من النقاط التي تطرح عادة في مقام الحوار والبحث، مسألة الغاية والوسيلة، من حيث أن الغاية هل تبرر الوسيلة، أو أن الغاية لا تبرر الوسيلة، أو أن هناك طريقاً وسطاً، يفصل فيه، بحيث يمكن أن يحكم في بعض الموارد بأن الغاية مبررة للوسيلة، ولا يحكم فيه مرة أخرى بذلك.
هذا والذي يهمنا هو معرفة وجهة النظر الشرعية في المقام، فهل أن الشرع المقدس، يحكم بكون الغاية مبررة للوسيلة بنحو مطلق، أو أنه يرفض هذا المبدأ من الأساس، فلا تكون الغاية مبررة للوسيلة مطلقاً، أو أن للشرع نظرة يفصل فيها بين الموارد، فقد يحكم في بعضها بكون الغاية مبررة للوسيلة، ولا يحكم بذلك في موارد أخرى.
مقدمة:
وقبل الإشارة لوجهة النظر الشرعية في هذا المجال، نشير إلى شمولية الإسلام وواقعيته، وأن التشريع السماوي، إنما جاء من أجل خدمة الإنسان ومصلحته، وأن الغاية الأساس هي مصلحة الإنسان من جميع التشريعات السماوية الواردة، كما أن الدين الإسلامي دين واقعي، وليس دين المثالية.
موقع الغاية والوسيلة:
ولما كان الإسلام يتضمن هذه الأطروحة وهو يحمل هذا المضمون، فما هي نظرته لمثل هكذا موارد، وكيف يتعامل معها؟…
ولكي يكون المعنى المراد الحديث عنه أكثر وضوحاً، نشير إليه من خلال ما يمكن أن نواجهه في الحياة العملية، إذ ربما يبتلى المكلف عند امتثاله للحكم الشرعي الإلزامي الموجه له، بأن امتثاله لا يحصل إلا من خلال ارتكابه لمحرم من المحرمات الشرعية، فما هي وظيفته حينئذٍ، هل يترك امتثال الواجب، أو يمتثله مع ارتكابه للحرام؟…
ونمثل لذلك بمثالٍ من واقع الحياة، فنقول:
إذا كان هناك غريق، وكان إنقاذه يتوقف على الدخول في أرض مغصوبة، أو الدخول في أرض شخص لا يرضى صاحبها بالدخول فيها، فماذا يفعل حينئذٍ؟..
هل يترك الشخص يموت غرقاً، أو يجب إنقاذه حتى لو ارتكب المحرم؟…
وقد نذكر مثالاً جماعياً تعود مصلحته أو ضرره على المجتمع، ولا يقتصر على خصوص الأفراد، وذلك ما لو كانت هناك حرب بين المسلمين والكفار، ووقع جمع من المسلمين في الأسر، فتترس بهم العدو، وجعلهم أمام جيشه، بحيث لو هاجم المسلمون جيش العدو فلا ريب أن المسلمين الأسرى سيموتون، فماذا يفعل حينها، هل يجوز قتل هؤلاء الأسرى إذا دعت المصلحة ذلك، أو لا يجوز قتلهم، بل يترك جيش المسلمين تحت رحمة جيش العدو ويصل الأمر به للهزيمة؟…
وبالجملة ليست القضية محصورة في خصوص هذين المثالين، بل يتعداهما إلى كل حالة يقف فيها المكلف ليجد نفسه بين اختيارين لا ثالث لهما، فإما أن يحقق الواجب المطلوب منه امتثاله، ويرتكب المحرم المنهي عنه، وإما أن يجتنب ارتكاب المحرم، لكنه يترك الواجب المكلف به.
في مثل هكذا موارد كيف يتعامل الإسلام مع هذه الحالات، هل يكون ديناً واقعياً، فيعالج هذه الحالات، أو أنه يقف موقفاً سلبياً متجمداً، دون أن يحرك ساكناً، أو يعطي علاج في هكذا موارد.
واقعية الشريعة الإسلامية:
الصحيح أن الإسلام، وإثباتاً منه لواقعيته، لا يجمّد في هذه الحالات أتباعه على حالات التحريم، إلا بقدر وحساب، ولذلك فهو يترك لهم حرية الحركة في إطار القيم الكبيرة للدين الإسلامي، ثم ممارسة الحرية في الوقوف عند الحكم، أو تجاوزه في ضمن هذه الحدود، حتى لا تتحول الرخص إلى انفلات غير مسئول، يسيء إلى القضية بنفس القوة التي يسيء بها التجميد غير المسئول.
وبناءاً على هذا نرى أن الوجهة الشرعية للمثالين اللذين ذكرناهما في بداية الحديث، تقضي بتجميد الحكم بالحرمة وتقديم الحكم بالجواز، أو اللزوم، فيجب إنقاذ الغريق، ويجوز المرور في الأرض المغصوبة، أو الأرض التي لا يرض صاحبها باجتيازها.
وكذا على جيش المسلمين أن يهاجم جيش العدو، ليحقق النصر للإسلام، ولو كان ذلك على حساب حياة الأسرى المسلمين، ثم تدفع دية القتلى منهم من بيت المال.
قاعدة التـزاحم:
والتخريج الفقهي لهذا الحكم الذي يركن له الفقهاء في إعطاء هذه الفتوى، هو ما يعرف في البحوث الأصولية بقاعدة التزاحم بين الأحكام في مقام العمل.
ومعنى هذه القاعدة، أن يكون أمام المكلف تكليفان يكون امتثال أحدهما متوقفاً على مخالفة الآخر لعجزه عن امتثال كليهما، فالإتيان بالصلاة يتوقف على ترك إزالة النجاسة من المسجد، كما أن الاشتغال بإزالة النجاسة من المسجد تستلزم ترك الإتيان بالصلاة.
وكذا لو كان هناك غريقان، لا يمكن المكلف إلا إنقاذ واحد منهما، بحيث لو أنقذ زيداً، فسيغرق عمرو، ولو بادر إلى إنقاذ عمرو فإن زيداً سيغرق، وهكذا.
ومن المعلوم أن التكليف مشروط بالقدرة، فلابد لكي يمتثل المكلف تكليفاً من التكاليف الموجهة له أن يكون قادراً، وهذا أمر يحكم به العقل، إذ أنه قبل الشرع يحكم بلزوم كون المكلف قادراً لكي يلزم بالامتثال، كما أنه يحكم بقبح تكليف العاجز.
ولما كان اختيار المكلف أحد التكليفين يستتبع كونه عاجزاً عن التكليف الآخر فإنه يسقط عنه لزوم امتثاله.
مرجحات الاختيار:
هذا وقد يطرح أنه ما هو المسوغ لاختيار أحد التكليفين دون الآخر؟… وبكلمة، هل أن الاختيار والانتخاب يتم بصورة عشوائية، أو أنه يرتكز إلى مجموعة من الأسس التي يسار عليها؟…
الصحيح أن انتخاب أحد التكليفين من قبل المكلف لا يكون عشوائياً، بل ذكرت عدة مرجحات في مثل هكذا موارد حين تحقق التـزاحم بين التكليفين، يتم على أساسها الاختيار، يعبر عنها بمرجحات قاعدة التـزاحم، نعم إذا لم يتوفر أحد المرجحات، بحيث انتفت كلها، فهنا تخضع العملية لاختيار المكلف، فيكون له تمام الحرية في اختيار أي من التكليفين حينها.
وعلى أي حال، فمن المرجحات المذكورة، كون أحد التكليفين المتـزاحمين أهم من الآخر، فيجب عندها تقديم الأهم على المهم بحكم العقل، ذلك إن تقديم المهم يسبب تفويت المقدار الزائد من المصلحة، بخلاف تقديم الأهم.
ويمكننا توضيح هذه الفكرة:
إن الأساس في الأحكام الشرعية هو تبعيتها للمصالح والمفاسد، فيدور الحكم وجوداً وعدماً وسعة وضيقاً مدارها، فمتى وجدت وجد الحكم، ومتى انتفت انتفى الحكم، وهكذا.
فإذا وجدنا حكماً كان مشتملاً على مفسدة في عمل، تقتضي حرمته، وكانت لدينا مصلحة أخرى في عمل آخر، تقتضي وجوبه وكانت الصدفة، أننا لم نستطع امتثال كلا الحكمين، لأن القدرة لا تـتوفر إلا لأحدهما، فإذا أردنا امتثال أحدهما فلابد من عصيان الحكم الآخر، فماذا نفعل؟…
لا ريب في أن العقل يحكم في هذه الحالة، بتغليب الملاك الأكثر أهمية على الذي دونه في حساب الأهمية، لأن ذلك يوجب استيفاء المصلحة الكاملة، الأمر الذي يجعلنا نجمد الحكم في أحدهما، لمصلحة الحكم الذي هو في مركز الأهمية تبعاً لأهمية ملاكه.
ويمكننا عرض الفكرة بصورة أكثر وضوح من خلال تطبيقها على المثالين السابقين الذين سبق وذكرناهما، فنقول:
من المعروف حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه ورضاه، لوجود مفسدة الغصب، لكن إذا توقف إنقاذ المؤمن من الموت على هذا التصرف، فعندها يجمد هذا التحريم، لأن مصلحة حفظ نفس المؤمن أكثر أهمية لدى الشارع من أي شيء آخر.
وكذا في المثال الثاني، إذ من الواضح حرمة قتل المؤمن، بل ذلك من أعظم المحرمات، لكن إذا اصطدم هذا التحريم بتعطيل النصر في المعركة للإسلام، أو استلزم انهزام المسلمين في المعركة، صار لزاماً أن يتجاوز عن هذا التحريم، ويجمّد.
علاقة الوسيلة بالغاية:
وبناء على ما ذكرنا، نعرف العلاقة بين الغاية والوسيلة، وأن هذه العلاقة تتضح من خلال طبيعة الغاية والوسيلة، فربما تكون حالة تجميد الحكم في الوسيلة لمصلحة في الغاية، وربما يكون الأمر على العكس من ذلك، إذا كانت المصلحة في الوسيلة أكثر أهمية من المصلحة في الغاية، كما إذا توقف إنقاذ شخص عادي من الموت على قتل عدة أشخاص مثلاً، فإنه في مثل هكذا مورد تترك عملية الإنقاذ لذلك الشخص، تقديماً لبقاء حياة الآخرين، إذ أن المصلحة في حفظ نفوس الآخرين.
التزاحم في مقام التشريع:
هذا ويوجد قسم آخر للتـزاحم، لكنه ليس في مقام الامتثال كما في المثالين السابقين، بل في مقام التشريع، وذلك إذا كان التـزاحم بين الملاكات، توضيح ذلك:
سبق وذكرنا أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وهو ما يعبر عنه بملاك الحكم، فلو حصل تزاحم بين مصلحتين أو أكثر، أو كان التزاحم بين المصلحة والمفسدة، فحينها ستكون الغلبة للمصلحة الأقوى، أو المفسدة الأقوى، بحسب اختلاف طبيعة الأشياء، وعليه فتكون هي المقدمة.
حلية الكذب:
والشواهد على مثل هذا القسم في الفقه الإسلامي كثيرة جداً:
منها:الكذب، حيث لا يختلف اثنان في كونه من الأمور المحرمة بل قيل بكونه من الكبائر، وقد وردت النصوص الكثيرة الناصة على حرمته.
لكن لو وجدت مصالح كثيرة يحتاجها المجتمع، في الحالات الضرورية، والأوضاع الصعبة، فهنا يحكم بحلية الكذب، أو وجوبه في بعض الحالات، خصوصاً إذا كانت المصالح العامة منحصرة في سلوك هذا الطريق، وكان جانب الأهمية في نطاق المصلحة، يغلب جانب المفسدة الموجود في جهة الكذب لحرمته، مما يفقد المفسدة قدرتها على التأثير في التشريع للحكم بالحرمة، ليترك المجال للمصلحة الراجحة للتشريع على مقتضاها من الحلية، أو الوجوب.
هذا ويمكننا أن نذكر لذلك بعض الموارد الفقهية:
الكذب من أجل الإصلاح:
منها:الكذب من أجل الإصلاح، وذلك في حالة وجود خلاف بين شخصين من المؤمنين، وأمكن إصلاحهما، أو توقف إصلاحهما على أن تنقل لأحدهما حديثاً لم يقله الآخر عنه، بقصد تقريب وجهات النظر أو تليـين القلوب، فإن ذلك جائز، ومستحب، وربما وصل الأمر إلى مستوى الوجوب فيما إذا كان الخلاف ينتهي بالنتيجة إلى قتل النفوس أو اختلال النظام.
وقد وردت نصوص عديدة تشير إلى أن المصلح ليس بكذاب، فعن أبي عبد الله الصادق(ع)قال:الكلام ثلاثة:صدق وكذب وإصلاح بين الناس، قيل له:جعلت فداك ما الإصلاح بين الناس، قال:تسمع من الرجل كلاماً يبلغه فتخبث نفسه فتلقاه فتقول:سمعت من فلان فيك من الخير كذا وكذا، خلاف ما سمعت.
الكذب في حالة الخوف:
ومنها:الكذب في حال الخوف على النفس أو المال غير اليسير كما هو رأي كثير من العلماء، أو العرض، فتنتفي الحرمة هنا لما دل على ارتفاعها في حال الاضطرار أو الإكراه ونحوهما.
ومنه نعرف انتفاء الحرمة أيضاً في حال التقية، كما هي القصة المعروفة عن عمار(رض)ونزل فيه قوله تعالى:- (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)
إنقاذ الآخرين:
ومنها:إذا كان في الكذب إنقاذ لآخر في نفسه أو ماله أو عرضه، فقد ورد الحديث الشريف:اخلف بالله كاذباً ونج أحاك من القتل.
الكذب على أهل البدع:
ومنها:الكذب على أهل البدع، إّذ يستفاد من بعض النصوص جواز الكذب على أهل البدع الباطلة ممن يخوض الإسلام معهم صراعاً عنيفاً من أجل العقيدة والجاه، وذلك في الحالات التي يتوقف فيها إبعاد الناس عنهم على ذلك.
وبالجملة الذي نصل إليه من خلال هذا العرض أن الشارع المقدس قد راعى جانب الأهمية في حالة تزاحم المصالح والمفاسد عندما شرع الحكم بالحرمة أو بالحلية، ولم يجعل التشريع جامداً في مكانه، ليجعل الإنسان تحت رحمة الظروف التي يفرضها التحريم.
الغيبة ومسوغاتها:
ومن الأمور التي نرى الترخيص الإسلامي فيها فيجوز ممارسة الوسيلة المحرمة لحماية الغاية الكبيرة المهمة، مسألة الغيبة، إذ وردت النصوص والفتاوى فيها بالحكم بالحلية في بعض الموارد.
النصح للمؤمنين:
منها:النصح للمؤمنين، فلو أراد شخص من المؤمنين الإقدام على الزواج بامرأة تعرف عدم استقامتها، فيجوز لك أن تذكرها بعيبها المخفي له ليعرض عن الزواج منها من باب النصح، وهنا لكون الأهم هو تقديم مصلحة المؤمن عن الوقوع في مثل هذا الخطأ، تقدم على حرمة الغيبة.
الانتصار للمظلوم:
ومنها:الانتصار للمظلوم، على من ظلمه.
غيبة الفاسق:
ومنها:غيبة الفاسق المتجاهر بالفسق، على خلاف بين الفقهاء في سعة الدائرة وضيقها، فهل يقتصر في جواز الغيبة على خصوص ما تجاهر فيه، أو يتعدى إلى جواز غيبته مطلقاً ما دام قد انطبق عليه عنوان الفاسق المتجاهر بفسقه.
مع الحسين(ع)في نهضته المباركة:
والنتيجة التي وصلنا لها في النظرة الإسلامية لمسألة الغاية والوسيلة، هي أن الإسلام من خلال واقعيته وكون تشريعه مجعولاً لمصلحة المكلف، وليس لضرره، فإنه لا يتبنى فكرة الغاية والوسيلة بنحو مطلق، بل في مورد تزاحم التكليفين في الغاية والوسيلة، فيلحظ أكثرهما أهمية فيقدم على الآخر.
وهذه النتيجة تعطينا الجواب على ما يطرحه البعض من القول، بأنه إذا كان الإسلام يقبل تبرير الغاية بالوسيلة ولو في بعض الموارد، لماذا لم يستند الإمام الحسين بن علي(ع) إلى ذلك، إذ من الواضح أن حفظ نفسه الشريفة وهو الإمام المعصوم يعتبر أهم، من إحياء ضمير الأمة.
لأننا نقول حينها، بأن هذا المعنى هو الذي قام به الإمام الحسين(ع)حيث أنه عمد إلى ملاحظة الأهم عندما حصل التـزاحم بين التكليفين بين بقاءه حياً والحفاظ على مهجته الشريفة، وترك الأمويـين يعيثون في الأرض فساداً، أو تقديم مهجته الشريفة فداء للدين الإسلامي، والوقوف أمام هذه الغدة السرطانية أعني الحكم الأموي وبتره من حياة الأمة والقضاء عليه، فلم يخالف الإمام(ع)الوجهة الإسلامية، بل سار على وفقها.