من الموضوعات التي يتم تداولها كثيراً على ألسن المكلفين مفهوم البدعة، فيحكم بأن العمل المعين بدعة، ويوسم التصرف المحدد بكونه بدعة، ويطلق على تلك العادة، أو ذلك العرف بأنه بدعة، من دون أن تكون هناك إحاطة تامة غالباً لدى المكلفين بتحديد ماهيتها، والإحاطة بحقيقتها، ما يوجب أن يطلق هذا المفهوم على ما لا ينبغي أن يطلق عليه، فإن الباحث يجد إطلاق هذا المفهوم كما ذكرنا على مجموعة من السلوكيات، أو العادات، أو الأعراف المتغيرة، الكاشف عن سعة دائرة هذا المفهوم، وعدم حصره بخصوص البعد الشرعي، إلا أن الكلام، في أن هذا الإطلاق، والبناء على هذه التوسعة، هل هو في محله، أم أنه يلتـزم بكون البدعة، من المفاهيم المختصة بالأحكام الشرعية، ولا يطلق على غيرها، وهذا ما يدعو إلى تحديد مفهومها، وملاحظة أنها قسم واحد، أم أنها أقسام متعددة، والإحاطة بما يكون مقوماً لمفهومها.
البدعة مفهومها وحقيقتها:
لا يختلف حال البدعة عن بقية المفاهيم، من حيث وجود تعريف لها في كتب اللغة، وعند أهل الاصطلاح.
أما في اللغة: فقد أشير إلى أن للبدعة أصلين:
أحدهما: أن تكون مأخوذة من البَدَع، وهو مأخوذ من بَدَع.
ثانيهما: أن تكون مأخوذة من أبدع.
ومن الواضح أن هذين الأصلين، يعودان إلى معنى واحد، وهو انشاء الشيء لا على سبيل مثال سابق، واختراعه، وابتكاره بعد أن لم يكن.
وإن شئت، فعبر عنه بأنه عبارة عن: الشيء الذي يبتكر ويخترع من دون مثال سابق، ويبتدأ به بعد أن لم يكن موجوداً من قبل.
ولا يخفى أنه وفقاً للتعريف اللغوي، سوف يلتـزم بسعة دائرة هذا المفهوم، ليكون شاملاً لكل جديد، وأنه ينطبق عليه عنوان البدعة، فلاحظ.
وأما تعريفها الاصطلاحي، فإن الباحث عن حقيقتها، يجد صعوبة في الوصول إلى ذلك بسبب ما أحاطه من غموض واغتشاش والتشويش في كلمات العلماء، والباحثين، ولا ريب أن ذلك يوجب تعدداً في المعنى للحقيقة، وأخذ قيود إضافية في كل واحد منها يختلف عن القيود المأخوذ في كلمات الآخر، وهكذا.
ومن الطبيعي جداً أن يترتب على تعدد التعريفات والقيود الدخيلة في الحقيقة، اختلافاً في التطبيق لهذا المفهوم في الواقع العملي، كما لا يخفى. ولم ينحصر الأثر السلبي في ما ذكر، بل ترتب على ذلك استغلال بعض المتطرفين، وأصحاب النفوس المريضة لهذا الاختلاف، وعدم الوضوح في مقام التطبيق العملي على المصاديق الخارجية، فعمد إلى تكفير كثير من المسلمين، بدعوى انطباق مفهوم البدعة على بعض ممارساتهم الدينية.
ومع صعوبة تحديد مفهومها من خلال ملاحظة كلمات العلماء، فإنه يمكن تحديد المقصود منها من بملاحظة النصوص الشريفة التي تعرضت لهذا المفهوم، خصوصاً وأنها المصدر الأساس لتحديد هوية أية مفردات من مفردات الثقافة الإسلامية، كما هو واضح.
البدعة في النصوص:
وبالعود للنصوص، نجد أنها تعرضت للبدعة على طوائف ثلاث:
الأولى: ما تضمن ذكرها في مقابل بعض العناوين التي تمثل الشريعة الإسلامية، ما يفيد أنها مخالفة للشريعة.
الثانية: ما تضمن تحديداً لها بذكر بعض مصاديقها.
الثالثة: ما تضمن تطبيقاً لها على مجموعة من المصاديق.
فمن الطائفة الأولى، ما جاء عن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: لا يذهب من السنة شيء حتى يظهر من البدعة مثله، حتى تذهب السنة، وتظهر البدعة[1].
وعنه(ص) أيضاً أنه قال: ما من أمة ابتدعت بعد نبيها في دينها بدعة، إلا أضاعت مثلها من السنة[2].
وعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: وأما أهل السنة، فالمتمسكون بما سنه الله لهم ورسوله، وإن قلوا، وأما أهل البدعة، فالمخالفون لأمر الله تعالى وكتابه ولرسوله، والعاملون برأيهم، وأهوائهم، وإن كثروا[3].
ويستفاد من هذه الطائفة أن البدعة كل ما يكون مقابلاً لسنة النبي المصطفى(ص)، كما عرفت، وهذا يعني أنه لا تكون موافقة للشرع الشريف، كما أن الظاهر من النصوص اختصاصها بما كان متعلقاً بالأحكام الشرعية، ما يعني خروج ما عدى ذلك عن حقيقتها، بمقتضى المقابلة بالسنة، وهي التي تكون مرتبطة بالأحكام الشرعية، كما لا يخفى.
ومن الطائفة الثانية، ما تضمن تحديدها بالغش، والضلال واتباع الأهواء، فقد جاء عن رسول الله(ص) أنه قال: من غش من أمتي، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، قالوا: يا رسول الله، وما الغش؟ فقال(ص): أن يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها[4].
وما تضمن تحديدها بأنها أدنى مراتب الكفر، والشرك، فقد سأل الحلبي الإمام الصادق(ع): ما أدنى ما يكون به العبد كافراً؟ فقال(ع): أن يبتدع شيئاً فيتولى عليه، ويبرأ ممن خالفه[5].
وقال أبو جعفر الباقر(ع): أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً، فيحب عليه ويبغض[6].
ولا تختلف دلالة هذه النصوص عن الطائفة الأولى، بل هي أوضح في المدعى، فإن المستفاد منها اختصاص البدعة بالأحكام الشرعية، ما يوجب اختصاصها بالدين دون غيره من الأمور الأخرى، ومقتضى اختصاصها به يستوجب أن يكون معناها إدخال شيء فيه لم يكن منه، ويتجلى هذا من خلال جعل النبي(ص) الغش أو الضلال، أو ابتاع الأهواء بدعة، وهي أمور أجنبية عن الدين، بل محرمة، وممنوعة فيه، كما أن الإمامين الصادقين(ع)، جعلا ميزانها ما يوافق ذلك بتحديد أدنى مراتب الشرك بالابتداع، أي الاختراع في الدين، فيجعل ميزان الولاية والبراءة على ما ابتدع في الدين، وكذا جعل ذلك ميزاناً لأدنى مراتب الكفر، فتدبر.
وأما الطائفة الثالثة، فإن القارئ للنصوص يجد كماً هائلاً جداً منها، ولا يسع هذا المختصر عرض ذلك كله، وإنما نقصر الأمر على ذكر بعض النماذج، ويمكن للقارئ العزيز متابعة ذلك في المصادر الحديثية للمسلمين:
فمنها: تطبيق النبي(ص) البدعة على عملية إكراه الناس للدخول في الإسلام، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: إن المسلمين قالوا لرسول الله(ص): لو أكرهت من قدرت عليه من الناس على الاسلام، لكثر عددنا، وقوينا على عدونا، فقال رسول الله(ص): ما كنت لألقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئاً، وما أنا من المتكفلين. فأنزل الله عز وجل عليه: يا محمد:- (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً)[7]، على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا، كما يؤمنون عند المعاينة، ورؤية البأس في الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثواباً ولا مدحاً، لكني اريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين، ليستحقوا منى الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنة الخلد:- (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)[8]،[9].
ومنها: تطبيقه إياه على قيام نافلة شهر رمضان جماعة في لياليه، المعروفة بصلاة التراويح، لعدم تشريعه(ص) ذلك لهم، بل ورد المنع عنه في ذلك، فقد جاء عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: صوم شهر رمضان فريضة، والقيام في جماعة في ليلته بدعة، وما صلاها رسول الله(ص) في لياليه بجماعة، ولو كان خيراً ما تركه، وقد صلى في بعض ليالي شهر رمضان وحده، فقام قوم خلفه، فلما أحس بهم دخل بيته، فعل ذلك ثلاث ليالٍ، فلما أصبح بعد ثلاث صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس لا تصلوا النافلة ليلاً في شهر رمضان، ولا في غيره، فإنها بدعة، ولا تصلوا الضحى، فإنها بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار. ثم نزل وهو يقول: قليل في سنة خير من كثير في بدعة[10].
ومنها: تطبيق أمير المؤمنين(ع) إياها على فعل أهل النهروان، وهم من خرجوا عليه بغير وجه حق، وحاربوه، فقد جاء عنه(ع) -في حديث-: كَفَرةُ أهل الكتاب: اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق، فابتدعوا في أديانهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ثم نزل من على المنبر، وضرب بيده على منكب ابن الكواء، ثم قال: يا ابن الكواء، وما أهل النهراوان منهم ببعيد![11].
ولا ينحصر الأمر كما قلت في تطبيقها على ما ذكرت، وجميع موارد التطبيق تصب في تطبيقها على موارد الأحكام الشرعية، ما يعني عدم مخالفتاها من حيث الدلالة للطائفتين المتقدمتين.
ومن خلال ما قدم، يمكن أن يلتـزم بوجود قدر متيقن يستظهر من النصوص لبيان حقيقة البدعة، وتحديد المقصود منها، وهو أن البدعة عبارة عن: إدخال ما ليس من الدين في الدين.
أركان البدعة:
وقد تحصل من خلال التعريف السابق، أن صدق عنوان البدعة خارجاً يتوقف على توفر عنصرين:
الأول: اختصاص الأمر المستحدث بالأمور الشرعية.
الثاني: عدم وجود دليل شرعي على الأمر الحادث من الدين.
ومقتضى حصر البدعة في الأمور الشرعية التوقيفية، يستوجب خروج ما عدا ذلك من العادات المتغيرة، والمباحات السائدة، والأعراف المختلفة عند الناس، فلا يشمل التطور الذي حدث في أدوات الكتابة، فبعد ما كان الإنسان يستخدم الدواة والكتف، أصبح اليوم يستخدم وسائل الطباعة الحديثة، وبعدما كانت وسائل سفره تتم عبر الدواب، أصبح اليوم يسافر عبر الطائرة، وبعد أن كان الزيت يمثل وسيلة الإضاءة والتدفئة لديه، أصبحت اليوم الكهرباء تقوم بهذا الدور، وهكذا. وجميع ما ذكر وغيره لا ربط له بالابتداع والبدعة، مع أنها لم تكن موجودة في عصر التشريع، لأنها ترتبط بما يختاره الإنسان من وسائل في أساليب حياته المتنوعة، والطريقة التي يتعامل من خلالها مع الأشياء، مضافاً لما يملكه من قدرة وطاقة لتسخير الأشياء إليه، فلاحظ.
ومن خلال ما ذكر، يتضح فساد ما عليه الوهابية القائلون بصدق عنوانها على كل ما كان مستحدثاً وجديداً غير موجود في عصر النبي(ص)، مع أن الغريب أن شيخهم ابن تيمية والذي يعد الأصل في هذه التوسعة لمفهومها يعترف بإرجاع العادات وإيكالها إلى أعراف الناس وطبائعهم، وأن الأصل فيها هو الحلية، وعدم الحظر، قال: فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله[12].
وليس من المعقول أن يجمد الإسلام في وجه المتغيرات الحياتية ومستجداتها وأن يبقى التشريع ساكناً في خضم حركة الحياة، مع أن الإسلام ينسجم تماماً مع الانفتاح على كل ما يوجب رقي الإنسان وتقدمه المشروع، ويجر له الخير والسعادة. ولهذا تعجب من بعض الكلمات التي تصر على إطلاق البدعة على مجموعة من الأمور الحياتية المتطورة، كما يلحظ ذلك المتتبع في كتب القوم.
وبالجملة، لقد خصت الشريعة ظاهرة البدعة بجوهر الأحكام الشرعية وحقائقها، دون الأمور الخارجة عنها، وما لا يكون مرتبطاً بها، والتي لا يعقل أن تكون ثابتة على طول خط التشريع الذي يواكب الحياة الانسانية حتى اللحظات الأخيرة. ولهذا لو تغيرت الظروف الإنسانية وأعرافها لخاصة بما لا يكون مؤثراً على شيء من الأمور الشرعية، كالصلاة مثلاً، فلا يكون مؤثراً على حدودها، وواجباتها، وحقيقتها، فإنه لن يكون داخلاً دائرة الحظر والمنع، ولن يكون منهياً عنه من قبل الشرع.
والحاصل، إن الملاحظ كون أغلب الأمور الشرعية الممارسة من المسلم في كافة المراحل تتصف بخاصيتين:
الأولى: وهو أصل الممارسة المشروعة، والتي تبتني على الأدلة الثابتة في التشريع، وهو ما يكون التعبير عنه بالجانب الشرعي للأمر الحادث.
الثانية: وهو عن شكلية الممارسة المشروعة، وأسلوب وقوعها الذي يختلف حسب تطور الزمن، وطبيعة الأعراف، والتقاليد السائدة في المجتمع، من أن يؤثر على أصل مشروعيتها، وارتباطها بالدين، وهذا ما يمكن التعبير عنه بالجانب العرفي للأمر الحادث.
ولو تابعنا ممارسات المسلمين اليوم، لوجدنا التغيير عندهم في خصوص الخاصية الثانية، دون الخاصية الأولى، فالاحتفال بمولد النبي(ص)، أو غيره من مناسبات أهل بيت العصمة والطهارة(ع)، لا تخرج عن دائرة الاحترام لشخصية الرسول(ص)، والاعتزاز بها، وإنما تغير العرف الذي يمكن من خلاله إبراز هذا الاحترام والاعتزاز، فلاحظ.
ثم إن القوم يدعون في ما تبنوه من دعاوى، الاستناد إلى سيرة السلف، وجعل ذلك دليلاً يعول عليه في إثبات الدعوى، والسيرة المذكورة أوهن من أن تكون صالحة لتقويم نفسها، فضلاً عن أن تقوّم غيرها وتدل عليه، فتدبر.
ووفقاً للعنصر الثاني، يلزم أن يفتقد الأمر الحادث الدليل الدال عليه، سواء كان دليلاً عاما، أم كان دليلاً خاصاً، ومتى ما وجد دليل عام أو خاص يدل عليه، لم ينطبق عليه عنوان البدعة، وإن لم يكن موجوداً في عصر الرسالة المحمدية، فصلاة الآيات التي تؤدى نتيجة وقوع زلزلة مثلاً، لا يمكن الحكم عليها بالبدعة، لأنه لم يصدر فعلها لهذا السبب من قبل النبي(ص)، إلا أن الدليل الخاص يدل على مشروعيتها، وبالتالي، فلا يمكن وسم هذا العمل ووصفه بالبدعة، كما هو واضح.
وكذا ما يشمله شيء من الأدلة العامة، مثل الموارد والموضوعات التي تناولتها الشريعة، إلا أنها تركت أمر موضوعاتها بيد المكلف، خصوصاً وأن كثيراً من دلالات الأحكام الشرعية عامة، وكلية، يترك الأمر لنفس المكلف في تطبيقها على مواردها. والنماذج في هذا المورد كثيرة، منها على سبيل المثال الاهتمام بالقرآن الكريم، فهل يقول أحد أن ما يتم اليوم من طباعته وبالطريقة التي أصبح عليها، يعدّ من البدعة، أو أن هذا مما يدل على الاهتمام بالقرآن الكريم، ليكون مشمولاً بالعمومات التي دعت إلى ذلك.
ومثل ذلك إقامة مجالسة العزاء على الموتى، وكذا زيارة المراقد الطهارة للنبي الأكرم محمد(ص)، والأئمة الأطهار(ع)، وكذلك إحياء ميلاد النبي(ص)، والاحتفال بذلك اليوم، وغير ذلك.
الفرق بين الشعيرة والبدعة:
ولا يذهب عليك، أنه وفقاً لملاحظة هذين الركنين ودخالتهما في تعريف البدعة، سوف تفترق البدعة عن الشعيرة المخترعة[13]، فلا يتوهم دخول الشعائر المخترعة تحت هذا العنوان، وذلك لأن المفروض أن الشعائر المخترعة يشملها الدليل إما الخاص، أو العام للشعيرة، فتكون داخلة تحته، ومن أفراده، فتدبر.
تقسيم البدعة:
ثم إنه قد وقع الخلاف بين العلماء والباحثين، في أن البدعة من المفاهيم ذات الأقسام لتي تحتها مصاديق متعددة، أو أنها من المفاهيم التي ليس لها إلا مصداق واحد، وهو خصوص ما كان مبغوضاً للشرع الشريف، وإن تعددت عناوينه، وقد نجم هذا الاختلاف، جراء اختلافهم في بيان حقيقتها كما عرفت، فكان واحداً من الآثار السلبية التي ترتبت على ذلك.
وكيف ما كان، فقد وجد اتجاهان في تفسير البدعة، وعرض حقيقتها:
الأول: وهو الاتجاه الذي تبنى حقيقتها وفقاً لمعناها اللغوي، وقد عرفت أن هذا يعطي سعة في مفهومها، فلا تكون منحصرة في خصوص الجنبة الدينية، والأحكام الشرعية، لذا ألتـزم بأنها شاملة لكل أمر مستحدث لم يكن موجوداً في عصر الرسالة. ولا يفرق في ذلك الشيء بين كونها أمراً صحيحاً، أم باطلاً.
وبالجملة، فقد جعل أصحاب هذا الاتجاه المعيار في حقيقتها، كل فعل لم يعهد في عصر النبي محمد(ص).
الثاني: وهو الاتجاه الذي التـزم في حقيقتها بالمعنى الاصطلاحي المعروف بين العلماء، والمقتنص من النصوص الإسلامية، الذي هو إدخال ما ليس من الدين في الدين.
ومقتضى الاتجاه المذكور البناء على ضيق دائرة حقيقتها، بحصرها-كما عرفت-في خصوص البعد الديني الشرعي، ليس إلا.
وقد بنى أصحاب الاتجاه الأول، وفقاً لما اختاروه من حقيقة لها، على أنها تنقسم إلى قسمين: بدعة حسنة، وبدعة محرمة، بل جعلها بعضهم منقسمة وفقاً للأحكام الخمسة، وذكروا لكل واحد منها مثالاً:
فمثلوا للبدعة الواجبة: بتعلم العلوم التي فهم بها كلام الله سبحانه، ورسوله(ص)، لأن ذلك مقدمة لحفظ الشريعة، والعمل بها، وقد ثبت في محله أن مقدمة الواجب واجبة.
ومثلوا للبدعة المحرمة، بالعقائد التي ظهرت بعد رحلة النبي(ص)، والتي تضاد الكتاب والسنة، والأفعال التي يؤتى بها باسم الشريعة، وليس لها أصل في الشرع الشريف.
وأما البدعة المندوبة، فمثالها التعليم الأكاديمي اليوم. والبدعة المكروهة، كزخرفة المساجد، وأما البدعة المباحة، فكبناء ناطحات السحاب، والتنوع في الملابس، وما شابه ذلك.
ولم يكن الداعي لهؤلاء للقول بتعدد أقسامها، وجود ما يشير لذلك في المعاجم اللغوية، إلا أنهم وجدوا أنفسهم في مأزق حقيقي، لوجود مقولة لعمر بن الخطاب، تتضمن الحكم بحسن البدعة، وهذا يوجب الوقوع في محذور، إما أن يبنى على أن الرجل من أهل البدع، ما يوجب خروجه من الدين، أو أن تأول الحقائق، حتى تكون موافقة لمقولته، وهذا هو الذي قام به هؤلاء، فقد نقل البخاري في صحيحه، أنه قد رأى المسلمين مجتمعين في المسجد يصلون نوافل شهر رمضان، ثم جمعهم على أبي بن كعب، وقال عندها: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. فكان إطلاقه لفظة البدعة على الأمر المسنون عندهم منشأً للقول بانقسامها كما عرفت.
ويكفي للمنع من القبول بالتقسيم المذكور، ما يظهر من القرآن الكريم، والسنة الشريفة توصيفاً للبدعة وحصرها في خصوص الأمر المذموم، والقبيح. كما يظهر ذلك من قوله تعالى:- (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها)[14]، فإنه على أي نحو من النحوين المذكورين للاستثناء في الآية، فإن المستفاد منها جعل البدعة التي صدرت منهم في معرض الذم والتقبيح، وليست أمراً حسناً، وكذا الآيات التي تضمنت عرضاً للبدعة من حيث المضمون، وإن لم تكن متضمنة للفظ، والنصوص أيضاً لا تخرج عن ذلك.
وربما برر هذا التقسيم، استناداً لما رواه مسلم عن النبي(ص) أنه قال: من سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. على أساس أنه لا فرق بين السنة والبدعة، فكما أن السنة تنقسم إلى حسنة وسيئة، فكذلك البدعة، تنقسم إلى ذلك.
وضعف هذا التوجيه واضح، للفارق البيّن بين حقيقة السنة وحقيقة البدعة، لأن السنة بحسب اللغة الطريقة والسيرة، والبدعة قد عرفت حقيقتها، فلا نعيد.
أسباب نشوء البدع:
لا يختلف حال البدع عن أية ظاهرة من الظواهر الدخيلة في الوجود البشري، سواء كانت ترتبط بالنواحي الاجتماعية أم النواحي الاقتصادية، أم النواحي العقدية والفكرية، في أن وجودها رهين توفر مجموعة من العوامل والأسباب التي تؤدي إلى ذلك، وقد ذكرت عدة أسباب وعوامل يكون وجودها موجباً لحصول البدعة:
منها: السذاجة والجهل، والتسامح في أمر الدين:
وقد كانت هذه الظواهر تسود المجتمع العربي في الجزيرة عند بعثة النبي الأكرم(ص)، وقد أوجدت بعثة المصطفى(ص) صحوة فكرية وتحريراً للعقول في تلك المنطقة، من الأفكار الجاهلية والخرافات، وعلمتهم المثل الإنسانية الرفيعة، والقيم والأخلاق.
وقد أبرز الجهل بتوقيفية الأحكام الشرعية، والتسامح في أمر الدين، الخلط بين أمور الحلال والحرام كثيراً، فيجد القارئ لكتب السير، كثيراً من البدع التي ظهرت بين المسلمين في حياة النبي(ص)، وقد كان منشؤها ما ذكر، فقد جاء في الموطأ أن رسول الله(ص) رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس، ولا يجلس، ويصوم، فقال رسول الله(ص): مره فليتكلم، وليستظل، وليجلس، وليتم صيامه. فإن الصادر منه نذر غير مشروع، لأنه قد ابتكر أموراً لا تشرع، وجعلها في حيز الشرع، كما هو واضح.
ومنها: النظرة البتراء إلى الدين:
ونقصد بذلك القيام بعملية الفصل بين الدين والحياة الانسانية، فيجعل الدين مقتصراً على خصوص الأمور العبادية، ولا علاقة لذلك بالمجتمع، والأمور التي تحيط بالإنسان. والطبيعي أن هذا الفهم السطحي للدين، يوجب ظهور مجموعة من البدع في حياة البشر، ومن الأمثلة على ذلك القصة التي يرويها سلمان في شأن أبي الدرداء، فقد روي أن سلمان الفارسي(رض)، جاء زائراً لأبي الدرداء فوجد أم الدرداء مبتذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك ليست له حاجة في شيء من أمر الدنيا. فلما جاء أبو الدرداء رحب بسلمان وقرب إليه طعاماً، فقال لسلمان أطعم، فقال: أني صائم، قال: أقسمت عليك إلا ما طعمت، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل. وبات عنده، فلما جاء الليل قام أبو الدرداء، فحبسه سلمان، وقال: يا أبا الدرداء، إن لربك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم، وأعط كل ذي حق حقه، فأتى أبو الدرداء النبي(ص)، فأخبره بما قال سلمان، فقال له مثل قول سلمان[15].
ومنها: السؤال عن المعضلات، والخوض في المحظورات:
وأظن أن هذا من الأمور الواضحة، إذ أن السؤال عن الأمور التي سكتت الشريعة عن ذكرها، أو السؤال عن القضايا الغيبية التي لا يمكن لكل أحد أن يحيط بها، مدعاة للوقوع في الشبه، وموجبة لحصول البدع.
ومنها: اتباع الأهواء:
والانحراف عن جادة الصواب، والصراط الإلهي المستقيم، وذلك بتأول ما ليس مورداً للتأويل، وتحوير الأمور على خلافها، فمن النماذج على ذلك ما ورد من أن نفراً من أهل الشام، وعليهم يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، قد شربوا الخمر، وقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية:- (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا)[16]، ومثل ذلك كان مصير الخوارج، فإنهم قد تأولوا ما ليس مورداً للتأويل، واتبعوا الشيطان، والأهواء، فخرجوا على أمير المؤمنين(ع).
ولا تنحصر العوامل الموجبة لظهورها، فضلاً عن انتشاراها في خصوص ما ذكر، بل يمكن للقارئ العزيز أن يقف على عوامل وأسباب أخرى، أعرضنا عن ذكرها مخالفة الإطالة[17].
[1] كنـز العمال ج 1 ح 1119.
[2] المصدر السابق ح 1100.
[3] المصدر السابق ح 44216.
[4] كنـز العمال ج 1 ح 1118.
[5] أصول الكافي باب أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالاً ح 1.
[6] ثواب الأعمال وعقابها ص 587 ح 3.
[7] سورة يونس الآية رقم 99.
[8] سورة يونس الآية رقم 99.
[9] التوحيد للشيخ الصدوق باب 55 ح 11.
[10] بحار الأنوار ج 94 باب 3 ح 4.
[11] الاحتجاج ج 1 ص 617.
[12] نقلاً عن اقتضاء الصراط المستقيم ص 269، الفتاوى ج 4 ص 196.
[13] تنقسم الشعائر الحسينية إلى قسمين:
1-شعائر منصوصة، وهي التي ورد النص عليها بالخصوص في روايات المعصومين(ع).
2-شعائر مخترعة، وهي التي لم يرد عليها نص بخصوصها، إلا أنه يمكن أن تشملها الأدلة الدالة على مشروعية الشعيرة.
[14] سورة الحديد الآية رقم 27.
[15] بحار الأنوار ج 67 باب 51 ح 14 ص 128.
[16] سورة المائدة الآية رقم 93.
[17] مصادر البحث: كتاب البدعة، رسائل ومقالات ج 5.