يعتقد الكثيرون أن فاجعة الطف العظمى انقضت مأساتها بشهادة الإمام الحسين وصحبه الكرام(ع)على أرض كربلاء يوم عاشوراء، ليرسموا أسمى صور البطولة والتضحية على تلك التلعات.
لكن هذا وإن كان صحيحاً في نفسه، لكن يبدو أنه ليس هو الفاجعة العظمى، بل هناك فاجعة أعظم ومصاب آلم، وحدث أفظع.
ذلك حينما بدأ الليل يبرز خيوطه السوداء على أرض كربلاء الشهادة، وأخذ يمدّ خيوطه لينسجها ظلاماً دامساً، يغطي كل شيء في تلك الناحية الطاهرة، فلا ترى أجسام الأحبة والأبطال من شهداء الفضيلة والعقيدة.
في ذلك الحين وقد بسط الليل سواده الدامس، وأخذ ينشر الرعب والخوف في النفوس المفجوعة، بدأت الفاجعة، وبدأت مصيبة كربلاء الطف الحقيقية، وتحققت الفاجعة والمحنة.
نساء فاقدات، وأرامل مفجوعات، وصبية وبنات صغار، دخل عليه الليل برعبه الأسود ليزرع في قلوبهم الخوف، وقد غاب عنهم الأحبة، الآباء والأعمام والأخوان، فلا الحسين(ع)ذلك الكيان الذي يجمع الكل ويحويهم، ولا العباس ذلك الذي تكفل حمايتهم ورعايتهم وخرج ليحضر الماء لهم، وهم لا زالوا في انتظاره، ولا الأكبر ولا القاسم، ولا أحد من الأنصار.
ظلام لا يرى فيه إلا سواد الليل المرعب، وصيحات النصر الهزيل يطلقها الأعداء، وقد أخذتهم نشوة الفرح المسموم.
هناك وجدت نفسها بنت علي، وحيدة، فلا أخ ولا كافل، ولا ولد، ولا حبيب، من يحميها وقد خيم الليل بستره عليها، وأطفالها يتصارخون العطش العطش، ويأبون شرب الماء وقد أحضرته لهم لأن حسيناً ذبح عطشاناً، فتحار في أمرهم، مرة يتصارخون العطش العطش، وأخرى يأبون شرب الماء مواساة لغريب الزهراء.
يا لقلبك يا بنت علي، ويا لك من امرأة………من أي النساء أنت؟!!!
كيف تحملت وصبرت كل هذا؟!!!….هل صعدت لمصاف الأنبياء؟!!!
وصرت تتحملين ما تحمّل جدك المصطفى!!!……أو بلغت مرتبة أبيك المرتضى فنلت شيئاً من صبره!!!….إني لأعجب لك من امرأة!!!!…
وفي خضم هذه الأحداث ومعاناة هذه الآلام، ومع كل هذه المآسي، وإذا ببنت علي، ترسم أجمل صور التحمل والصبر والجلد، لتقف فتحفظ تلك العائلة وتجمعها من الشتات وقد شتتها هجوم الأعداء، وقد حرقوا خيماتها،وسلبوا ما عليها من حلي.
فتقف لتقطع أرض كربلاء كفارس على قدميه، دون فرس، وتأخذ في الطواف حول أنحائها، كعابد طاف حول بيت الله، تجمع أيتامها المشردة، وتحضر أرامها المشتتة.
فهناك في أعلى إحدى التلال، تقف لتحضر جنازة طفلين ماتا من العطش، فلم يتحملا واحتفرا حفيرة وأخرجا منها التراب الرطب ليبرّد على قلبيهما حرارة العطش، وصعدت روحيهما الملائكيتين إلى بارئها.
ومرة أخرى نرى بطلة كربلاء تمضي لتنزل وادياً وتأتي بطفلة سحقتها الخيل بحوافرها، وماتت.
وأبت بنت علي، إلا أن تجعل لها في عنق كل شيعي ومحب لأهل البيت(ع)حقاً، عندما ألقت بنفسها على الإمام زين العابدين(ع)وقد أقبل الأعداء يريدون قتله.
وهل اكتفت بنت فاطمة بذلك، لا والله، لا زالت تمضي يمنة ويسرى، وكأنها قامت تريد أن تسجل اسمها على كل حبة رمل في أرض كربلاء البطولة والصمود، فتراها تحادث كل ذرة من ترابها، وتطالبها أن تشهد لها بأنها ليلة الحادي عشر قد داعبتها برجليها الطاهرتين، وهمست معها بأنين يقطع القلوب.
ولما انتصف الليل قامت تبحث عن الرباب، لتجدها وقد افترشت الأرض ووضعت طفلها المذبوح، وقد ألقمته ثديها، وتناديه يا بني اشرب فقد درت المراضع، يا لهول الموقف، ويا لصبر بنت علي، كيف تتحمل هذه المواقف الواحد تلو الآخر، وتبقى صامدة كالجبل الأشم، لا تهزه العواصف.
ولما انتصف الليل قامت تناجي ربها فخرجت ناحية الجثمان المعظم ورفعته بما بقى عندها من جلد وقوى، لتقول:اللهم إن كان هذا يرضيك فخذ منا حتى ترضى،اللهم هذا قربان بيت نبيك فاقبله منا.
وعادت إلى خيمة محروقة، احتشدت بكوكبة من النساء المفجوعات المثكولات الفاقدات لأحبتها، وأطفال صغار لم يعرفوا ذل اليتم من قبل، ولم يشعروا لولية العدو.
عادت لتسطر صورة أخرى ترسم بها قمة الشموخ والصمود بعدما رسم أخوها قسمها الآخر، عادت لتقف تناجي ربها، وتقوم تحيي ظلام الليل الدامس بصوت يشق سكونه ويقطع صمته ويخفف ألمه وزفيره لمصابها، بمناجاة تبتهل فيها إلى بارئها لتنسى ابنة علي، كل الآلام التي عاشتها وهي تقف صافة قدميها لتصلي لربها وردها،ولتعرج تلك النفس الملكوتية إلى عالم آخر،بعدما كانت تعيش عالم العلو.
تلك بطلة كربلاء وتلك ليلة المصاب،ليلة الحادي عشر من المحرم،ويالها من ليلة مرت على زينب وأخوات زينب،بعد ذلك العز الشامخ.