قال تعالى:- (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)
مدخل:
من المعلوم أن أحد أصول الدين، هو أصل العدل، ويعنى به العدل الإلهي، لكن كلما دار الحديث عن هذا الأصل، ظهرت مجموعة من التساؤلات في الأذهان، وربما برزت خارجاَ.
وفي الواقع أن هذه التساؤلات ما هي إلا مجموعة من الإشكالات التي كانت مطروحة من قبل، وذلك لتصور أصحابها عدم انسجام هذه الأمور مع العدل الإلهي، مما يعني وجود منافاة بينهما، ومقتضى ثبوت هذه الأشياء ووجودها خارجاً يستدعي انتفاء عنوان العدل الإلهي وعدم وجوده.
فتطرح مسألة خلق الحسنة والسيئة، وهل هما مخلوقان لله سبحانه وتعالى، فإن كانا مخلوقين للباري سبحانه فذلك يعني أن مرتكب السيئة لا دخل له في ارتكابها؟…
كما تطرح مسألة حوادث الحياة الأليمة، كالآفات والبلايا والعواصف والزلازل والآلام والمتاعب وحالات الفشل والانكسار.
ومن المسائل أيضاً التي تطرح، وتوجب التشكيك في عدالة الباري سبحانه وتعالى، مسألة وجود الشرور في الحياة الإنسانية، وخلق إبليس وهو الشيطان الذي يكون سبباً رئيسياً في إغواء الناس وانحرافهم وابتعادهم عن الجادة القويمة ومعرفة الطريق الصحيح.
القول بالثنائية:
هذا ومما لا ريب فيه أن الوجود يشتمل على فردين من الموجودات:
الفرد الأول:هو الوجود الخير، أو قل الخير.
الفرد الثاني:هو الشر.
ولما كان الوجود مشتملاً على الشر، قال جمع بثنائية الوجود، أي أن العالم مركب من شيئين، وهما الخير والشر، وهذا يستدعي وجود إلهين، إله للخير وإله للشر، وذلك لأن الموجودات إما أن تتصف بالخير، أو أن تتصف بالشر، فلابد من أن يكون هناك مبدآن للوجود تصدر من أحدهما الموجودات الخيرة، وتصدر من الثاني الموجودات الشريرة.
والذي دعى الثنوية إلى القول بهذه المقالة، هي تنـزيههم ساحة الباري تعالى عن أن يكون الشر صادراً عنه، فأثبتوا له شريكاً، كما هو واضح.
هذا وتعد هذه المسألة من المسائل الفلسفية والكلامية المهمة، كما أنها تعتبر من المسائل الحيوية في حياة الإنسان،لكونها تمثل شيئاً من حياته،ويكفينا ما أشرنا له في مطلع الحديث من أنها تخطر في الذهن مباشرة بعد ذكر الحديث عن العدل الإلهي،الذي هو أحد أصول الدين.
حقيقة الخير والشر:
وينبغي ونحن في صدد العلاج لمثل هذا الإشكال،أن نتعرف على حقيقة الخير والشر،والإحاطة بماهيتهما،لما لذلك من أثر في رفع غائلة الإشكال.
الخير: عبارة عن كل ما يتناغم مع وجودنا ويسبب تكامله وتقدمه، فهو المصلحة والمنفعة والفائدة التي تعود على الإنسان، فيقال لكل ذلك بأنه خير.
أما الشر: فهو عبارة عن كل ما لا يتناغم مع وجودنا، ويسبب الانحطاط والتخلف، ولا يكون عائداً بالفائدة ولا المصلحة ولا المنفعة،بل يعود بخلاف ذلك.
أقسام الخير والشر:
ويمكننا تقسيم الخير والشر إلى ثلاثة أقسام:
الأول:الخير المطلق:وهو الخير الخالي من أي صفة سلبية.
الثاني:الشر المطلق:وهو الشر الذي ليس له أي صفة إيجابية.
وهذان الفردان، يندر وجود مصداق لهما خارجاً، بل غالب الموجود في الخارج،هو الأشياء أو الحوادث التي يمكن أن تـتصف بكونها خيراً،كما يمكن وصفها بكونها شراً،بمعنى أنها مركبة من صيغ إيجابية،وسلبية،وعليه فإن كانت الصفات الإيجابية فيها أكثر سميت خيراً،وإن كانت الحالات السلبية فيها أكثر سميت شراً.
الثالث:الخير والشر النسبيان:وقد أتضح معناه من البيان السابق،إذ مرادنا من الأمر النسبي،أنه قد يتصف الشيء بالنسبة إلى شيء بصفة الخيرية مثلاً،لكنه يتصف بصفة الشرية بالنسبة إلى شيء آخر،ولنوضح هذا من خلال عرض القصة التالية:
كان هناك عابد إسرائيلي، له ابنتان زوجهما من رجلين،أحدهما مزارع،والآخر فخار،وبعد فترة من الزمن ذهب لزيارتهما والاطمئنان على أحوا لهما،فزار زوجة المزارع وسألها عن أحوالهم وشؤونهم،فقالت له: بأن زوجها قد زرع زرعاً كثيراً،فإذا أرسلت السماء مطرها غزيراً سيكونوا أحسن بني إسرائيل حالاً،فشكر الله تعالى على ذلك ودعا لها ولزوجها بالصلاح والتوفيق.
ثم مضى إلى زوجة الفخار فسألها عن حالهم، فقالت له:أن زوجها قد صنع فخاراً كثيراً، فإذا حبست السماء مطرها وسلطت الشمس أشعتها الحارة لتجفف الفخار، فإنهم سيكونوا أحسن بني إسرائيل حالاً، فشكر الله تعالى ودعا لهما بالتوفيق.
فنلاحظ في هذه القصة أن المطر الذي كان يمثل الخير للأولى، يعتبر شراً بالنسبة للثانية، بينما الشمس التي تمثل الخير للثانية تعتبر شراً بالنسبة للأولى، وهذا ما يسمى بالأمر النسبي، أي أنه يكون بلحاظ شيء معين حسناً،وبلحاظ شيء معين غير ذلك.
فهناك بعض الأشياء تتصف بمثل هكذا أمر، فقد يكون الشيء شراً بلحاظ شيء، وهو خير في نفس الوقت لكن بلحاظ شيء آخر.
ثم لا يخفى عليك أنه من وجهة نظر الإنسان المؤمن المتدين بدين الإسلام، أنه لا يوجد عندنا إلا قسمين فقط، وهما الخير المحض، والأكثر خيراً، أما الشر المحض، أو الأكثر شراً، أو ما تساوى فيه الخير والشر،فيستحيل وجوده،نظراً لأن الموجود لهذا الكون والخالق له وهو الله سبحانه وتعالى حكيم،وصدور هذه الأشياء من الحكيم قبيح،وغير ممكن.
الشرور أمور عدمية:
وهذا يجرنا إلى السؤال السابق المشار إليه في أول الحديث، وهو من الذي خلق الشرور، بعد التسليم بكونها موجودة؟…
وكيف يمكننا معالجة وجودها مع الحكمة الإلهية، والعدل الإلهي؟…
لقد أجاب الفلاسفة عن مثل هكذا تساؤلات، من خلال بيان حقيقة الشر، وأنه أمر عدمي، وليس أمراً وجودياً، وبالتالي، لا معنى للقول والسؤال، من خلق الشرور، توضيح ذلك:
إن الأشياء إما أن تكون متصفة بالوجود، أو تكون متصفة بالعدم، لأن الأمر لا يخلو عن أحد هذين، ولا ينفك الشيء عنهما، فهو إما موجود، وإما معدوم.
ولذا عرف الفلاسفة الشر، بأنه أمر عدمي، أو أنه أمر وجودي يؤدي ويؤول إلى العدم.
ويمكننا توضيح ذلك من خلال هذا المثال:لو قام زيد بذبح عمرو البريء، فإنه يقال: بأن ذبح زيد لعمرو البريء شر.
لكن ما هو الشر هنا؟…هل هو قوة ذراع زيد القاتل، أو قاطعية السكين وجودة عملها، أو تأثر رقبة المقتول وظرافتها التي يستطيع الإنسان بواسطتها ممارسة كل أنواع الحركة؟…
من الواضح المسلم به، أن أياً من هذه الأمور ليس بشر ونقص، وإنما الشر هنا هو انفصال أجزاء الرقبة والأوداج والعظام عن بعضها.
ولا يخفى على أحد أن الانفصال الذي حصل، أمر عدمي.
وقد يكون أمراً وجودياً أحياناً، كغذاء مسموم، يؤدي إلى موت متناوله، الذي هو أمر عدمي، لذا فهو شر، أو يؤدي مكروب معين، الذي هو أمر وجودي إلى الإصابة بمرض معين.
ومن المعلوم أن الموت ليس سوى انعدام الحياة، والمرض ليس إلا فقد السلامة.
فإذا كانت الشرور كلها أمور عدمية، فلا حاجة للقول بأن لها خالقاً يسمى إله الشر، لأن المعدوم لا يقال له مخلوق، وبهذا نعرف الإجابة على السؤال القائل:من خلق الشر؟…
لأن الشر لما كان عدماً، لا يصح أساساً تصور وجوده أو موجده.
نعم الأشياء الوجودية التي تكون مؤدية للعدم كالطعام المسموم، أو الميكروب المسبب للمرض أو المرض، فإنها أمور وجودية، لكن إذا تساوى خيرها وشرها، أو غلب شرها، أو كان شرها مطلقاً، فإنه لا يمكن أن تلبس خلعة الوجود.
الشر والخير النسبيان:
نعم يمكن أن يقال:بأننا نجد بعض الشرور الموجودة خارجاً، كالجهل والعمى، والنوائب والبلايا والآفات والزلازل، فكيف تقولون بأن الشر عدم، فلا وجود له؟…
ونجيب بأن هذه الأمور المذكورة ترجع للأمر النسبي، الذي سبق وأشرنا إليه في تقسيم الخير والشر، فربما يكون الشيء متصفاً بكونه شراً بلحاظ لكنه خير بلحاظ آخر.
ولذا ذكروا أنه نظراً لنسبية الخير والشر والتأثير المتقابل للأشياء، كثيراً ما يتفق أن تكون الأمور المعدودة من الشرور في الظاهر طريقاً لبركات وخيرات ومنافع وفوائد مختلفة.
فكثير من حالات الحرمان تصير سبباً في تفتح الاستعدادات والجهود العظيمة، لأن الإنسان يبذل قصارى الجهد، ويسعى لإزالة النقص مما يكون سبباً للقفزات العلمية والاجتماعية.
ولذا نجد أن كثيراً من حالات الحرمان صارت سبباً للوصول إلى اختراعات كبيرة، وكثير من حالات النقص صارت مقدمة للوصول إلى منابع مهمة جديدة.
الأشخاص الإستثنائين:
هذا ولكن يبقى التساؤل، وإن عالج القضية من ناحية لكنه لا يعالجها من ناحية أخرى، إذ لقائل أن يقول:بأن الحرمان والنقص في بعض الموارد يكون سبباً للرقي والتقدم، وهذا مسلم، كما في قضية اليابان، فلولا قنبلة هيروشيما لما حصل لهم التقدم والرقي، إذ صارت تلك القنبلة الذرية التي ألقيت سبباً للمستوى المتطور الذي وصلوا إليه.
لكن بالنسبة للأشخاص الاستثنائيين، الذين يولدوا مصابين بالعمى، أو مصابين بالشلل، أو يعانون تخلفاً عقلياً، أو ما شابه، فإن هذا من الشرور بلا ريب، فما هو التصور الصحيح له، هل يعتبر هذا الشر مدعاة للتقدم، والرقي؟…
وعندما نود أن نجيب نقول، بأن هذا لا يختلف عن سابقه لأن وجود الأمراض والنقص، يكون سبباً للبحث والتقدم والرقي، والسعي من أجل علاج ذلك، وبالتالي لا يتـنافى هذا مع ما ذكرناه بل يكون موافقاً له.
ثم لو أردنا إحالة المسألة من الناحية التي ترتبط بالعدل الإلهي، فإننا نجد أن الله سبحانه وتعالى قد أكرم هؤلاء الاستثنائيين من خلال ما جعل لهم من الأجر والثواب، وحث المجتمع إلى إعانتهم ببيان ما لمن أعانهم من الأجر والثواب، ولنشر لنص واحد من باب التبرك، فعن أمير المؤمنين(ع)قال:قال رسول الله(ص):من قاد ضريراً خطوة على أرض سهلة لا يفي بقدر إبرة من جميعه طلاع الأرض ذهباً، فإن كان فيما قاده مهلكة جوزه عنها وجد ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة أوسع من الدنيا مائة ألف مرة ورجح بسيئاته كلها ومحقها وانزله في أعلى الجنان وغرفها.(بحار الأنوار ج 75 ص 15).
كما نجد أن الشرع الشريف قد أسقط عنهم التكليف نتيجة العجز الحاصل لديهم، قال تعالى:- (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج).(سورة النور الآية 61).
أسباب الاستثناء:
هذا وقد تذكر بعض الأسباب الطبيعية للاستثناء كنتيجة حتمية لحصول مثل هذا ونحن نشير لذلك بنحو موجز ونحيل القارئ العزيز على المتابعة لكون ذلك خارجاً عن محط بحثنا:
1-سوء التغذية:
وقد اعتبرته النصوص الشرعية أحد الأسباب الرئيسية لظهور هذا النوع من النقائص.
2-الوراثة:
وهو بحث غني عن الحديث،والإحاطة بتفاصيله في الجملة لا تخفى.
3-المقاربة في أيام العذر:
فعن أبي عبد الله الصادق(ع)قال:ترى هؤلاء المشوهين خلقهم، قال:قلت:نعم، قال:هؤلاء الذين آباؤهم يأتون نساءهم في الطمث.(المحجة البيضاء ج 3 ص 113).
الشرور والعدل الإلهي:
هذا وبعد العرض السابق لمسألة الشر، وأنه عدم، وليس وجوداً، وأن الشرور النسبية طريق للرقي، والتقدم، نعود لطرح هذا المسألة من زاوية أخرى، وهي زاوية العدل الإلهي، وبالتحديد هل أن وجودها يستدعي المخالفة لقانون العدل الإلهي، ولنمثل لذلك بخلق إبليس، فهل أن خلق إبليس من قبل الله تعالى، وهو يعلم بأن إبليس لن يطيع، وأنه لن يمتثل الأمر بالسجود لآدم، يتنافى ومسألة العدل الإلهي؟…
ونجيب:بأن هذا العالم في وجوده على كثرة أجزائه، مرتبط بعضه ببعض، فإيجاد بعضه إنما هو بإيجاد الجميع، وإصلاح الجزء إنما هو بإصلاح الكل، فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم هو الذي سير العالم عالماً، ثم ارتباطها يستلزم ارتباطاً ضروريا.
فلولا الشر والفساد والتعب، لما كان للخير والصحة في هذا العالم مصداق، ولا عقل منها معنى.
ولولا الشقاء لم تكن السعادة، ولولا المعصية لم تتحقق الطاعة، ولولا القبيح والذم لم يوجد الحسن والمدح، ولولا العقاب لم يحصل الثواب، ولولا الدنيا لم تكن آخرة، فهذه الأشياء وجودها كلها من أركان نظام العالم الإنساني الذي يجري على سنة واختيار ويقصد سعادة النوع.
فلكل جزء من أجزاء هذا العالم ارتباط بالأجزاء الأخرى، ولعل هذا يفسر لنا كيفية الرابطة الوجودية بين أعمال الإنسان والحوادث الكونية،من دون فرق بين كونها حسنات،أم سيئات.
خاتمة:
هذا ولعلماء الاجتماع، تقرير يؤكد عدم وجود الشرور، وإنما هي من الأمور الطارئة على الفرد، وذلك حينما يتعرضون لتحليل نفسيات الأشخاص الموسومين بالإجرام، والشرور، فيؤكدون أنه لا يوجد شخص شرير ومجرم بطبعه، وإنما تتحكم فيه العوامل الخارجية، فهو في نفسه خير، لكن لوجود العوامل الخارجية التي تساعد على وجود ذلك، يكون الشخص شريراً، أو مجرماً.