هذا وقد يشكل على التوقيع الشريف أيضاً بإشكالين آخرين، نشير إليهما:
دلالة التوقيع من المتشابه:
أولهما: كون التوقيع الشريف من المتشابه، وحاصل ما ذكر في تصوير هذا الإشكال، بأنه كما ثبت وجود المتشابه في الآيات القرآنية، فكذلك دلت النصوص على وجود المتشابه في روايات أهل البيت(ع)، والتوقيع الشريف واحد من تلك النصوص المتشابهة التي لا يمكن الجزم بتحديد المقصود فيها، ويشهد لكونه من المتشابه وقوع الاختلاف بين العلماء في تحديد المراد فيه، فلا يستند إليه، ولا يستدل به.
ولم يتضح لي بالتحديد ما هو المتشابه في التوقيع الشريف، فهل يقصد بأنه بأكمله من المتشابه، أم أن شيئاً من ألفاظه هي التي من المتشابه، وعلى فرض البناء على الثاني، فهل اللفظ المتشابه فيه هو لفظ الغيبة التامة، أم أن المتشابه هو لفظ المشاهدة الذي ورد فيه.
مع أن شيئاً مما ذكرتُ لم يُتعرض إليه في كلمات المستشكل، إلا أن الذي يبدو أن نظره منصب على لفظ المشاهدة، ويشهد لذلك ما جاء في كلماته من الاستشهاد بوقوع الاختلاف بين أعلامنا في فهم المقصود منها، حيث استشهد بالشيخ الكاظمي، والسيد الصدر(قده)، وهما ممن تعرض للحديث حول تحديد المقصود من المشاهدة، وهل يراد منها الرؤية البصرية، أم أن لها معنى كنائياً آخر.
وعلى أي حال، فأول ما ينبغي الالتفات إليه هو تحديد المقصود من المتشابه، وهل أن المراد منه هو نفس المراد في الآيات الشريفة، خصوصاً مع التوجه إلى وجود خلاف بين أهل التفسير في تحديد المقصود منه، حتى أن الباحث يجد أقوالاً عديدة بينهم قد تصل لأكثر من خمسة عشر قولاً، وهذا يعني عدم الاتفاق على تحديد المقصود منه بالنسبة للآيات الشريفة، فهل يا ترى أن القائل بالمتشابه في النصوص سوف يلتـزم بتعدد الأقوال في المراد منه أيضاً، أم أن له حقيقة فيها تختلف عما هو المقصود منه في القرآن الكريم؟.
وكيف كان، فإن الالتـزام بثبوت المتشابه في اللفظ، ومن ثمّ البناء على كونه مجملاً غير محدد المراد، بل مناط بما إذا لم يمكن تحديد المقصود منه بحسب المفهوم العرفي، أما لو أمكن للعرف تحديد المقصود منه، فلن يكون في البين إجمال، وبالتالي لن يكون هناك متشابه أصلاً.
ومجرد الاختلاف بين الأعلام في الاستظهار، وتحديد المقصود، لا يوجب القول بوجود التشابه خارجاً، كيف، وكلنا يعلم بأن الظهورات من الأمور العقلائية، والتي يرجع فيها للنوع، ولا يعول فيها على الفرد كما قرر في محله، فتدبر.
والحاصل، متى ما كان المقصود من التوقيع واضح الدلالة، بيّناً عند العرف وفقاً للمنظور العقلائي، عول عليه، ورتب الأثر، ولم تسمع دعوى التشابه فيه.
مع أنك قد عرفت منا أن المقصود من المشاهدة في التوقيع الشريف وفقاً للقرائن الداخلية، والفهم العرفي السفارة، وليس مجرد المشاهدة، فلا نعيد.
مدلول التوقيع أمر جزئي، وليس كلياً:
وحاصل الإشكال الثاني، هو إن القضايا التي ترد في النصوص لا تخلو إما أن تكون قضية مسورة، أو تكون قضية مهملة، والقضية المسورة، إما أن تكون قضية كلية، أو تكون قضية جزئية، فالقضية الكلية، هي التي تدل على أمر كلي، والقضية الجزئية هي التي تدل على أمر جزئي، فلو لم تكن القضية ذات سور عبر عنها بالمهملة، فتكون في قوة الجزئية، وعندما نطبق هذه القاعدة على توقيع السمري، نجد أنه قضية غير مسورة، بل مهملة، فتكون في قوة الجزئية، وهذا يعني أن ما ينفيه التوقيع من المشاهدة، هي بعض المشاهدة، وليست جميعها، وإذا سلمنا أن المقصود من المشاهدة فيه هي السفارة، فإن المنفي إذاً هي بعض السفارة، وليست جميعها، وهذا يستلزم أن لا يكون للتوقيع دلالة على انقطاعها بوفاة السفير الرابع، لأن المستفاد منه هو نفيها في الجملة، وهو ما عبرنا عنه بالأمر الجزئي، فيكون ساكتاً عن إمكانية وجودها في زمان الغيبة الكبرى، وهو المطلوب.
ويشهد لما ذكر من أن القضية التي في التوقيع جزئية، وليست كلية النصوص التي تضمنت إرساله(عج) من يمثله في فترة ما قبل القيام، كرواية عبد الأعلى الحلبي، ورواية اليماني.
وبعبارة موجزة، إن التوقيع لا يثبت انتهاء السفارة بوفاة السفير الرابع، لأنه قضية غير مسورة، بل قضية مهملة، فيكون مضمونه أمراً جزئياً، فلاحظ.
ولا يخفى أن الاستدلال المذكور يقوم على الالتـزام بكون الموضوع في التوقيع الشريف قضية مهملة، وليس قضية مسورة، حتى يلتـزم بأن القضية المهملة في قوة القضية الجزئية، مع أن وجود اللام في كلمة المشاهدة مانع من البناء على كون القضية مهملة غير مسورة، ضرورة أن اللام كما لا يخفى للاستغراق، وبالتالي سوف تكون القضية مسورة، وليست مهملة، وهذا يستدعي أن تكون دالة على معنى كلي، وليست مفيدة لمعنى جزئي، كما هو واضح.
ثم إنه بعد رفع اليد عما قدم، فإن النصوص التي أشير إليها لا تصلح للمدعى، إذ مضافاً لما عرفت الجواب عنها في محله، فإنها مختلفة من حيث المتن، وفقاً لاختلاف نسخها، ولنذكر لذلك مثالاً، وهو موثقة إسحاق بن عمار والتي يُستند إليها في إمكانية الرؤية في زمان الغيبة الكبرى، لأنه قد جاء في ذيلها: والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه. إلا أنها قد نقلت في كتاب الغيبة للنعماني بصورة أخرى تغايرها في الدلالة، فقد ورد فيها: والأخرى لا يعلم بمكانه فيها خاصة مواليه في دينه[1]، ومن الواضح جداً أنه وفقاً لهذا النقل، لن تكون ذات ارتباط بالمدعى أصلاً، لأنها تثبت عدم إمكانية اللقاء والرؤية بالمولى(روحي له الفداء)في زمان الغيبة الكبرى، ومثل ذلك أيضاً نقل آخر لها، فقد ورد فيه: للقائم غيبتان، إحداهما قصيرة، والأخرى طويلة، الأولى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه[2]. فإنها ساكتة تماماً عن الحديث عن الغيبة الكبرى، وينصّب حديثها فقط حول الغيبة الصغرى ليس إلا، فلاحظ.
وبالجملة، إن الإشكال المذكور لا يختلف حاله عما تقدمه من إشكالات، وبالتالي لا يصلح لمنع دلالة التوقيع الشريف على المدعى.
——————————————————————————–
[1] أشير إلى ذلك في البحار ج 52 ص 155 ح 10، وقد عمد المحقق إلى تصحيحها، فلاحظ.
[2] المصدر السابق.