مدخل:
لقد جاءت التعاليم الإلهية منذ عهد أبي البشر آدم(ع) إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بأن كل مؤمن يقتل في سبيل الله تعالى، فهو شهيد.
ولما خرجت حياة الجماعة البشرية عن موازين الفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها، وحصل الاختلاف والصراع، فكان النصر والهزيمة.
وبما أن المؤمن المجاهد في سبيل الله تعالى، لا يحق له الانهزام في المواجهة، ما دام شارياً الحياة الدنيا بالآخرة، فهو في المواجهة إما أن يقتل أو يَغلب. فإن قتل كان شهيداً، فيؤتيه الله أجراً عظيماً، أو يَغلب، فيؤتيه الله ذلك الأجر العظيم أيضاً.
وما ذكرناه هو وعد الله تعالى للمؤمن المجاهد في سبيله، شهيداً أو غالباً أجراً عظيماً، ومالم يُقتل أو يَغلب، فهو دون حظوة ذلك الأجر العظيم، وإن كان مأجوراً. قال تعالى:-
( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)[o1] .
وقدم الله تعالى الشهيد على الغالب في الحديث عن ذلك الأجر العظيم الذي وعدهما إياه، لأن الشهيد لا يخشى عليه بعد قتله من فقدان الأجر بسبب اجتراح سيئة أو انحراف عن الصراط يحبط الأجر، فهو قد ضمن أجره، فلا خوف عليه ولا هو يحزن.
لكن الغالب وإن كان له أيضاً ذلك الأجر العظيم، كما للشهيد، غير أن نوال هذا الأجر مشروط بدوام الاستقامة على الصراط، وعدم اجتراح ما يحبط الأجر.
وهذا يعني أن الغالب على خطر، حتى ينهي شوط الدنيا مستقيماً على الصراط المستقيم السوي إلى الآخرة.
اختلاف الشهيد عن الغالب:
ولا يخفى أن هناك افتراقاً واختلافاً بين الشهيد والغالب، لأن الشهيد كما هو معلوم هو الذي يمهد بدمه الزاكي عندما يسيل على الأرض، إلى حصول الغلبة للغالب.
كما أن الفتح أخص من الغلبة، إذ كم من غلبة لم تـثمر فتحاً، بناءاً على أننا نعني بالفتح، الفتح الذي يثمر تغيـيراً وتحولاً حاسماً ومنعطفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح.
ومن هنا كان صلح الحديـبية فتحاً مبيناً، كما قرر القرآن الكريم، لأنه أنـتج تغيـيراً وتحولاً حاسماً لصالح الإسلام والمسلمين، لم تـنـتجه معركة بدر، على عظمة النصر فيها، ذلك لأن قريشاً في هذا الصلح قد اعترفت بالمسلمين رسمياً كقوة عدوة تكافئها، فوقعت معها معاهدة تحترمها وترعاها.
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك قرآناً، قال تعالى:- ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) في واقعة صلح الحديـبـية التي كانت قبل فتح مكة بعامين.
وعلى هذا نستطيع أن نقرر أن كل فاتح غالب، لكن ليس كل غالب فاتح.
الشهيد والفاتح:
ثم إن مقتضى العادة أن الشهيد مغاير للفاتح، وإن كان الشهيد هو الممهد لحصول الفتح وتحققه بدمهم الزاكي. لكن هل خرج هذا الأمر عن مجرى عادته مرة؟!!!
وهل وجد إنسان في الوجود البشري منذ عهد الخليقة الأول في عصر أبينا آدم(ع) إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يوصف بكونه شهيداً وفاتحاً معاً…؟!!!
ثم إذا كانت صفة(الشهيد الفاتح) من الخصائص…فمن هو هذا الإنسان الوتر في الخالدين، والأوحد في الربانـيـين؟….
الشهيد الفاتح، من الخصائص الحسينية:
شهادة هي عين الفتح، ومصرع هو عين الانتصار والغلبة. شهيد فاتح معاً، لم تكن هذه الصفة والخاصية لأحد من أنبياء الله(ع)، ولا لأحد من أوليائه، ذلك لأن التاريخ العام لم يحدثنا أن أحداً من رجال دين الله قتل فكانت شهادته عين الفتح لأهدافه، والغايات التي يجاهد في سبيلها.
ومع أن الأنبياء الشهداء كثر، إذ قتل غير واحد منهم في سبيل الله تعالى، إلا أن القرآن الكريم لم يحدثنا عن أن أحداً منهم كانت شهادته عين الفتح لبقاء دين الله تعالى وانتشاره.
نعم كان هناك أنبياء فاتحون، وأولياء فاتحون، وكان هناك أنبياء شهداء، وأولياء شهداء، ولكنـنا نتأمل في صفة( الشهيد الفاتح).
فلو كانت هذه الصفة لأحد من الأنبياء أو الأولياء قبل نبينا الأكرم محمد(ص)، لكان لقصته موضوع متميز في التاريخ القرآني، ولحظي ذكره بعناية فائقة في هذا التاريخ الإلهي، كما حظي بذلك إبراهيم وموسى ويوسف(ع) مثلاً، ذلك لأن التاريخ القرآني الذي اهتم بالمقاطع والمنعطفات واللقطات التاريخية ذات العبرة والعظة التربوية، والذي سجل لنا حتى اللقطة التاريخية لحديث نملة لما في حديثها من درس وعبر، لم يكن ليعرض صفحاً عن ذكر صفة(شهيد فاتح) على ما في هذه الصفة من عبرة تربوية وتاريخية عظمى.
وعندما نقرأ الحركة الإصلاحية المحمدية لسيد البشر محمد المصطفى(ص) نجدها تـتضمن أكثر من انتصار، وأكثر من فتح، إلا أنه لم يوسم أحد من الشهداء بكونهم فاتحين، حتى شهداء بدر، لأن بدراً قد تضمنت غلبة ونصراً، ولم تكن فـتحاً، ولذا لم يسمها القرآن الكريم فتحاً.
مضافاً إلى أن التحولات الحاسمة التي حصلت بعد معركة بدر الخالدة لصالح الإسلام، لم تكن لشهادة شهداء بدر الأبرار(رض)، بل كان ذلك لوجود النبي(ص) ولسيف أمير المؤمنين علي(ع) والسيوف الصادقة الأخرى التي كانت مع هذا السيف الفريد في أهم مواقع الإسلام المصيرية.
نعم الأمر الذي لا ينكر هو أنه كان لدماء شهداء بدر الزاكية، وللشهداء الآخرين، أثر وتمهيد للفتح فيما بعد، لكن هذا غير ما نحن بصدد الحديث عنه، إذ أن حديثنا ينصب حول شهادة هي عين الفتح.
وهذا التاريخ الذي نقل لنا حياة المسلمين بعد رسول الله(ص) حتى سنة ستين للهجرة، لا نراه يحدثنا عن شهادة هي عين الفتح.
ولما دخلت سنة إحدى وستين من الهجرة النبوية، تحققت تلك الخصوصية التي كانت مكنونة في مطاوي الزمان لصاحبها الإمام أبي عبد الله الحسين(ع) ذلك الوتر في الخالدين، ثم امتنعت عن سواه إلى قيام الساعة.
فالشهادة التي هي عين الفتح، والمصرع الذي هو عين الانتصار والغلبة. والشهيد الفاتح معاً، إنما هو بطل الإسلام الأبي الشهيد الإمام أبي عبد الله الحسين(ع).
وقد عرفت أنها لم تكن لأحد من قبل الحسين(ع)، وأما أنها لا تكون لأحد من بعده، فذلك لأن عاشوراء قد كشفت عن وحدة وجودية، لا انفكاك لها بين الإسلام المحمدي الخالص، وبين الحسين(ع)، فصارت الدعوة إلى هذا الإسلام هي عين الدعوة إلى الحسين(ع)، وبالعكس، وصارت مواجهة هذا الإسلام ومعاداته هي عين مواجهة الحسين(ع) ومعاداته، وبالعكس، وصار بقاء هذا الإسلام بعد كربلاء ببقاء عاشوراء الحسين(ع)، حتى لقد قيل، وما أصدقه من قول: الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء.
فالممـيزات الفريدة للدور الحسيني، جعلت الإمام أبا عبد الله الحسين(ع) من خلال عاشوراء عنوان بقاء الإسلام والحفاظ عليه نقياً كما هو.
لقد امتد النهج الحسيني بعد عاشوراء، فهيمن على كل مساحة الزمان والمكان في انبعاث كل قيام إسلامي حق إلى قيام الساعة، لقد غدا الإمام الحسين(ع) قدوة كل مسلم ثائر للحق وبالحق، وغدت كل نهضة إسلامية حقة تجد نفسها امتداداً لنهضة الحسين(ع)، حتى نهضة الإمام المنـتظر المهدي(عج) تجد نفسها امتداداً لنهضة الحسين(ع)، وتؤكد هذا الامتداد بشعار: يا لثارات الحسين.
وغذا كل طاغية من أعداء الإسلام بعد عاشوراء يجد نفسه في مواجهة الحسين(ع)، فهو يذعر من ذكر الحسين(ع)، بل ويخاف من قبر الحسين(ع)، وقد كان ولا يزال هذا القبر المقدس يتعرض في الماضي والحاضر، لأشرس الهجمات ومحاولات الطمس من قبل الطغاة، فلا يزداد إلا علواً وشموخاً.
الأنصار شهداء فاتحون:
وقد أشار أمير المؤمنين(ع) إلى هذه الخصوصية الحسينية عند وصفه منـزلة شهداء كربلاء(ع)، فقال: ومصارع عشاق شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من بعدهم.
ونستفيد التفرد الناشيء من الخصوصية المدعاة من قوله(ع): لا يسبقهم من كان قبلهم، وقوله(ع): لا يلحقهم من بعدهم.
ثم إن هذا المعنى الذي استفدناه من كلمة أمير المؤمنين(ع)، قد يصور لبعض فيقول: أن أنصار أبي عبد الله(ع) من أهل بيته وصحبه الكرام(ع) الذين استشهدوا بين يديه، شهداء فاتحون أيضاً، فلا ينفرد الحسين(ع) على هذا بهذه الخصوصية والميزة.
وهذا المعنى المتصور وإن كنا لا نمانع فيه، ونقبله، إلا أننا نركز على نقطة، وهي أن هذه الصفة التي اكتسبها هؤلاء بحيث صاروا أنصاراً شهداء فاتحين، إنما حصلت إليهم لا عن استقلالية منهم بذلك، بل تبعاً لصاحب هذا الاختصاص أصالة، إذ لو لم يكن الإمام الحسين(ع) صاحب كربلاء، لما كان شهداء الطف وأبطال عاشوراء الآخرون، على ما هم عليه من هذه المرتبة في السمو والشرف، ولما كانت كربلاء التي نعرف، ولا عاشوراء التي تأخذ بمجامع قلوب المؤمنين خاصة وأحرار العالم عامة.
قداسة عاشوراء من قداسة الحسين:
إن قداسة الحسين(ع) وهو المثل الأعلى في ضمير ووجدان الأمة، هي التي أسبغت على عشوراء كل هذه القداسة، وهذه الرمزية في الزمان، بحيث صار (كل يوم عاشوراء) وهي التي نشرت كربلاء على كل الأرض عنواناً لميدان انتصار دم الحق على سيف الباطل، فكانت( كل أرض كربلاء)، ولولاه(ع) لكانت واقعة الطف بكل ما غصت به من فجائع أليمة، مأساة يذكرها الذاكر، فيأسف لها كما يأسف لكثير من وقائع التاريخ الأليمة الأخرى المقيدة بحدود الزمان والمكان.
إن واقعة كربلاء بعظمتها الفريدة من كل جهة، وبكل أبطالها وبطولاتها، إنما استمدت خصائصها من الخصائص المنحصرة بصانع ملحمتها الإمام أبي عبد الله الحسين(ع)، فكانت الحدث التاريخي الذي لا يرقى إليه أي حدث تاريخي آخر في مستوى تأثيره.
آفاق الفتح الحسيني:
ولقد أشار الإمام الحسين(ع) إلى كونه فاتحاً في رسالته التي أرسلها إلى أخيه محمد بن الحنفية، ومن قبله من بني هاشم:
بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي، ومن قبله من بني هاشم: أما بعد: فإن من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام.
وهذا المعنى أيضاً أكده الإمام السجاد(ع) حين رجوعه إلى المدينة، وقد سأله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله: من الغالب؟…
فقال السجاد(ع): إذا دخل وقت الصلاة فأذن وأقم تعرف الغالب.
الفتح الحسيني:
ما هو الفتح الذي عناه الإمام الحسين(ع) برسالته الموجهة لبني هاشم، وأشار له زين العابدين بالآذان؟…
إنه الفتح الذي لم يحرزه غيره من قادة العالم، وأبطال التاريخ، فقد انـتصرت مبادئه، وانـتصرت قيمه، وتألقت الدنيا بتضحيته، وأصبح اسمه رمزاً للحق والعدل، وأصبحت شخصيته العظيمة ليست ملكاً لأمة دون أمة، ولا لطائفة دون أخرى، وإنما هي ملك للإنسانية الفذة في كل زمان ومكان، فأي فتح أعظم من هذا الفتح، وأي نصر أسمى من هذا النصر.
في عصر الظهور:
ويتجسد الفتح الحسيني في عاشوراء، المشار إليه في كلام الإمام أبي عبد الله الحسين(ع)، من خلال الوحدة الصميمية بين قيام الإمام الحسين(ع) وقيام الإمام المهدي المنـتظر(عج)، وبين الفتح الحسيني والفتح العالمي.
حيث أن النهضة العالمية للإمام الحجة(عج) تمثل الفصل الأخير من قيام عاشوراء، كما يظهر ذلك للمتأمل في الروايات التي تـتناول العلاقة بين هذين القيامين العظيمين، وكأن قيام الإمام الحسين(ع) في مجموع أحداثه يتألف من ثلاثة فصول:
الأول: ما قد تحقق وتم، من خلال وقوع فاجعة عاشوراء، وعودة الركب الحسيني إلى المدينة المنورة بقيادة الإمام زين العابدين(ع).
الثاني: يمتد في الفترة ما بعد ذلك إلى قيام الإمام المنـتظر المهدي(عج)، وهو فصل الحفاظ على الإسلام وبقائه.
الثالث: يتحقق بقيام الإمام المهدي(ع) ثائراً للحسين(ع) ومظهراً لهذا الدين على الدين كله.
فمن يتأمل هذه النصوص يرى بوضوح أن قيام الإمام الحجة(روحي لتراب مقدمه الفداء) امتداد حقيقي لقيام الإمام الحسين(ع)، وأن عاشوراء سنة إحدى وستين للهجرة، كانت المعركة الأولى من معارك الإمام الحسين(ع)، وإن كان قد استشهد فيها، وأن الفترة ما بين عاشوراء وبين الظهور فترة مليئة بمواجهات ومعارك عديدة، أخذ الإمام الحسين(ع) فيها بخناق جميع الطواغيت في تلك الفترة، لا بخناق يزيد فقط.
ويشهد العالم الفصل الأخير من قيام الإمام الحسين(ع) بقيادة ابنه الإمام المهدي(عج)، الذي يقتل ذراري قتلة الإمام الحسين(ع) في كل فترة ما بين عاشوراء والظهور، لرضاهم بفعال آبائهم، وأن الحلقة الأخير من حلقات الفتح الحسيني في عاشوراء، تكون بالفتح العالمي.
——————————————————————————–
[o1]سورة النساء الآية رقم 74.