س: لماذا جعل العدل دون بقية الصفات الأخرى لله سبحانه وتعالى أصلاً من أصول الدين؟
ج: قبل أن نذكر السبب المتصور لجعل العدل أصلاً من أصول الدين، لا بأس أن نقدم مقدمتين:
الأولى: بيان تحديد المقصود من العدل، من خلال تعريفه.
إن الرجوع لكلمات علماء الكلام يظهر وجود معنيـين للعدل:
الأول: أن يكون المقصود منه وضع كل شيء في محله وموضعه المقرر له، ويقابله الظلم الذي سيكون وضع الشيء في غير ما قرر له، أو في غير محله.
الثاني: أن يقصد منه المراعاة لحقوق الآخرين، وسوف يكون الظلم على هذا سلب حقوق الآخرين.
ولا يخفى أن المعنى الأول للعدل أوسع من المعنى الثاني، والظاهر أن المقصود في كلمات علماء الكلام عند الحديث عن العدل هو المعنى الثاني دون الأول.
الثانية: تحديد المقصود من مصطلح أصول الدين:
الأصل في اللغة، ما يبتني عليه غيره من حيث أنه يبتني عليه غيره، وإن كان بالنظر والإضافة إلى أمر آخر فرعاً، ألا ترى أن أدلة الفقه من حيث أنها تبتني عليها مسائل الفقه أصول، ومن حيث أنها تبتني على علم التوحيد فروع، لأن الاستدلال بها يتوقف على العلم بصحتها وهو يتوقف على معرفة الباري وصفاته والنبوة[1].
وحاصل هذا المعنى أن الأصل هو الأساس، ولهذا نجد أن صاحب الوسائل(ره) عبر عن ما جاء في صحيح: بني الإسلام على خمس، الصلاة والزكاة..الخ..، بأنها من أصول الدين، لأن ما يبنى عليه، يكون أساساً.
ولا يخفى أن ما بنى عليه صاحب الوسائل(ره)، يبتني على الالتـزام بأن معنى الأصل في اصطلاح أهل الكلام هو نفس معناه اللغوي، أما لو بني على كونه من الألفاظ المنقولة، فالظاهر عدم تمامية ما أفاده(ره).
والإنصاف، بعدُ بقاء اللفظ على معناه اللغوي، بل الظاهر أنه من الألفاظ المنقولة، وهذا يعني أن للكلاميـين اصطلاحا خاصاً بهم في تعريف الأصل، والمقصود منه الاعتقادات التي عليها بناء شريعة سيد المرسلين(ص)، ولا يتحقق الدين إلا بها، ولا يدخل المكلف فيه ولا يعدّ بدونها من المسلمين، ولا تترتب بدونها آثاره، كحقن الدم، وحفظ المال والعرض[2].
وواضح أن هذا التعريف لا يشمل ما تضمنه الصحيح محل البحث، لأن الدين قد يتحقق وإن كان الإنسان تاركاً للصلاة مثلاً، بل منكراً لها لو لم يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة، وتكذيب الرسول، فإنه لا ينتفي عنه عنوان المسلم، كما أن الآثار المترتب على وجود مقومات الدين لا ربط لها بما جاء في الصحيح كما هو واضح.
وبالجملة، يتضح من خلال ما ذكرنا أن مفهوم أصول الدين من الألفاظ المنقولة، وأن للكلاميـين مصطلحاً خاصاً يغاير ما عليه أهل اللغة، ومنه يتضح عدم تمامية ما أفاده صاحب الوسائل(ره).
ثم إنه قد وقع الخلاف بين الأعلام في عدد أصول الدين، فبين من يجعلها خمسة، وبين من يحصرها في واحد وهو التوحيد، أو يضيف إليه المعاد، أو يضيف إليهما النبوة، وكذا الإمامة، وكذا العدل. بينما يظهر من الشيخ صاحب الوسائل(ره)، أنه لا حصر لأصول الدين في عدد معين، بل عدّ منها الصلاة والزكاة والصوم، وكل ما بني عليه الإسلام، نعم ربما يظهر من عبارته أن أصوليتها بنحو إضافي، وليس بنحو حقيقي، فلاحظ.
وما أفاده(ره) من نفي الحصر في عدد الأصول، يبدو أن منشأه تصوره(ره) أن معنى الأصل هو المعنى اللغوي، وقد عرفت فيما تقدم عدم تمامية ما أفاده(قده)، على أن هناك ما يصلح للحصر المذكور، نعم الكلام بين الأعلام في عدّ العدل والإمامة أصلان، أم لا، ويمكن التمسك للحصر بالنصوص التي تضمنت أن من قال الشهادتين، فقد حقن دمه، وحرم ماله وعرضه:
منها: موثقة سماعة عن أبي عبد الله(ع): الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله(ص)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس[3].
بقي أن نشير في خاتمة هذه المقدمة، إلى أن جعل شيء من أصول الدين، ليس تشريعاً سماوياً، إذ لم يشر إلى ذلك في آية قرآنية، ولم يرد في رواية معصومية، وإنما هو تبانٍ علمائي واتفاق في الجملة بين علماء الكلام.
ثم إنه بعد الفراغ عن هاتين المقدمتين، نشير إلى ما يمكن أن يكون منشأً لعدّ العدل أصلاً من أصول الدين:
الأول: إن الكثير من الصفات الإلهية الثبوتية، كصفة الحكمة، وصفة الرازقية، وصفة الرحمانية، وصفة الرحيمية، تعود إلى صفة العدالة، فلو لاحظنا العدل وفقاً لمعناه الواسع لوجدناها داخلة تحته، بحيث أن الرحيم هو الذي يضع كل شيء في موضعه، كما أن الرزاق، هو الذي كل شيء في موضعه، وهكذا.
الثاني: إن بين العدل وبين مسألة المعاد ترابط وثيق جداً، ذلك أن مسألة المعاد تعود إليه، مما يجعل رسالة الأنبياء (ع) أيضاً عائدة إليه، وكذا سوف يعود أصل الإمامة حينئذٍ له بالتبع كما لا يخفى.
الثالث: إن في مسألة العدل بعداً تربوياً قد لوحظ في البين ولوحظ، وذلك بالاعتناء بأثره المترتب عليه في تطبيق العدالة التامة في المجتمعات البشرية.
هذا وقد يذكر سبباً آخر لعده أصلاً يعود إلى مرحلة بروز الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة فيه، ولقول المعتـزلة بثبوت العدل الإلهي، عدوه أصلاً، والله أعلم بحقائق الأمور.
[1] دستور العلماء ج 1 ص 125.
[2] البراهين القاطعة ج 1 ص 70.
[3] الكافي ج 2 ص 25.