توسع القرآن الكريم، فلم يقصر حديثه على الموجودات المدركة بالقوى الحسية، بل توسع فتحدث عن موجودات لا تدركه القوى الحسية للإنسان، كالجن والملائكة.
ومن المعلوم أن عدم إدراكها بالقوى الحسية، يوجب الجهل بماهيتها وخصائصها الوجودية، خصوصاً وأن القرآن الكريم، حال حديثه عنها لم يعمد إلى شرح شيء من حقيقتها، وبيان تفصيله. فلا نجد له حال حديثه عن الملائكة مثلاً بياناً إلى حقيقة الملك، وهل أنه مكلف، وما إلى ذلك. نعم تضمن حديثه عن الملائكة الإشارة تارة إلى أوصافها العامة، فذكر أن للملائكة أجنحة، وأنهم يتفاوتون فيها من حيث العدد، وأخرى كان حديثه بالإشارة إلى بعض الخصائص المميزة لها على بعضها البعض، فأشار إلى مكانة الأمين جبرائيل(ع)، وكيف أنه مطاع ومكين.
ولم يقصر الحديث القرآني عن الملائكة على خصوص بيان الأوصاف العامة، أو ذكر المميزات والخصائص، بل أشار أيضاً إلى أعمال الملائكة[1]، معدداً جملة من أعمالها:
منها: أنهم حملة الوحي للأنبياء والمرسلين(ع)، قال تعالى:- (قل نزله روح القدس)[2]، وقال سبحانه:- (بأيدي سفرة كرام بررة)[3].
ومنها: نزولهم بالأمر الإلهي، قال تعالى:- (فالمدبرات أمراً)[4]، وقال عز من قائل:- (فالمقسمات أمراً)[5]. والأمر الإلهي يحتمل أن يكون الأمر التشريعي، كما يحتمل أن يكون الأمر التكويني، وإن كان الاحتمال الثاني، أقرب، فتأمل.
ومنها: قيامهم بتسجيل أعمال العباد، قال تعالى:- (وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين)[6].
ومنها: الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم، قال تعالى:- (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم)[7].
هذا وعند تسليط الضوء على القسم الأخير من وظيفة الملائكة نجد أنها تضمنت أموراً، إذ أول ما يلحظه القارئ تضمنها الحديث عن عرش محمول من قبل حاملين له، لم تحدد هويتهم، وإن كان المستظهر عند الأكثر كونهم من الملائكة، ولذا عدّ ذلك في سياق ما أثبت إليهم من أعمال في القرآن الكريم، فما هي حقيقة هذا العرش الذي يحمله هؤلاء، وهل هو كبقية العروش الثابتة لملوك الدنيا، وعليه يكون متوافقاً لمعنى الكرسي والسرير، وعليه فيكون حديث القرآن عن الكرسي وعن العرش حديث عن موضوع وحقيقة واحدة، أم أن العرش الذي يتحدث القرآن الكريم عنه يختلف عن العروش التي لملوك الدنيا، وبالتالي يكون العرش مختلفاً ربما عن الكرسي، أو يلتـزم باتحادهما حقيقة، لكون المقصود من العرش أمراً يختلف عن الكرسي الذي يكون لملوك الدنيا، كل هذه التساؤلات تدور في الأذهان عند النظر في هذه الآية الشريفة، وغيرها من الآيات التي تضمنت ذكر العرش كما لا يخفى، وعليه لابد من الحديث حول هذه الحقيقة، ومعرفة المقصود من العرش.
ولا يخفى على القارئ أن مفردة العرش قد ذكرت في القرآن الكريم في واحد وعشرين آية، وأنخذ عرضها في الكتاب المجيد أساليب متعددة، كما عرض القرآن الكريم مفردة الكرسي، إلا أنه لم يذكرها إلا مرة واحدة فقط.
العرش لغة:
وأول ما ينبغي ملاحظته في البحث عن تحديد المقصود من العرش، وتحديد هويته هو الرجوع لما ذكره علماء اللغة في بيانه، ذلك أنه من المفاهيم التي أشير لها في كلماتهم.
والمستفاد من كلماتهم أن العرش هو ما يقابل الفرش، وأن حقيقته عبارة عن ما يكون ممتداً ومنبسطاً فوق الرأس، وهو سرير الملك، بمقتضى المقابلة، ذلك أن الفرش ما يكون ممتداً تحت القدم، فهو ما يكون ممتداً فوق الرأس.
ووفقاً لهذا التعريف فسوف تكون حقيقته حقيقة إضافية، فيمكن أن يكون شيء عرشاً لشيء آخر، فسقف الدار يكون عرشاً لكل شيء تحتها، والسماء مثلاً تكون عرشاً للدار، وما هو فوق السماء يكون عرشاً للسماء، ووجود شيء فوق ذاك الشيء يكون عرشاً لذلك الشيء، وهكذا.
والتعريف المذكور للعرش لغة يجعل ما ذكر في كلمات بعضهم تعداداً لمصاديق لحقيقته، وليس عرضاً لها، فتفسيره في بعضها بالسرير، وفي آخر بالكرسي، لا يعد بياناً للحقيقة، وإنما إشارة إلى مصداق من مصاديقه ليس إلا، فلاحظ.
العرش تفسيرياً:
ويعتبر العرش من الموضوعات التفسيرية التي تعددت الرؤى فيها، والعمدة في ذلك رؤيتان:
الأولى: وهي الرؤية التي تبناه المحدثون ، ومفادها اعتبار مفردة العرش من المفردات المتشابهة في القران الكريم، والتي لا يعلم تفسيرها وتأويلها إلا الله سبحانه وتعالى، والراسخون في العلم ممن أذن الله تعالى لهم بذلك، وأفاض عليهم في هذا المجال ما يعطيهم ذلك.
وهؤلاء يؤمنون بمضمون هذه المفردة كما يؤمنون بغيرها من المفردات القرآنية، إلا أنهم يلتـزمون عدم الدخول في بحثها، والخوض في المقصود منها.
والحاصل، إن أصحاب هذه الرؤية يحصرون القدرة والإحاطة بجملة من الحقائق القرآنية كالعرش مثلاً على خصوص فئة معينة، وهم الأنبياء، والأئمة الأطهار(ع)، وأما غيرهم، فليس لهم ذلك، لأنهم لا يملكون القدرة على الإحاطة بالأمور الغيبية التي توجد في عالم الغيب.
ولا أظن أننا بحاجة لمناقشة هذه الرؤية، ذلك أن جميع ما دل على حجية ظواهر الكتاب الكريم، موجب لرفع اليد عنها، وعدم الإنصات إليها.
الثانية: وهي الرؤية التي تبناها المجتهدون من العلماء، الذين يعتقدون أن القرآن الكريم كتاب هداية، وأنه قد جاء مبيناً للناس، وقد أشتمل على الأمر بالتدبر والتعقل في آياته الشريفة، كما دعى إلى ملاحظة معانيه ومضامينه، فكل مفردة منه يمكن فهمها، وإلا ما كان القرآن الكريم، هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان.
حقيقة العرش قرآنياً:
وبناءاً على الرؤية الثانية في التعاطي مع المفاهيم القرآنية، والتي يؤكد عليها المشهور من أعلام الطائفة، للبناء على حجية ظواهر الكتاب العزيز، فقد تعددت الآراء التفسيرية في بيان حقيقته، وقد حكى أغلبها، الشيخ الطبرسي(ره) في المجمع، ونحن نشير إلى بعضها:
منها: أن العرش عبارة عن موجود مخلوق لله سبحانه وتعالى، له هيأة كهيأة السرير، تحمله الملائكة، وهو متحد مفهوماً مع الكرسي، شأنه شأن بقية عروش الملوك، وإنما يختلف عنها بوجود مجموعة من الخصائص له جعلته أهم وأوسع ، وإلا فهو موجود مادي مخلوق للباري تعالى، شأنه شأن بقية الأمور المادية الأخرى.
وقد تبنى هذا الرأي القائلون بالتشبيه والتجسيم، الذين يجسمون الباري سبحانه وتعالى بالموجودات المادية، ويستندون في ذلك إلى الظواهر القرآنية للآيات المباركة، والنصوص الشريفة.
ويكفي لبطلان هذا الرأي وفساده، فساد ما قام عليه من دليل، إذ قد عرفت أن منشأه هو القول بالتجسيم المادي للذات المقدسة، وبطلان هذا المبنى من الوضوح بمكان، فمن الطبيعي جداً أن تكون اللوازم والآثار المترتبة عليه باطلة أيضاً. مضافاً إلى أن الآيات القرآنية قد تعددت في تنـزيه الباري تعالى، وتقديسه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه تعالى، فلاحظ قوله تعالى:- (يسبح لله ما في السماوات والأرض)، وقوله تعالى:- (سبح لله ما في السماوات والأرض)، فإن التسبيح كما هو معلوم، يعني التنـزيه.
ومنها: ما أختاره علماء الهيئة القديمة، من أن العرش موجود ومخلوق لله سبحانه وتعالى، واسع محيط بهذا العالم، وليس بعده احاطة، وهو الفلك التاسع من الأفلاك الكونية التسعة، وقد استندوا في ذلك إلى نظرية بطليموس في الأفلاك، وحاصل تلك النظرية:
أن الله تعالى قد خلق سبعة من الأفلاك، وهي تمثل السماوات السبع، ويفترضونها الكواكب السيارة: زحل، والمشتري، والمريخ، والأرض، والزهرة، وعطارد، وغيرها، ويوجد وراءها عالم آخر محيط بها يسمونه الكرسي، وهو يمثل الفلك الثامن في مجمل ما خلق الله تعالى في هذا الكون، وهو محيط بهذه العوالم وبهذه الأفلاك السبعة، وهناك عالم تاسع يكون محيطاً بالكرسي وبهذه العوالم السبعة، ويتصل بعالم الكرسي ومماساً ومباشراً له، وهو عالم العرش.
ولما كانت الاكتشافات الحديثة أوضحت فساد النظرية المذكورة، فذكرت أن هناك عوالم أخرى موجودة وراء هذه العوالم، وأن الأمر لا ينحصر فيها فقط، أوجب هذا، المنع من الركون إليها في معرفة حقيقة العرش، مضافاً إلى أن ظهور الآيات القرآنية في وجود حجباً وسرادقات، وغير ذلك، يمنع من القبول بالتفسير المذكور.
ومنها: أن العرش ليس له حقيقة خارجية، وليس له مصداق خارجي أصلاً، وإنما العرش عنوان كنائي ينتسب إلى الله سبحانه وتعالى، وقد استعير للدلالة على شيء يرتبط به عز وجل، وذلك الشيء المرتبط به، لا يخلو حاله عن محتملين:
الأول: تدبير شؤون الخلق، إذ أن الله تعالى بعدما خلق الخلق وأوجده، أخذ في الشروع في تدبير أمرها، وإدارة شؤونها.
الثاني: الشروع في تدبير شأن المخلوقات بعدما أوجدها.
وبالجملة، إنما العرش عنوان كنائي قد استعير للعملية التدبير للكون المخلوق لله سبحانه وتعالى، انطلاقاً من جريان عادة الملوك في إدارة شأن الرعية بالجلوس على العرش، وإصدار الأوامر التدبيرية لشؤونهم، لذا استعير مفهوم العرش ليكون كناية عن شروعه سبحانه وتعالى في عملية التدبير، أو ممارسته لذلك.
ولا يخفى أنه وفقاً لهذا التفسير، لن يكون للعرش وجود خارجي، ولن يكون مخلوقاً ذا مصداق، بل سوف يكون كناية عن الاستيلاء والهيمنة والسيطرة على شأن الخلق وتدبير أمرهم، فلاحظ.
والتفسير المذكور لحقيقة العرش لما كان مستنداً للأسلوب المجازي في تفسير القرآن، يمكن الاستناد إليه والقبول به إذا لم يمكن حمل اللفظ القرآني على معنى حقيقي، وإلا فمع وجود معنى حقيقي يمكن حمل لفظ العرش عليه من دون وجود مانع يمنع ذلك، فلن يصار إلى حمل الألفاظ القرآنية على المعاني المجازية، كما هو واضح.
ومنها: ما أختاره السيد العلامة الطباطبائي(ره) وهو يستفاد من ملاحظة موارد متعددة في موسوعته التفسيرية الرائعة الميزان، وجمع ما ذكره من درر متناثر في جنباتها، ليكون مؤدى ذلك ما بين بالتصوير التالي:
إن العرش حقيقة من الحقائق الثابتة في الوجود، فكما أن علمه سبحانه وتعالى حقيقة من الحقائق، وقدرته سبحانه حقيقة من الحقائق، فكذلك عرشه تعالى حقيقة من الحقائق، والطريق إلى فهم هذه الحقيقة بأمرين:
أولهما: الاعتماد على ظواهر الآيات القرآنية، دون إجراء تصرف فيها.
ثانيهما: الاستعانة بحقيقة العرش المادية في الوجود المادي تنظيراً لحقيقة العرش الإلهي. فالعرش البشري لما كان يمثل مركز السلطة والسيادة والحاكمية والإمرة، ومن خلاله تتم إدارة شؤون الرعية والمحكومين، فكذلك العرش الإلهي، عبارة عن وجود حقيقي تتمركز فيه إدارة الأمور، ويتمركز فيه التدبير والخلق، فالعرش الإلهي وإن كان يتوافق وعروش ملوك الدنيا من جهة المركزية في الإدارة للشؤون والاستيلاء على الأمور، إلا أنه يختلف عنها في الحقيقة والماهية والمصداق، فهو مركز حقيقي، ونسبته نسبة حقيقة، بينما نسبتها نسبة اعتبارية، لأن السلطة والاستيلاء والإمارة والسلطنة وجميع ما يجري هذا المجرى فينا، أمور وضعية اعتبارية لا يوجد في الخارج منها إلا آثارها. ونسبة هذه الأمور له تعالى نسبة حقيقة واقعية، ولها تأثير واقعي، فالعرش هو ذلك المركز الذي تتمركز فيه القدرة الإلهية، ويتمركز فيه التدبير الإلهي للخلق، وتسيـيره.
وقد استند السيد العلامة(ره) في مختاره إلى نوعين من الآيات الشريفة:
الأول: الآيات التي دلت على أنه حقيقة قائمة في نفسه، مع قطع النظر عن الأمور الأخرى، فلاحظ قوله تعالى:- (الذين يحملون العرش ومن حوله)[8]، وقوله سبحانه:- (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية)[9]، وقوله عز من قائل:- (وهو رب العرش العظيم)[10]، فإن المستفاد من هذه الآيات أن للعرش وجوداً حقيقياً، وأن له مصداقاً ووجوداً مستقلاً كبقية الأمور الأخرى.
الثاني: الآيات التي تتحدث عن وجود عملية تدبير واستواء على العرش، فلاحظ قوله تعالى:- (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا بعد إذنه)[11].
بقي أن نشير إلى تحديد تلك الحقيقة التي تمثل حقيقة العرش، وبيان المقصود منه، وقد أوضحها السيد العلامة(ره) بأنها العلم، واستند إلى تحديده بذلك من خلال الاقتران بينهما في قوله تعالى:- (ثم استوى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها)[12]، على أساس أن قوله تعالى:- (يعلم ما يلج في الأرض)، يجري مجرى التفسير للاستواء على العرش، فيكون العرش مقام العلم، كما أنه مقام التدبير العالم الذي يسع كل شيء، وكل شيء في جوفه[13].
العرش يعني العلم:
والمتحصل من كلام السيد العلامة(ره) أن حقيقة العرش هي العلم بكل الأشياء، وهو الذي يكون مناسباً لمقام التدبير والسلطنة الذي يسع كل شيء في جوفه، وأن منشأ التصرف والتدبير والسلطة والحاكمية هو العلم، الذي يكون سابقاً في وجوده على جميع الأشياء.
ولم ينفرد السيد العلامة(ره) بتفسير العرش بالعلم، بل قد سبقه إلى ذلك علمان من أعلام الطائفة، وهما الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد(ره)، فقد ذكر الشيخ الصدوق(ره) تفسيرين له، استفادهما من خلال النص:
الأول: أن العرش عبارة عن جملة جميع الخلق.
الثاني: أن العرش عبارة عن العلم.
وقد ورد هذا التفسير له في ما رواه المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه أجاب عندما سأله المفضل عن العرش والكرسي، ما هما؟ فقال(ع): العرش في وجه هو جملة الخلق والكرسي وعاؤه، وفي وجه آخر هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه، والكرسي هو العلم الذي لم يطلع الله عليه أحداً من أنبيائه ورسله وحججه(ع)[14].
وأختار المفيد(ره)، أن المراد بالعرش الذي تحمله الملائكة هو بعض الملك، وفي وجه آخر أنه العلم، لكن بالمعنى المجازي، وليس المعنى الحقيقي[15].
على أنه يمكن أن يحمل أحد التفسيرين الواردين في كلام الشيخ الكراجكي على ذلك، فإنه ذكر تفسيرين له:
الأول: ما كان المقصود منه الملك، وهو الذي يشير إليه قوله تعالى:- (الرحمن على العرش استوى)، فإن استواؤه عليه يعني استيلاؤه عليه بالقدرة والسلطان.
الثاني: ما كان المقصود منه بنية خلقها الله تعالى في سمائه، وأمر ملائكته بحملها، لتعبدهم بحملها وتعظيمها، وليس لأن يكون عليها، ويشير إليه قوله تعالى:- (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية)[16].
إذ مقتضى التفسير الأول، الذي يشير إلى الاستيلاء والملك والسلطنة، وبملاحظة ما جاء في كلمات السيد العلامة الطباطبائي(ره) يستوجب أن يكون المقصود منه هو العلم. لأنه لا يمكن أن يتصور وجود إدارة وسلطنة على العالم ما لم يسبق بالعلم الإلهي.
وقد تضمنت النصوص الشريفة تفسير العرش بالعلم، فمضافاً لخبر المفضل المتقدم، جاء في ما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) في تفسير قوله تعالى:- (وسع كرسيه السماوات والأرض)فقال: السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره[17].
وجاء عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال-في حديث-: والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والأين والمشية وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العود والبداء[18].
نعم لم تتعرض النصوص لتحديد هذا العلم، وهل أنه من الصفات الذاتية، أم أنه من الصفات الفعلية، والصحيح أنه من الصفات الفعلية، ويعبر عنه بالعلم الفعلي، وهو يختلف عن العلم الذاتي بالأشياء قبل الإيجاد. ويعتبر العرش أعظم مراتب العلم الإلهي الفعلي، ودونه في المرتبة الكرسي. وهذا المعنى هو صريح رواية الإمام الصادق(ع) التي ذكرناها قبل قليل، وهي من الروايات الجليلة، والتي تشتمل على جملة من المفردات التي تحتاج بياناً، وقد تعرض لذلك شيخ البحار(رض)، فليراجع[19].
العرش والكرسي:
ثم إنه بعد الفراغ عن عرض ما ذكره المفسرون بياناً لحقيقة العرش، ينبغي الإشارة إلى العلاقة بينه وبين الكرسي، وهل أنهما يشيران إلى حقيقة واحدة، فالعرش والكرسي شيء واحد، يشيران إلى حقيقة واحدة، وإنما يعبر عنهما بتعبيرين مختلفين، أم أنهما حقيقتان مختلفتان؟
قد عرفت عند استعراض الآراء التفسيرية في بيان حقيقة العرش أن المشبهة القائلين بالتجسيم يلتـزمون باتحاد حقيقة العرش والكرسي، وأنهما شيء واحد، ولعل منشأ ذلك أخذهما اللفظين على ظاهرهما، فيكون المقصود من الكرسي سرير الحكم، ومحل إصدار الأوامر، والعرش هو أريكة السلطة، التي تؤول إلى نفس معنى الكرسي.
وعند الرجوع للآيات الشريفة لا تجد ما يشير إلى اتحاد المفهومين، ذلك أن الباري سبحانه عند تعرضه للكرسي وصفه بنحو لم يعرض مثله للعرش، مما يوحي بوجود مغايرة بينهما، كما أن النصوص الشريفة صريحة في الدلالة على هذا المعنى، فقد سأل الزنديق أبا عبد الله(ع) عن الكرسي أهو أعظم أم العرش؟ فقال(ع): كل شيء خلق الله في جوف الكرسي ما خلا عرشه، فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي[20].
ومثل ذلك ما جاء عن أبي ذر عن النبي(ص) أنه قال: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض[21].
وقد نص غواص بحار الأنوار الشيخ المجلسي(ره) على أن العرش أرفع وأعظم من الكرسي[22].
هذا وقد يستند للقول باتحادهما إلى ما رواه المفضل بن عمر في توحيده عن أبي عبد الله(ع) في أن العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبيائه ورسله، والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحداً[23].
والظاهر منعه، لأن المفهومين وإن اتحدا من حيث كونهما يشيران إلى علم الله سبحانه وتعالى، إلا أنهما يشيران إلى عنوانين من علمه عز وجل مختلفين ما يمنع أن يكون المفهومان بمعنى واحد، وقد عرفت أنهما يشيران إلى مرتبتين من مراتب علمه تعالى الفعلي، فلاحظ.
خاتمة:
هذا ولنختم الحديث بعد الإحاطة بحقيقة العرش، وأنه العلم بالإشارة إلى مطلبين قد يوجبا لبساً:
الأول: الاستواء على العرش:
فقد في ورد غير واحدة من آيات الكتاب التي تعرضت للحديث عن العرش، قرن ذكره بذكر كلمة الاستواء، فيتكرر قوله تعالى:- (ثم استوى على العرش)، ولا ريب في كون التعبير المذكور موجباً لتصور شبهة التجسيم، ما يوجب علاج ذلك بالحمل على المعنى الكنائي الاستعاري، حذراً من ذلك.
وعند الرجوع لكلمات أهل اللغة، نجد أن أحد المعاني المذكورة لكلمة الاستواء هي الاستيلاء، وكذا العلو.
وقد انسجم المعنى اللغوي للاستواء مع مختار السيد العلامة الطباطبائي(ره) في بيان حقيقة الاستواء، وفقاً لمختاره في حقيقة العرش، فذكر أن الاستواء عنوان يشير إلى التدبير لشأن الخلق، وإدارة شأنه، يكشف عن إحاطة تدبيرية لملكه[24].
وهذا الذي أختاره السيد الطباطبائي(قده) يقرب كثيراً مما أختاره الشيخ المجلسي(ره)، فقد فسر الاستواء على العرش باحتواء العلم[25].
الثاني: عرشه على الماء:
قال تعالى:- (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء)[26]. فما هو المقصود من التعبير بكون عرشه على الماء؟
وقد كانت إجابة السيد العلامة(ره) منسجمة مع اختياره لحقيقة العرش، ولهذا ذكر أن المقصود من كون عرشه على الماء، الكناية عن استقرار ملكه تعالى يوم خلق السماوات والأرض على هذا الماء، واستقراره على محل هو استقرار ملكه عليه[27].
وما ذكره(ره) مستفاد من النصوص الشريفة، فقد روى أبو الصلت أن المأمون سأل الإمام الرضا(ع) عن هذه الآية، فقال(ع): إن الله تبارك وتعالى خلق العرش والماء والملائكة قبل خلق السماوات والأرض، وكانت الملائكة تستدل بأنفسها وبالعرش والماء على الله عز وجل، ثم جعل عرشه على الماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة فيعلموا أنه على كل شيء قدير، ثم رفع العرش بقدرته ونقله فجعله فوق السماوات السبع، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهو مستول على عرشه، وكان قادراً على أن يخلقها في طرفة عين، ولكنه عز وجل خلقها في ستة أيام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئاً بعد شيء-إلى أن قال-ولم يخلق الله العرش للحاجة به إليه، لأنه غني عن العرش، وعن جميع ما خلق، لا يوصف بالكون على العرش لأنه ليس بجسم، تعالى الله عن صفة خلقه علواً كبيراً[28].
فإن المستفاد من النص المذكور أن منشأ جعل العرش على الماء لبيان مظهر قدرته سبحانه وتعالى.
——————————————————————————–
[1] معارف القرآن ج 2 ص 86.
[2] سورة النحل الآية رقم 102.
[3] سورة عبس الآية رقم 16.
[4] سورة النازعات الآية رقم 5.
[5] سورة الذاريات الآية رقم 4.
[6] سورة الانفطار الآية رقم 11.
[7] سورة غافر الآية 7.
[8] سورة غافر الآية رقم 7.
[9] سورة الحاقة الآية رقم 17.
[10] سورة التوبة الآية رقم 129.
[11] سورة يونس الآية رقم 3.
[12] سورة الحديد آية رقم 4.
[13] الميزان ج 8 ص 158-159.
[14] معاني الأخبار ص 29.
[15] تصحيح اعتقادات الإمامية.
[16] كنـز الفوائد ص 238.
[17] التوحيد ب 52 ح 2 ص 327.
[18] المصدر السابق ب 50 ح 1.
[19] بحار الأنوار ج 55 ص 31-32.
[20] الاحتجاج ج 2 ح 223 ص 249.
[21] معاني الأخبار ب معنى تحية المسجد ص 333.
[22] بحار الأنوار ج 55 ص 37.
[23] توحيد الصدوق ب 50 ح 1.
[24] الميزان ج 8 ص 155-156.
[25] بحار الأنوار ج 55 ص 8.
[26] سورة هود الآية رقم 7.
[27] تفسير الميزان ج 8 ص 168.
[28] التوحيد ص 319.