قال تعالى:- (اهدنا الصراط المستقيم) .
تعرض القرآن الكريم إلى عدة أساليب يلجأ فيها العبد إلى ربه سبحانه
وتعالى،ويسأله أن يعرفه الطريق للوصول إليه،لأن الوصول إلى الله غاية يتوخاها
العبد ويطلبها،ويسعى للحصول عليها.
وهذه الآية المباركة إحدى الآيات التي تشتمل على سؤال العبد ربه ودعائه
إياه وطلبه منه أن يوصله إليه،وذلك من خلال سؤاله هدايته إلى الطريق
المستقيم،ليبلغ رضوان الله ونعيمه وجنته.
فالعبد يسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديه إليه،وأن يمكنه من الاستقامة على
طريق الحق والصواب.
من هنا نوقع حديثنا في نقطتين:
النقطة الأولى:الحديث حول معنى الهداية:
التي يطلبها العبد من ربه،في هذه الآية،خصوصاً وأن هذه الآية يكررها
الإنسان المسلم في صلاته عشر مرات يومياً،فهل أن الإنسان ضال حتى يحتاج إلى طلب
الهداية؟…
لأن طالب الهداية من الله لابد أن يكون فاقداً لها،حتى يطلبها،أما واجد
الهداية والحاصل عليها لا معنى لطلبه إياها.ومع كون الإنسان العادي فاقداً
للهداية،فكيف يتصور ذلك في المعصوم(ع)،بحيث يصدر مثل هذا الأمر منه،مع أنه
النموذج الكامل للإنسان؟…
هذا وقد تثار شبهة عقائدية في المقام أيضاً،يتمسك بها الجبريون،الذين
يقولون بالجبر،فيقولون أن هذه الهداية الحاصلة لبعض أفراد البشرية تؤيد
الجبر،إذ أنه تعالى جبر بعض الناس فأعطاهم إياها،وجبر آخرين فحرمهم
منها،ويتمسكون لتدعيم مدعاهم بالآيات التي تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى أعطى
الهداية إلى بعض الناس دون البعض الآخر،قال تعالى:- (وما أرسلنا من رسول إلا
بلسان قومه فيبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم) .
وفي مقام الجواب نقول:
الهداية هي الدلالة،سواء كانت إلى الحق أم إلى الباطل،وأكثر ما يكون
استعمالها في القرآن الكريم في المعنى الأول،ومن الثاني قوله تعالى:- (وهديناه
النجدين) ،وقوله تعالى:- (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) .
وكيف ما كان فقد ذكر المفسرون ثلاثة أراء في مقام بيان الهداية التي
يطلبها المسلم في هذه الآية،وأمثالها من الآيات المباركة:
1-إن المراد من طلب الهداية في الآية،الاستمرار عليها،فبعد ما من الله
سبحانه وتعالى على المصلي بهدايته إلى الإيمان،يطلب من ربه الاستمرار والثبات
على هذه النعمة لئلا تـزل له قدم بعد ثبوتها.
2-أن يكون المراد من الهداية في المقام الثواب، ويكون المعنى عندها:اهدنا
طريق الجنة ثواباً لنا.
3-أن يكون المراد منها،طلب الزيادة لأن الهداية من الأمور النسبية التي
تقبل الزيادة والنقيصة،فمن كان واجداً لمرتبة منها جاز أن يطلب مرتبة أكمل
مما عنده.
ولا يخفى أن هذه الوجوه استحسانية،لا تستقيم مع طلب المسلم لها في صلاته
عشر مرات يومياً،وكذا لا تتناسب مع فعل المعصوم(ع).
وعلى هذا نقول:
نحتاج تفسير الهداية الواردة في الآية محل البحث والآيات القرآنية الأخرى
بنحو التفسير الموضوعي،لأن موضوع الهداية والضلالة الذي ورد في الكتاب
الكريم،من المسائل الدقيقة جداً.
ولذا نحتاج جمع كل ما ورد في هذين المجالين في مقام واحد،ثم تفسير المجموع
باتخاذ البعض قرينة على البعض الآخر.
وخلاصة تلك النتيجة هي:
إن هناك نوعين للهداية ينبغي التفريق بينهما،وعدم خلط أحدهما بالآخر:
النوع الأول:الهداية العامة.
النوع الثاني:الهداية الخاصة.
أما النوع الأول:وهو الهداية العامة:
فهي الهداية من الله سبحانه وتعالى لكافة الموجودات،فتعم العاقل منها وغير
العاقل دون فرق بينهما.
وهي على قسمين:
1-هداية عامة تكوينية:
بمعنى أن الله خلق كل شيء وجهزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها،قال
تعالى على لسان كليمه موسى(ع):- (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) .
فكل مخلوق مجهز بجهاز يوصله إلى الكمال،فالنبات تحت الأرض مجهز بأجهزة
داخلية وعوامل خارجية ترعاه،وهكذا الحيوان والإنسان،فهذه الهداية عامة لجميع
الأشياء ولا تبعيض فيها أو تمييز.
وهذه الهداية ترجع في حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما
أودع الله فيه من الأجهزة والإلهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة.
هذا ومن الهداية التكوينية في الإنسان العقل الموهوب له،الذي يرشده إلى
الخير والصلاح ويدله على ما هو حسن ويمنعه عما هو قبيح.
2-هداية عامة تشريعية:
وهي تختص بالموجود العاقل المدرك،فهي الهداية التي هدى الله بها جميع
البشر بإرسال الرسل وبعث الأنبياء وإنـزال الكتب وإقامة الأوصياء والخلفاء،قال
تعالى:- (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنـزلنا معهم الكتاب والميـزان ليقوم
الناس بالقسط) .
وغيرها من الآيات المشيرة إلى أنه تعالى هدى الإنسان ببعث الأنبياء وإرسال
الرسل،وإنـزال الكتب،ودعوته إلى طاعة أولي الأمر،والرجوع إلى أهل الذكر.
ثم إن هذه الهداية تعم جميع البشرية،فلا تخص جيلاً دون جيل آخر،لأن مقتضى
حكمة الله سبحانه وتعالى هو ذلك.
وبعدما أفاض الله على الإنسان نعمة العقل التي يميــز بها الأشياء،حسنها
وقبيحها،جعله مخيراً بين اختيار الهدى أو الضلالة،قل تعالى:- (إنا هديناه
السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) .
أما النوع الثاني من الهداية:وهو الهداية الخاصة:
فهي هداية تختص بجملة من الأفراد،يخصهم الله سبحانه بها،لأنهم استضاءوا
بنور الهداية العامة في قسميها،مما يجعلهم مورداً للعناية الخاصة من الله
سبحانه وتعالى.
ومعنى هذه الهداية تسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة،وتوفيقهم
للتـزود بالأعمال الصالحة،ومعنى الإضلال في هذه المرحلة هو منعهم من هذه
المواهب،وخذلانهم في الحياة.
ويشهد لما ذكرنا قوله تعالى:- (إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب)
.حيث علق الهداية الخاصة في إعطائها للمالك لصفة الإنابة والتوجه إلى الله
سبحانه وتعالى.
وكما علق إعطاء الهداية الخاصة على ما يوجد بين العبد وربه من علاقة،علق
الضلالة أيضاً على مجموعة صفات إذا امتلكها الإنسان حرم من نور الهداية
الخاصة،قال تعالى:- (والله لا يهدي القوم الظالمين) .
بعد ما قدمنا من توضيح لمعنى الهدية بشكل عام في القرآن الكريم من خلال
عرض ذلك بنحو التفسير الموضوعي يتضح عندنا:
أنه لا يوجد جبر في المقام كما يدعي ذلك القائلون به،حيث أن الهداية
العامة بقسميها قد أفاضها الله سبحانه على كافة الموجودات،كما أنه خص الهداية
العامة التشريعية بخصوص الإنسان،وجعل له طريق الاختيار فمن شاء أن يؤمن
فلنفسه،ومن شاء أن يكفر فلنفسه أيضا.
وأما الهداية الخاصة وهي التي تتعلق بها المشيئة الإلهية والضلالة كما
عرفت فهما يختصان بما إذا كان هناك مقتض وارتفع المانع،بمعنى أنه توجد عند
الإنسان القابلية لأن يعطى هذه المرتبة وتفاض عليه من قبل الله سبحانه
وتعالى،فهذا أمر بيد الإنسان نفسه هو الذي يحصله ويمكنه الوصول إليه متى
أراد،من خلال تحصيل الأمور المعتبرة لبلوغ ذلك.
كما أنه اتضح أن الإنسان في صلاته يومياً يطلب الهداية الخاصة من الله
سبحانه،ونفس هذا المعنى يتصور في حق المعصوم(ع)وهو معنى حسن لا إشكال فيه.
ثم إنه قد اتضح أيضاً مما تقدم أن الهداية الخاصة مرتبة تعادل
العصمة،ويمكننا أن نعبر عنها بأنها العصمة الكسبية مقابل العصمة الذاتية التي يعطاها
المعصوم من البداية.
النقطة الثانية:وقفة روحية:
بعدما تعرفنا على معنى الهداية التي تحدثت عنها الآية المباركة،أحب أن نقف
للحظة وقفة روحية نتأمل فيها ونتذكر شيئاً،وهي تذكرة لنفسي،قبل أن تكون
لكم أيها الأخوة،ومفاد هذه الوقفة:
كلنا يعلم أن الكذب على الله سبحانه وتعالى حرام،بل كبيرة من الكبائر.
وعندنا في الأصول مطلب يسمى بمبحث اجتماع الأمر والنهي،وهو محل خلاف بين
الأعلام،لكن بعض العلماء يقول:
لو اجتمع الأمر والنهي في مورد واحد لزم من ذلك بطلان العمل العبادي،مثلاً
لو اجتمعت الصلاة وهي الأمر مع نهي كالصلاة في الأرض المغصوبة،فإنه يحكم
حينئذٍ ببطلان الصلاة.
وأعود فأقول:قد عرفنا أن الهداية التي نطلبها من الله سبحانه وتعالى في
اليوم والليلة عشر مرات عبارة عن الهداية الخاصة،وكأننا نقول:يا رب إنني
أملك القابلية لأن تفيض عليّ هذه الهداية،حيث أن جميع الموانع والعوائق عن
إفاضتها قد قمت بإزالتها،كما أن جميع الأمور الداعية لحصولها قد قمت
بتحصيلها.
وهنا تكمن الحقيقة الواقعية التي تحتاج إلى وقفة:وهي هل أنني حققت ذلك
فعلاً،فأكون صادقاً مع الله سبحانه،أو أنني لم أحقق ذلك،فأكون كاذباً مع الله
عز وجل،وعندها يجتمع الأمر والنهي.
ولا بأس أن أشير في الختام إلى مطلب يذكره العرفاء عادة:
يقول الكثير من عرفائنا أن المدار على قبول العمل، وليس على سقوط
التكليف،فغاية المكلف ليس مجرد فراغ ذمته من التكليف،بل غايته وهدفه هو قبول عمله
الذي عمله.
وعلينا أن ننظر هل أن الصلاة التي تتضمن كذباً على الله سبحانه،وإن لم تكن
باطلة على رأي بعض الفقهاء،لكنها هل تكون مقبولة ومثبتة في ميزان العمل،أو
أنها لن تصعد حتى إلى السماء؟…
هذا سؤال بإمكان كل إنسان أن يجيب به هو بنفسه،لأنه أعلم بحاله وواقعه من
غيره،فلا يحتاج أن يدله أحد على الإجابة،كما لا يحتاج أن يخبره أحد بصحتها
من خطأها.
وفي ختام البحث أقول:
كثيراً ما يتسائل البعض حول قوله تعالى:- (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر) ،فتراه يقول:
لا ريب في أن الله عز وجل ليس بكاذب،إلا أننا نشاهد أن صلاتنا لا تنهانا
عن فاحشة ولا عن منكر.
وأظن أيها الأخوة أن الجواب صار واضحاً من خلال ما ذكرنا،لأن الصلاة التي
تكون متضمنة لما ذكرناه من كذب على الله سبحانه،لن تنهى عن فاحشة ولا
منكر،وإنما الصلاة التي تنهى عن فاحشة ومنكر صلاة أخرى.