقوف على الأصول الفلسفية والعلمية، وغيرها، مثل: كل معلول يحتاج إلى علة، فإن الوقوف على هذا يتم من خلال الرياضات الفكرية، وهكذا.
ثالثها: الإدراكات الوجدانية، وهذه تنبع من صميم الذات، وقد يعبر عنها بالفطريات، مثل: إدراك حسن الأشياء وقبحها، وإدراك الجوع والعطش، فإن هذا من الفطرة والغريزة، ومثل ذلك ما يبدعه الذوق من الفنون والآداب والرسوم، كلها من وحي الذوق والغريزة.
ولا يذهب عليك أن الوحي الذي يختص بالأنبياء ويرتبط بهم مختلف تماماً عن جميع الإدراكات التي ذكرت، فهو إدراك خاص متميز عن سائر الإدراكات، فليس هو نتاج الحس، ولا نتاج العقل، ولا الغريزة، بل هو شعور خاص لا نعرف حقيقته، يوجده الله سبحانه وتعالى في الأنبياء، وهو شعور يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامة، لا يغلط معه النبي في إدراكه ولا يشتبه، ولا يصيبه شك ولا يعتريه ريب في أن ما وصله وحي من الله سبحانه وتعالى من دون حاجة إلى إعمال نظر أو التماس دليل، أو اقامة حجة، قال تعالى:- (نزل به الروح الأمين على قلبك)[8]، فإن هذه الآية تشير إلى أن الذي يتلقى الوحي من الروح الأمين هو نفس النبي(ص)، فلاحظ قوله تعالى:- (على قلبك)، من غير مشاركة الحواس الظاهرة المستعملة في إدراك الأمور الجزئية، فهو يرى ويسمع حينما يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع.
والحاصل، إن الوحي حصيلة الاتصال بعالم الغيب، ولا يصح تحليله بأدوات المعرفة ولا بالأصول التي تَجَهّزَ بها العلم الحديث.
تفسير حقيقة الوحي النبوي:
وقد حاول بعضهم تحليل الوحي بأصول مادية حتى يسهل عليهم تصديق الأنبياء، وعدم اتهامهم بتعمد الكذب، فذكروا عدة تفسيرات نشير لبعضها:
نظرية النبوغ:
فقد فسر بعضهم النبوة بالنبوغ، جمعاً بين نزول الوحي على العباد الصالحين ليصدق الأنبياء وبين الأصول العلمية الحديثة المادية من جانب آخر، وعليه يكون الوحي هو لمعات ذاك النبوغ، وحاصل هذه النظرية:
إن هناك أشخاصاً يتميزون على غيرهم بأنهم يملكون فطرة سليمة وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمران الدنيا، والإنسان الصالح الذي يتميز بهذا النوع، هو النبي، والفكر الصالح المترشح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي، وما يسنه من قوانين لصلاح المجتمع هي الدين، وجبرئيل هي نفسه الطاهرة التي تفيض عليه الأفكار إلى مراكز إدراكه، والملائكة المؤيدة له هي القوى الطبيعية، والشيطان الذي يقاومه هي النفس الأمارة بالسوء.
عوامل النبوغ:
وقد ذكر علماء النفس الذين بحثوا عن النبوغ مجموعة من العوامل التي تساعد على حصوله:
منها: العشق.
ومنها: انهضام الحقوق.
ومنها: العزلة.
ومنها: كثرة السكوت.
ومنها: التربية والتوجيه الأولي الذي يتلقاه الإنسان في صغره.
فإن هذه العوامل توجد استغراقاً في نفسه، وتوقداً في أفكاره، وتميزاً في فطنته وذكائه، وهذا التفسير لا ينسجم أبداً مع تفسير النبوات والرسالات السماوية، لأنه أشبه بالقول أن العلة التي أدت إلى انفجار بركان عظيم هي سقوط طائر فوق فوهته.
مع أنه لو سلم أن ما جاء به النبي(ص) من وحي وقوانين وشرائع مصدره نبوغه(ص)، وعبقريته، فلماذا عجز جميع العباقرة والنوابغ الذين عاصروه أو جاءوا بعده عن مقارعته.
ويترتب على النظرية المذكورة مجموعة من النتائج:
إحداها: لن يكون الوحي حقيقة معصومة، بل سوف يكون أمراً عادياً، وهذا يجعله عرضة أن يداخله الوازع النفسي أو الشيطاني.
ثانيتها: لا يقوم الوحي على مبدأ التسديد الإلهي، لأنه عبارة عن فاعلية ذاتية في نفس النبي وعقله، وهذا يوجب انكار خاتمية الرسالة المحمدية، لأن باب الاستيحاء لا زال مفتوحاً، فيمكن لأي انسان بلغ مرتبة الارتقاء النفسي والفكري أن يكون نبياً.
ثالثتها: لما كان الوحي أمراً خاضعاً للحالة النفسية لنبوغ الفرد الذاتي، فهذا يجعله عرضة للتغير والتبدل، فيكون مفهوماً مشككاً، وعليه فقد يوجب التغير الحاصل بسببه سد نقص قد حصل مسبقاً، كما يمكن أن يوجب الإخلال بكمال قد وقع[9].
ويجاب عن ذلك، أولاً: بأن النظرية المذكورة أخص من المدعى، فإن قدرة النوابغ محدودة، لأنهم لا يملكون القدرة على الإخبار عن الأمور المستقبلية التي لم تقع، وسوف تقع في المستقبل، وهذا نجده في الوحي، فقد أخبر النبي الأكرم محمد(ص)، عن مجموعة من الأمور التي سوف تقع في المستقبل، مثلاً قال تعالى:- (ألم* غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون* في بضع سنين)[10]، وهذا الإخبار المستقبلي الصادر من النبي(ص)، لا يخطئ أبداً، وليس كذلك لو احتمل صدوره من النابغة.
وبالجملة، إن النوابغ لا يخبرون من دون تردد وبجزم عادة، بل يحتاطون ولا يقطعون، فهل يمكن لأحدهم أن يخبر بهكذا جزم، قال تعالى:- (قل تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب)[11].
كما أنه(ص) قد أخبر عن مجموعة من الحقائق الماضية التي سبقت زمانه، من قبيل خلق آدم(ع)، وأخبارا لأنبياء السابقين، وسيرهم، وقضية أبرهة الحبشي، وغيرها، وقد صدقها المطلعون، ولم يكذبوها. ومن الواضح، أن هذه الإخبارات لا تخضع للعبقرية والنبوغ.
ثانياً: إن هناك فرقاً بين النوابغ وبين الوحي، فإن النابغة عندما يخبر عن أمر ما، يكون إخباره به عن طريق نسبته إلى نفسه، وليس كذلك الوحي، فإن النبي عندما يخبر بالوحي، فإنه لا ينسب ذلك إلى نفسه، وإنما ينسبه لله سبحانه وتعالى.
ثالثاً: إن اللازم من النظرية المذكورة تكذيب الإعجاز القرآني في ألفاظه ومضامينه، وحقائقه الغيبية، لأن المفروض أنه حصيلة العقل البشري ونتاجه، فإن ذلك هو لازم النبوغ الذاتي، وهذا يفسح المجال للأفذاذ من البشر للقدرة على معارضته والإتيان بمثله، مع أن الثابت خلاف ذلك، فقد أعجز أئمة الأدب والبلاغة والفلاسفة في أسلوبه، كما أعجز عباقرة العلماء والمفكرين والفلاسفة في مضامينه.
رابعاً: إن خير شاهد على بطلان النظرية المذكورة حالة التوافق والانسجام التام بين الأنبياء(ع) في ما أخبروا به، وتوافق منطلقات دعواتهم وغاياتها، مع أن المفروض أن يقع الاختلاف بينهم بسبب اختلاف النبوغ واختلاف طبيعة البشر، وهذا يدلل على أن المصدر الذي كانوا يعتمدونه واحداً وهو الوحي، ولا ربط له بمسألة النبوغ أصلاً.
نظرية الوحي النفسي:
وقد نشأت هذه النظرية من القساوسة المسيحين، وقد كان هدفهم تفنيد رسالة النبي الأكرم(ص) وتخطئتها، ولهم في تصويرها رؤيتان:
الأولى: أن الوحي نتيجة تجلي الأحوال الروحية، وهذه الرؤية مأثورة عن المستشرق مونتيـيه، وقد فصلها درمنغام، وحاصلها: أن الوحي إلهام يفيض من نفس النبي(ص) الموحى وليس شيئاً آخر من الخارج، فسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته، وترك الوثنية، وتقاليد رديئة، يكون لها من التأثير ما يتجلى في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية، فيتصور ما يعتقد وجوبه أنه نازل عليه من السماء، أو يتصور رجل يلقنه أنه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك، ولكنه إنما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة، كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي، عند جميع الأنبياء.
والحاصل، إن أصحاب هذه النظرية، يقررون صدق الأنبياء في ما يخبرون به عما رأوا وسمعوا، إلا أنهم يقررون أن ذلك ليس وحياً سماوياً، وإنما هو شيء ينبع من أنفسهم فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال إنه وراء عالم الطبيعة.
وقد حصل النبي(ص) على ذلك نتيجة قيامه بالانقطاع إلى عبادة الله تعالى، والتوجه إليه في خلواته في غار حراء، فقوي هناك إيمانه، واتسع محيط تفكره، وتضاعف نور بصيرته، فاهتدى بعقله الكبير إلى الآيات البينات في ملكوت السموات والأرض الدالة على وحدانية المبدع للوجود، فصار أهلاً لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وما زال يتفكر ويتأمل إلى أن أيقن أنه النبي المنتظر الذي يبعثه الله لهداية البشر، فتجلى له هذا الاعتقاد في الرؤى المنامية، ثم قوي حتى صار يتمثل له الملك، يلقنه الوحي في اليقظة.
وأما معلوماته، فإنها مستمدة مما هداه إليه عقله وتفكره في التميـيز بين ما يصح منها وما لا يصح، وقد كانت تتجلى له أنها نازلة من السماء، وأنها خطاب الخالق سبحانه بواسطة الناموس الأكبر وملك الوحي جبرئيل روح القدس. فمعلوماته وأفكاره وآماله ولدت له إلهاماً، فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية على مخيلته، وانعكس اعتقاده على بصره، فرأى الملك ماثلاً له، وعلى سمعه فوعى ما حدثه الملك به.
ولا تخرج النظرية المذكورة حال التأمل فيها عما تضمنته كلمات عرب الجاهلية، وما أتهموا به الني(ص)، لأن التدقيق فيها يؤول إلى أمرين وجدا في كلماتهم:
الأول: أن النبوة التي جاء بها النبي الأكرم(ص) ليست إلا مجرد أضغاث أحلام، وهذا ما تضمنته بعض جزئيات هذه الرؤية في عرضها وبيانها، وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود هذه التهمة على لسانهم في قوله تعالى:- (بل قالوا أضغاث أحلام)[12]، فليس شيء مما جاء به(ص) صادراً عن الله تعالى، وإنما هو وحي الأحلام وطوارق الرؤى تجري على لسانه. وقد كانت الإجابة الإلهية حاسمة للأمر ومكذبة لهذه الفرية، قال سبحانه:- (وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى* علمه شديد القوى)[13]، فإن الآيات السابقة تؤكد على أن الوحي أمر واقعي مفاض من الله تعالى على نبيه الكريم(ص).
الثاني: أن النبي(ص) شخص مجنون، وليس شخصاً عاقلاً، وما يلقيه من أمور إنما هو مس من الجنون، وهذا ما صاغه القساوسة والمستشرقون بصياغة أدبية علمية، تحت اسم تجلى الأحوال الروحية، وهو لا يختلف عن تهمة الجنون الموجودة في كلمات القرشيـين.
نظرية ظهور الشخصية الباطنة:
وقد ذكرها الأستاذ فريد وجدي في موسوعته دائرة المعارف، وحاصل ما ذكره، إنه بعدما كان المجتمع الغربي يعتبر مسألة الوحي من الخرافات القديمة، عاد ليؤمن بها لكن وفق مرئيات حديثة، نتيجة القيام بمجموعة من الأبحاث والتجارب، والتي تم التوصل من خلالها إلى التالي:
إنه بعدما كانت مسألة الوحي تعتبر في المجتمع الغربي من بقايا الخرافات القديمة، أصبحت اليوم أمراً مقبولاً ومتصوراً، بعدما تمت مجموعة من التجارب والتي تم التوصل من خلالها إلى وجود شخصية ثانية للإنسان، فهو لا يحيى ولا يدرك في هذه الحياة بكل قوى الروح الموجودة عنده، وإنما بجزء من تلك القوى من خلال الحواس الخمس القاصرة، وإلا فالإنسان له حياة أرقى من هذه الحياة، لا تظهر إلا إذا تعطلت هذه الشخصية العادية بالنوم العادي أو المغناطيسي.
وهذه الشخصية غير العادية هي التي كونت جسم الانسان في الرحم، والتي تحرك جميع أعضائه التي ليست تحت حكم إرادته، كالكبد، والقلب، والمعدة وغيرها، فهو إنسان بها، لا بهذه الشخصية العادية المكتسبة من الحواس القاصرة.
وهذه الشخصية الثانية هي التي تهدي الإنسان بالخواطر الجيدة من خلال حجبه الجسمية الكثيفة، كما أنها التي تعطيه الإلهامات الطيبة الفجائية في الظروف الحرجة، وهي التي تنفث في روع الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله، وقد تظهر لهم متجسدة فيحسبونها من ملائكة الله قد هبطت عليهم.
ويساعد على صحة ما قيل من وجود شخصية تحجبها الحياة الجسدية للإنسان، ولا تظهر إلا إذا وقع الجسم في نوم طبيعي أو صناعي، ظهور النائم نوماً مغناطيسياً بهذا المظهر من العقل الراجح، والفكر الثاقب، والنظر البعيد، واكتشافه لخفايا الأمور، وجولانه في الأقطار البعيدة، بينما يكون جاهلاً غبياً في حالاته العادية.
ووفقاً لهذه النظرية فقد فسر الوحي الحاصل للأنبياء والمرسلين(ع)، بأن كل ما يحدثون به من التعاليم والإخبارات ليس إلا إفاضات شخصياتهم الباطنة وإيحاءاتها عند تعطل قواهم الظاهرية.
ويلاحظ على النظرية المذكورة أمور:
منها: إن الجزم بكون ما يحصل للأنبياء والمرسلين في الوحي، بأنه من إفاضات النفس الباطنة دعوى عهدتها على مدعيها، فإن القائل بذلك لم يأت بما يدل على ما قال، ومجرد ربطه بين أمرين، وتفسيره هذا بذاك، لا يثبت الأمر ولا يوجد برهاناً. لأنه لو سلم بتمامية النظرية المذكورة، لا يوجد ما يمنع أن يكون الوحي شيئاً آخر غيرها.
ومنها: إن النظرية المذكورة أخص من المدعى، لأن أقصى ما تفيده أن ظهور تلك الحالات الخاصة تكون حال كون الإنسان خارجاً عن الوضع الطبيعي كما لو كان نائماً، وهذا لا ينسجم مع ما حدث به التأريخ من أن الأنبياء(ع) كانت تصدر منهم تلك الأمور وهم في أقصى حالات تنبههم واشتغالهم بالأمور الحياتية والسياسية والإدارية وما شابه ذلك[14].
نظرية التجربة الدينية:
وهي ما أختاره بعض فلاسفة الغرب، وتأثر بهم بعض الباحثين من المسلمين، وتعتبر النظرية المذكورة حصيلة ردة فعل من المجتمع الغربي تجاه الكنيسة، والعمد إلى سلب السلطة منها، والقول بإمكانية فهم الدين لكل أحد حسب ظنونه وآرائه وأنه لا توجد مسلمات ثابتة، يقوّم الأفراد أفكارهم ومعتقداتهم على وفقها.
وكيف ما كان، فقد فسروا الوحي بالتجربة الشخصية، وقد يعبر عنها بالتجربة الدينية، وهي تقوم على عنصرين:
الأول: النبوغ الذاتي.
الثاني: التجربة الاجتماعية التي يخوضها الإنسان في حياته.
وقد فسروا الوحي في النصوص الدينية بالتجربة التي يحصل عليها الأنبياء نتيجة التفكر والرياضة وحوادث الزمان والمكان. ولهذا قالوا بأن الكتب السماوية ما هي إلا أسفار الأنبياء التي تحكم تجاربهم، وتؤثر ثقافة صاحب التجربة المتأثرة بثقافة عصره، ونفسيته عليها[15].
وأرجع بعضهم الوحي إلى الخيال الشخصي للنبي، فقال: إن النبي في تجربته الدينية يرى وكأن شخصاً يحضر عنده ويحدثه في أذنه وقلبه بمضمون الرسالة السماوية، ويكلفه بإبلاغ التعاليم والأوامر الإلهية للناس، ويحصل للنبي علم يقيني بهذا الأمر بحيث يشعر بالاطمئنان القلبي والشجاعة التامة التي تدفعه إلى تحمل مختلف أنحاء العناء في سبيل هذا الهدف، وهذا هو ما يشكل جوهرة النبوة[16].
وقد واجه أصحاب هذه النظرية مشكلة عدم التفريق بين هذه النظرية وبين تجربة الصوفية من الهنود، ولهذا قالوا أن الفرق بينهما في أن النبي(ص)، قد صعد إلى المعراج ورجع.
واختار بعضهم عدم وجود فرق بين التجربتين، بل إن تجربة الصوفيـين هي عين الوحي، وهي حق ولا تقل عن الوحي في شيء، نعم فرق بينهما بأن إحداهما وحي القلب والأخرى ليست كذلك.
وقد أشار بعضهم إلى هذا عندما ذكر أن الوحي ذو مراتب عديدة، فله مرتبة سفلى وله مرتبة عليا، وقد يصاب بالعصمة فيما لا يكون كذلك في أحيان أخرى[17].
ولا يذهب عليك أنه يمكن إرجاع النظرية المذكورة إلى شيء من النظريات الثلاث المتقدمة، فلا تعّد نظرية قسيمة إليها، لأنها تتداخل كثيراً مع نظرية النبوغ، كما أن نظرية الوحي النفسي وظهور الشخصية الباطنة واضحة فيها، وهذا يغني عن التعرض لبيان مكامن الخطأ والاشتباه فيها، بملاحظة ما تقدم من الإجابة. لكنه وتتميماً للفائدة نشير لبعض الملاحظات عليها.
وأول ملاحظة على النظرية المذكورة تكذيبها الصريح للقرآن الكريم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:- (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)[18]، ويقول تعالى:- (لا تحرك به لسانك لتعجل به* إن علينا جمع وقراءنه* فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)[19]وغيرها من الآيات القرآنية الأخرى الدالة على نفس المعنى.
ثانياً: إن ما نقله المؤرخون من حالات الانتظار والترقب التي كانت تصدر من النبي(ص) في نزول الوحي لإبداء الرأي والحكم في بعض الأحداث والمواقف، شاهد على بطلان النظرية المذكورة، وأن الوحي كان من السماء، وليس نتاجاً لتجربة النبي(ص).
ثالثاً: من المعلوم أن التجربة البشرية قابلة للخطأ والاشتباه، وهذا مدعاة أن يحصل التغير والتبدل فيها، وهذا ما يكذبه الواقع الخارجي، فإنه طيلة مدة بعثة البي(ص) لم يصدر ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد.
طرق الوحي:
لما كان الوحي من الموضوعات التي لا مسرح للعقل البشري فيها، فمن الطبيعي جداً أن لا تكون طرق حصوله وتحققه موضع إدراك له أيضاً، وعليه، فإن تم من طريق النقل ما يدل على كيفية حصوله رتب الأثر وإلا فلا.
وقد تضمن القرآن الكريم بيان ذلك، فقال تعالى:- (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم)[20]، وقد تضمنت الآية الشريفة حصر طرقه في ثلاثة: الوحي، وهو الإلهام بمقتضى قرينة المقابلة، والتكليم، وإنزال الملك.
أما الطريق الأول منها، فهو وحي مباشر، ويكون بصورة المشافهة، أو بواسطة الإلقاء في القلب والإلهام.
وأما الثاني، فلا يكون مباشراً، بل يكون من وراء حجاب، وقد تضمنت النصوص الشرعية مصاديق ثلاثة له، فقد ذكر القرآن الكريم مصداقاً وهو الشجرة التي حصل الكلام من الله تعالى فيها، فسمعه موسى(ع)، وذكر الإمام الهادي(ع) مصداقين آخرين، حيث قال: كما كلم الله نبيه، وكما كلم موسى من النار[21].
والثالث من الطرق السابقة، يكون من خلال التوسيط، لأنه يتم بإرسال الملك الذي يوحي بإذن النبي ما يريد الله سبحانه وتعالى إبلاغه به، ويكون الملك مجرد أمين لا يزيد ولا ينقص، وقد أشير لذلك في قوله تعالى:- (نزل به الروح الأمين* على قلبك لتكون من المنذرين)[22]. والمشهور على أن الروح الأمين هو جبرئيل(ع).
ولا ينحصر نزول الملك على الأنبياء(ع) في طريق واحد، بل يكون ذلك بعدة طرق:
منها: النفث في الروع، يعني القلب والنفس.
ومنها: أن يتجسد الملك أمام النبي بصورة إنسان ويتحدث معه.
ومنها: سماع صوته دون رؤيته، ويكون على شكل رنين الأجراس الذي يدوي في الأذان، وقد تضمنت الأخبار أنه من أصعب أنواع الوحي وأشده على النبي(ص)، وأنه كان يتصبب عرقاً منه حتى في الأيام الباردة. وأنه لو كان راكباً على دابة، فإنها كانت تقف وتجثو على الأرض من ثقله.
ومنها: حضور الملك الحقيقي، وقد ورد أنه حدث لرسول الله(ص) مرتين، رأى فيها جبرئيل بصورته الحقيقة الأًلية التي خلقه الله تعالى عليها.
ويستفاد من النصوص الشريفة أنه قد أوحي للنبي(ص) بالطرق الثلاثة، فقد كان يتلقى الوحي أحياناً مباشرة ومن واسطة، كما أنه كان يتلقاه من وراء حجاب، كما كان يتلقاه بواسطة الملك[23].
[1] سورة فصلت الآية رقم 12.
[2] سورة الزلزلة الآية رقم 5.
[3] سورة النحل الآية رقم 67.
[4] سورة القصص الآية رقم 7.
[5] سورة مريم الآية رقم 11.
[6] سورة الأنعام الآية رقم 112.
[7] سورة الشورى الآية رقم 3.
[8] سورة الشعراء الآية رقم 193.
[9] الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج 3 ص 242.
[10] سورة الروم الآيات رقم 1-4.
[11] سورة هود الآية رقم 65.
[12] سورة الأنبياء الآية رقم 5.
[13] سرة النجم الآيات رقم 305.
[14] الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل ج 2 ص 115-137(بتصرف).
[15] معنى المتن لحامد أبو زيد ص 521، الإيمان والحرية لمجتهد شبستري ص 118-119.
[16] بسط التجربة النبوية لعبد الكريم سروش ص 11-17.
[17] بين الطريق المستقيم والطرق المستقيمة لعبد الكريم سروش ص 7.
[18] سورة يوسف الآية رقم 2.
[19] سورة القيامة الآيات رقم 16-18.
[20] سورة الشورى الآية رقم 51.
[21] تفسير القمي ج 2 ص 279.
[22] سورة الشعراء الآية رقم 193-194.
[23] الحقائق والدقائق ج 3 ص 211-220(بتصرف).