منصب السفارة

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
69
1

لقد ألقيت على عاتق الإمام الحسن العسكري(ع) مسؤولية إضافية بشأن الإمام صاحب الزمان(عج)، فمضافاً لما كان عليه من إطلاع الأمة عليه، وأنه الإمام الخليفة من بعده، كان عليه أن يعدّ الأمة لاستقبال المنهجية التي سوف يتعاطى بها مع قواعده الشعبية، إذ أنه لن يكون مستخدماً الأسلوب الذي كان عليه آبائه(ع)، من التواجد علناً بين ظهراني الأمة، بل سوف يكون تعامله معها بواسطة، ولهذا أتخذ الإمام العسكري(ع) نظام الاحتجاب، وعين الوكلاء، وجعل التواصل بينه وبين قواعده الشعبية من خلال ذلك، وقد عرف له(ع) في تلك الفترة جملة من الوكلاء.

ولأن الظروف الأمنية المحيطة بعصر الإمام المنتظر(عج) فرضت عليه مبدأ الاحتجاب عن قواعده الشعبية طلباً للحفاظ على حياته المباركة، لهذا فقد أتخذ نظام الواسطة بينه وبين قواعده، لكنهم لم يعرفوا بالوكلاء، وإنما عرفوا بعد ذلك بالسفراء.

ولسنا بصدد الحديث عن مهامهم، وما له علاقة بذلك، فإن لذلك مجالاً آخر، بل ما نود الحديث عنه أن أطروحة السفارة والسفراء، من الأمور التي تميزت بها الغيبة الصغرى عن الغيبة الكبرى، فإن النصوص الشريفة تنص على وجود غيبتين للمولى(بأبي وأمي)، فعن أبي عبد الله(ع)-في حديث- قال: أما أن لصاحب هذا الأمر فيه غيبتين: واحدة قصيرة، والأخرى طويلة[1].

وجاء عنه(ع) أنه قال: إن لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قتل، وبعضهم يقول ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير، لا يطلع على موضعه أحد من ولي ولا غيره، إلا المولى الذي يلي أمره[2].

وقد جعل أبرز الموائز بين هاتين الغيبتين، مبدأ السفارة، الذي كان يمثل وسيلة الاتصال بينه(روحي لتراب حافر جواده الفداء) وبين قواعده الشعبية، بينما ليست هناك وسيلة اتصال جلية بينه وبينهم في فترة الغيبة الكبرى، لأنه قد أوكل إدارة الشأن العام لها لوكلائه العامين، أعني الفقهاء، وفقاً لما صدر عنه في التوقيع: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله.

وبناءً على ما تقدم، فيلزم أن يكون هناك ما يدل على انتهاء منصب السفارة، بحلول الغيبة الكبرى، ويفيد أن ذلك كان من مختصات الغيبة الصغرى، كما نحتاج إلى بيان أنه لا يوجد سفارة خاصة، ولا وكالة خاصة في فترة الغيبة الكبرى.

هذا وقبل أن نشير إلى جواب ذلك، أود أن أوكد على بيان الطريق الذي يحرز من خلاله سفارة السفير، ضرورة أن هذا من المناصب الخطيرة جداً، لأنه يتضمن تمثيلاً خاصاً لمنصب الإمامة، وهذا يعني أنه لابد وأن يكون إثباته لشخص مستنداً لبرهان ودليل ناصع واضح حتى يتسنى للقواعد الشعبية للإمام المنتظر(عج) التصديق بصحته، لأن من الممكن أن يأتي أي أحد ويدعي السفارة الخاصة للناحية المقدسة، فما هو الطريق لبيان كذبها وزيف دعواها.

لا يخفى أن الطريق ينحصر في وجود منهج واضح وبرهان صريح يستند إليه في مقام إثبات المنصب لشخص من الأشخاص.

كما نحتاج أن نعرف الأسباب التي دعت إلى انتهاء السفارة الخاصة، وإحالة الأمر إلى النيابة العامة بنصب الفقهاء والمراجع(حفظ الله الباقين، وأطال في أعمارهم، ورحم الله الماضين منهم).

أدلة السفارة:

ويمكن صياغة ما تقدم بصورة أخرى، كيف يتم تعيـين شخص من الأشخاص سفيراً للناحية المقدسة، وكيف يحرز المجتمع الشيعي سفارته؟

من الطبيعي لابد وأن يكون ما يأتي به السفير المدعي لمنصب السفارة يشتمل جانبين، يشتمل الجانب الإعجازي من جهة، كما يشتمل ما يوجب التصديق به، بأن يكون أمراً معروفاً ومألوفاً لدى الوسط الشعبي، ولهذا كان ما يقدمه السفراء الأربعة دليلاً على سفارتهم متضمناً لهذين الأمرين:

فأولاً: لقد اتحد الخط الذي تخرج به التوقيعات الصادرة عن الناحية المقدسة، مع الخط الذي كانت تخرج به التوقيعات عن الإمام العسكري(ع)، وقد كان خطاً معروفاً ومشخصاً عند وكلائه(ع)، وطيلة مدة السفارة الخاصة، والتي قاربت السبعين عاماً لم يختلف الخط أو يتغير حتى مع تغير السفراء من السفير الأول، الشيخ العمري الأب(رض) حتى السفير الرابع الشيخ السمري(ره).

ثانياً: عند الرجوع للمصادر التاريخية، وكتب السير، والتراجم، والرجال، نجد أنها جميعاً تجمع على وثاقة، بل جلالة السفراء الأربعة، وأنهم بعيدون كل البعد عن الكذب والشبهة، وهذا يعني أن شهادة الواحد منهم في كونه سفيراً سبب رئيس لتصديقه، خصوصاً وقد عرفت حاله، من حيث المقبولية وعدم احتمال الكذب فيه، فلاحظ.

ولا يخفى أن الأول مما ذكر أقوى في الإثبات من الثاني، لكونه ينطوي على جنبة إعجازية يفتقدها الثاني، فلاحظ.

ثالثاً: لقد صدرت على أيديهم(رض) أموراً خارقة للعادة لا يتصور صدورها إلا ممن كان متصلاً بالجانب الغيبي، ومسدداً ممن جعل له التسديد في هكذا موارد، فمن تلك الموارد ما خرج على يد الشيخ السمري(رض) السفير من إخبار بوفاة الشيخ الصدوق الأب(ره)، مع أنه كان ببغداد، والصدوق كان في قم.

ولم يكن الخبر المذكور محل تلقي ومقبولية عادية من الحاضرين، بل كان هناك نحو امتحان، فقد ذكر الراوي، أن المشائخ كتبوا تاريخ ذلك اليوم، فورد عليهم الخبر بعدُ بوفاة الصدوق الأب في نفس ذلك اليوم، الذي أخبر به الشيخ السمري(ره).

ومثل ذلك ما جاء عن الشيخ بن روح(رض) السفير الثالث، فقد روى بن متيل أن امرأة تسمى زينب من أهل آبة، عندها مال أرادت إيصاله للناحية المقدسة، بواسطة السفير الثالث، وقد أحبت أن توصله إليه بيدها، وهي لا تحسن الكلام باللغة العربية، وهو(رض) لا يعرف لغة أهل آب، فأخذت معها مترجماً ليكون واسطة في الإيضاح بينهما، وعندما اقامت بين يديه(رض) أخذ يحدثها بلغتها، ويسألها عن أحوالها وأحوال أطفالها، واستغنت عن المترجم.

وكذا ما صدر منه(رض) من إخبارٍ للآخرين بما يجول في خواطرهم وقد شك بعضهم في صدق دعواه السفارة الخاصة عن الإمام المنتظر(روحي لتراب حافر جواده الفداء).

ومن ذلك ما صدر عن السفير الثاني(ره) الشيخ العمري الأبن من إخباره بسنة وفاته وقيامه بعملية الاستعداد لذلك اليوم بتهيئة بعض اللوازم من لو ح خشب من الساج كتب عليه آيات من القرآن الكريم، وأسماء الأئمة المعصومين(ع)، ويتحقق كلامه من دون تخلف في شيء مما أخبر به.

وكذلك إخبار السفير الرابع الموالين للناحية المقدسة، بأنه سوف يموت بعد ستة أيام، ويقع ما أخبر به، فإنه لم تنقل المصادر التاريخية اختلافاً في وفاته بعد هذا الإخبار، أو ووقعوها قبل ذلك، فتدبر.

والحاصل، لقد كانت تصدر على أيديهم(رض) جملة من الحوادث والإخبارات الغيبية التي تثبت أنهم متصلون بناحية غيبية تزودهم بما يحتاجون إليه، ويبرزونه للآخرين للتصديق بذلك.

رابعاً: لقد كان للسفير السابق دور في تعيـين السفير اللاحق من خلال النص عليه والإشارة إلى أنه هو من يتولى المنصب من بعده، فكان المقام أشبه بالوصية، ومن الطبيعي أن هذا الإيصاء لم يكن إلا بأمر من الناحية المقدسة، ولذا نجد أنه قد صدر التوقيع الشريف للشيخ السمري(رض) بعدم الإيصاء من بعده لأحد، لأنه قد وقعت الغيبة التامة.

انتهاء السفارة:

هذا وقد يتساءل البعض عن السبب الداعي إلى الالتـزام بانتهاء السفارة، فيقول: لماذا لم تبق السفارة مستمرة حتى في زمن الغيبة الكبرى، وما هو الداعي إلى البناء على انقضائها بمجرد وفاة السفير الرابع(ره)؟

لقد ذُكرت أسباب ثلاثة توضح السبب في انقضاء مدة السفارة وانتهاء وقتها، كل واحد منها منفرداً يصلح أن يكون جواباً:

الأول: إن أهم الدواعي إلى وجود الغيبة الصغرى يعود إلى اعداد الأمة وتقبلها لمسألة غيبة الإمام(عج)، وعدم تمكنها من التواصل معه بصورة مباشرة، فكان لازماً من تهيئة ذلك تدريجياً من خلال إيجاد نظام السفارة.

وبعبارة أخرى، إن نظام السفارة ليس نظاماً أساسياً، وإنما كان نظاماً طريقياً يسعى من خلاله تحقيق عملية تهيئة الأمة للغيبة التامة، وهي الغيبة الكبرى.، وقد تحقق ذلك بعد مضي سبعين سنة، فما عادت هناك حاجة للاستمرار.

الثاني: تغير الظروف الأمنية، وازديادها تعقيداً بحيث أصبحت أصعب مما كانت عليه سابقاً، فأصبحت هناك مراقبة وملاحقة للكبار والعلماء من قواعد الإمام الشعبية، لدرجة أن السفير نفسه لم يكن لينجو من ذلك التضيـيق والملاحقة.

ومن الطبيعي أن مثل هذه الأجواء لا تمكن السفير من القيام بما يكون مناطاً به من مهام، فلا تعود جدوى لوجوده، ولو وجد سفير جديد كان مصيره إلى الفشل، فلاحظ.

الثالث: إن طول الزمن يضعف القدرة على الحفاظ على السرية الملتـزمة في خط السفارة، مما يؤدي إلى انكشاف أمرها شيئاً فشيئاً[3].

انتهاء السفارة الخاصة:

بعد هذا نعود لبيان الدليل الذي يستند إليه في أن الغيبة الصغرى قد انتهت ووقعت الغيبة الكبرى، وأنه قد انتهى منصب السفارة الخاصة، وأصبح الموجود خارجاً نظام المرجعية والوكالة العامة، وقد أجيب عن هذين الأمرين في التوقيع الشريف الذي صدر للشيخ السمري(رض)، حيث صدر له من الناحية المقدسة، كما روى ذلك شيخنا الصدوق(ره)، والشيخ الطوسي(قده)، أنه خرج إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة[4] فلا ظهور إلا بعد إذن الله عز وجل، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم[5].

دلالة التوقيع:

وقد تضمن التوقيع المبارك مجموعة أمور:

الأول: الإخبار بحلول أجل الشيخ السمري(رض)، وأنه سوف يكون بعد صدور التوقيع بستة أيام.

الثاني: وقوع الغيبة التامة، بانتهاء فترة الغيبة الصغرى، وبدأ الغيبة الكبرى، وتختلف الثانية عن الأولى في عدم وجود السفارة الخاصة، وإنما هي نيابة عامة للفقهاء.

ومن المعلوم أن جعل النيابة الخاصة في الغيبة الكبرى يتنافى وجعل النيابة العامة، ضرورة أنه لن يكون لها أدنى فائدة مع وجود النيابة الخاصة، وهذا يستوجب أن يكون جعلها لغوياً، فلاحظ.

الثالث: انقطاع السفارة الخاصة، وابتداء النيابة العامة، لقوله(عج): وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن أدعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر.

وأول ما يلحظ في هذا التعبير، تخصيصه(روحي لتراب حافر جواده الفداء)أن الذي سوف يدعى المشاهدة من شيعته، وهل يستفاد من هذا أنه لن يدعي المشاهدة أحد من غيرهم؟

قد عُلل التقيـيد بكون المدعي لها من شيعته دون غيرهم بأمرين:

الأول: إن غير شيعته مختلفون أساساً في ولادته وعدمها، فإن بينهم من ينفي حصول ولادته الشريفة إلى الآن، وأنه سوف يولد، وهذا يعني أنه لن يكون بينهم دعوى المشاهدة، فتأمل.

الثاني: أنه لو سلم أن المدعين لها من القائلين بتحقق ولادته المباركة، إلا أن كونه من غير الموالين سوف يكون سبباً موجباً لعدم القبول والتصديق بدعواه، فتأمل.

المقصود من المشاهدة:

هذا ولا يذهب عليك أن دلالة التوقيع الشريف على اختصاص فترة السفارة الخاصة بخصوص الغيبة الصغرى، وأنه لا تكون في فترة الغيبة الكبرى تعتمد اعتماداً كلياً على تحديد المقصود من المشاهدة فيه، فلو قيل أن المقصود منها هو المشاهدة بمعنى الرؤية، فلن تكون دلالته على المدعى واضحة، بخلاف ما لو بني أن المقصود منها هو السفارة، والتعبير عن ذلك بالمشاهدة، إنما هو تعبير كنائي ليس إلا، وقد اعتمد في تحديد المقصود منه على قرائن، إما داخلية أو خارجية.

وعلى أي حال، فقد أدعي أن المقصود من المشاهدة في التوقيع هي الرؤية، وليس المقصود منها السفارة.

ولا يخفى أن الدعوى المذكورة لها وجه، ضرورة أن مقتضى حمل الألفاظ في مقام التحاور على ظواهرها يستدعي الالتـزام بما ذكر.

وقد بنى على هذا المعنى شيخنا غواص بحار الأنوار(قده) عليه، جمعاً بين التوقيع الشريف، وبين غيره من النصوص، فإنه ذكر تعقيباً على التوقيع الشريف، بقوله: بيان: لعله محمول على من يدعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه(ع) إلى الشيعة، على مثال السفراء لئلا ينافي الأخبار التي مضت وستأتي فيمن رآه(ع)، والله العالم[6].

وذكره كون المقصود من المشاهدة السفارة على نحو الاحتمال، يكشف على أقل التقادير وجود احتمال حمل اللفظ على ظاهره عنده، بكون المقصود من المشاهدة هي الرؤية، وهذا وإن لم يكن مصرحاً به في كلامه، لكنه مدلوله كما هو واضح.

والظاهر أن حمل المشاهدة في التوقيع على الرؤية، لا ينحصر به(ره)، بل هو ظاهر غير واحد من أعلامنا، فإنهم قد عمدوا إلى علاج ما يتصور من معارضة بين التوقيع الشريف، وبين النصوص التي تضمنت إثبات الرؤية، والحكايات التي تحدثت عن وقوعها خارجاً لأناس، وما هذا إلا لأنهم قد حملوا المشاهدة في التوقيع عليها.

المشاهدة بمعنى السفارة:

وكما قلنا، بأن المعنى المذكور في التوقيع وإن كان هو الظاهر بدواً منه، إلا أنه لا يصار إليه متى وجدت قرينة موجبة لصرف اللفظ عن ظاهره، ودعت إلى حمله على غير معناه، كما أنه قد جرت العادة في مقام المحاورة أنه لو كان حمل اللفظ على ظاهره يستوجب لغوية اللفظ عما أريد منه، وأمكن أن يأول، فإنه يصار إلى تأويله بحمله على خلاف ظاهره، فلنا على كون المقصود من المشاهدة في التوقيع الشريف هي السفارة الخاصة طريقان:

الأول: وجود القرينة الداخلية الموجب لحمل اللفظ على ذلك، وهي وحدة السياق، فإنه يعدّ قرينة عقلائية يعول عليها العقلاء في مقام التحاور، ويرتبون عليه أثراً، ولا يخفى أن وحدة السياق في التوقيع تستوجب حمل المشاهدة المنفي فيه على السفارة، ذلك أن الحديث فيه واقع عن انتهاء السفارة الخاصة، لأنه قد تضمن أمر السمري(رض) بعدم الإيصاء إلى أحد، وعلل الأمر بمنع الوصية بوقوع الغيبة التامة، وهذا يستوجب أن يكون المنفي في الغيبة التامة ما كان ثابتاً موجوداً في الغيبة الصغرى، وهو عبارة عن السفارة، فتدبر.

وإن شت فقل، إن المستفاد من التوقيع الشريف أن من لوازم الغيبة التامة ألا يكون هناك اتصال مباشر بين الناحية المقدسة وبين القواعد الشعبية، وهذا هو الذي أوجب غلق باب السفارة الخاصة، لأنها كانت تمثل الاتصال المباشر بين القواعد الشعبية والناحية المقدسة كما عرفنا، فلاحظ.

ويشهد لما ذكرنا أمران:

أولهما: وجود لام العهد، في قوله(بأبي وأمي): المشاهدة، فإن اللام فيها هي لام العهد، ذلك أنه(عج) بصدد منع السفارة الخاصة من خلال أمره بعدم الإيصاء، ولا ريب أن من لوازم السفارة الخاصة الرؤية والالتقاء، فهو ينفي المشاهدة، ومتى انتفت المشاهدة، فذلك يدل بالمدلول الالتـزامي على نفي السفارة، فتدبر.

ثانيهما: موجب نفي المشاهدة، فإن التأمل في التوقيع يفيد أن الداعي إلى نفيها هو الحذر من التضليل المترتب على دعواها، بمعنى أن المدعي للمشاهدة، غايته من ذلك العمد إلى تضليل الموالين، ولعله لهذا قُيد بكونه من شيعته، ولا ريب أن المدعي للمشاهدة لن تكون غايته مجرد دعواها لدعوى الرؤية، بل غايته هو ادعاء البابية والسفارة، وهو بأبي وأمي بصدد نفيها وانقضائها، فأشار إلى ذلك.

الثاني: صون الكلام عن اللغوية، فإنه إذا وجد كلام وكان الظاهر منه معنى، إلا أن حمله عليه يوجب عدم الاستفادة منه، لوجود ما يمنع من البناء عليه، فإنه يعمد إلى تأويله، صوناً له عن اللغوية، ولو بحمله على خلاف ظاهره، ولنقرب ذلك بمثال، فهذا شيخنا ابن قولويه يذكر في مقدمة كتابه كامل الزيارات، عبارة يظهر منها شهادة بوثاقة رواة كتابه، وقد وقعت العبارة المذكورة محل أخذ ورد بين أعلامنا، فقد بنى بعضهم(رض) على ظهورها في وثاقة جميع من وقع في أسناد الكتاب، إلا أن آخرين حصروا دلالتها في خصوص مشائخه(ره)، والذي دعى الحاصرون بالمشائخ للالتـزام بذلك، مع أن العبارة ظاهرة في الدلالة على وثاقة جميع من وقع في أسناد الكتاب صون العبارة عن اللغوية، لأن من الواقعين في أسناد الكتاب من لا يتصور أن يشهد شيخنا ابن قولويه بوثاقته، كعمر بن سعد، ولهذا لابد من ارتكاب التأويل في العبارة المذكورة، ولو بحملها على خلاف ظاهرها، وهذا بنفسه قد يكون جارياً في المقام، فإن العبارة وإن كانت ظاهرة في نفي المشاهدة بمعنى الرؤية، وهذا يستوجب وقوع المعارضة بينها وبين النصوص المتضمنة لإمكانها، والقصص المشتملة على وقوعها-مع التسليم بالمعارضة، وسيأتي كلام في ذلك- وعندها، إما أن يلتـزم برفع اليد عن نصوص الرؤية، أو رفع اليد عن التوقيع الشريف، أو العمد إلى التأويل في أحدهما بحمله على خلاف ظاهرها، وعدم رفع اليد عنه، فيحمل لفظ المشاهدة فيه على السفارة، وليس على الرؤية، فلاحظ.

ثم إنه وفقاً لما ذكرنا من طريقين، يفيدان أن المقصود من المشاهدة في التوقيع هي السفارة، يتضح أنه لا وجه لما قيل من أنه لا دليل في البين على انتفائها وانتهائها بوفاة الشيخ السمري(رض)، مع أن القائل بثبوتها في زمان الغيبة الكبرى لا يملك دليلاً على ذلك أيضاً.

توجيه في المقام:

هذا وقد يستند القائلون بكون المنفي في التوقيع الشريف هو خصوص الرؤية، وليس المقصود منها السفارة الخاصة، بكون الداعي لنفي ذلك ملاحظة دوافع الغيبة والداعي إليها، وهي كثرة أعدائه(عج) والخوف من القتل، وهذا صار سبباً إلى نفي رؤيته ومشاهدته، أما وقد زال الخطر، ولم يعد هناك ما يوجب ذلك، فلا معنى لانتفائها.

والتوجيه المذكور يقوم على أن منشأ الغيبة هو الخوف وكثرة الأعداء، وأن ذلك علة تامة للغيبة، مع أن الظاهر من النصوص عدم وجود علة للغيبة، بل إن ذلك من القضايا الإلهية، نعم جاء فيها ذكر جملة من الحكم، وأن ما ذكر واحدة منها ليس إلا، وليس علة، كما أن هناك حكماً أخرى، مما يعني عدم الحصر في هذه، فمنها مثلاً كي لا تقع في عنقه بيعة لطاغية، فقد روى ابن فضال عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا(ع): قال: كأني بالشيعة عند فقدانهم الثالث من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه. قلت: ولم ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: لأن إمامهم يغيب عنهم، فقلت: ولم؟ قال: لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف[7].

ومنها: امتحان الناس، فعن الإمام الباقر(ع)-في علة غيبته-: ليعلم الله من يطيعه بالغيب ويؤمن به[8].

ومنها: أن لغيبته حكمة مجهولة لا يكشف النقاب عنها إلا بعد الظهور، فقد روى الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد(ع) يقول: إن لصاحب هذا الأمر غيبة لا بد منها يرتاب فيها كل مبطل، فقلت له: ولم جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم؟ قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في وجه غيبة من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر(ع) من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى(ع) إلا وقت افتراقهما[9].

وربما يكون الموجب لغيبته(بأبي وأمي) أنه المذخر لإقامة الدولة العالمية التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهذا يستوجب الحفاظ على حياته، فكانت غيبته.

ويبعد التوجيه المذكور أيضاً أن القدرة الإلهية التي دعت إلى طول العمر كفيلة بحفظه وحمايته من كل عدو، كما تكفلت ذلك من قبل لموسى بن عمران(ع) في ظروف حمله وولادته، وله(بأبي هو وأمي)أيضاً، مضافاً إلى أن المتبع في حقيقة الغيبة كما ذكر في محله أنها غيبة العنوان، وهذا أيضاً يضمن له السلامة والحفظ(روحي لتراب حافر جواده الفداء).

وهم ودفع:

إن تحقق الغيبة التامة لما كان متوقفاً على انقطاع صاحب الناحية المقدسة عن قواعده الشعبية، بعدم وجود الواسطة التي كانت بينه وبينهم في الغيبة الصغرى، ووجود واسطة مانع من تحقق الغيبة التامة، فيمكننا القول، بأنه يمكن تحققها، مع عدم وجود الواسطة وذلك بأن يرسل الإمام(عج) سفيراً ويزوده بما يحتاج من علم لقيادة الناس، على أن يكون السفير هو القائد والموجه لحركة الجماهير، وينعدم تماماً أي اتصال بين الإمام والجماهير، فيتحقق عنوان الغيبة التامة القائمة على عدم اللقاء، ويوجد السفير في نفس الوقت.

ولا يخفى ما فيه، ضرورة أن ما يصدر من هذا السفير لا يخلو حاله عن أحد احتمالين:

1-أن يكون الصادر منه موافقاً للوح الواقع.

2-أن يكون الصادر منه عبارة عن أحكام ظاهرية، وليست أحكاماً واقعية.

أما لو بني على الاحتمال الثاني، فلا إشكال في أن هذا هو معنى النيابة العامة التي نلتـزم بها، والتي دل عليها التوقيع الشريف بالإرجاع للفقهاء في عصر الغيبة الكبرى.

وأما لو بني على الاحتمال الأول، فكيف يعمل في ما يستجد من أمور لم يتم التعرض إليها، هل يلتقيه(بأبي وأمي)، أم سوف يلقى إليه ذلك وحياً، ولو بواسطة الإلهام، أم سوف يجعله يجيب فيه بحسب الظاهر؟

إن بني على الأخير، رجعنا للنيابة العامة، وإن بني على الثاني، فنحتاج دليلاً يستند إليه في ذلك، وإن اختير الأول، رجعنا للسفارة الخاصة، كما لا يخفى.

ولو قيل بأنه لن يحتاج إلى جديد أبداً، فإن هذا خلاف النصوص الشريفة والتي تضمنت أن المعصوم(ع) يزداد، وفقاً لما شرحناه في محله من المقصود من الازدياد، فتدبر.

وبالجملة، إن التوهم المذكور، لا يثبت صحة دعوى السفارة في زمان الغيبة الكبرى كما لا يخفى.

خاتمة:

هذا ويكفي للاستدلال على عدم ثبوت السفارة الخاصة في زمان الغيبة الكبرى، ما جاء في كلمات صاحب كتاب مكيال المكارم من الاستناد للقاعدة المعروفة، من أن عدم الدليل دليل على العدم، فكيف إذا كان الموضوع مما تعم به البلوى، وقد جرت عادة أصحابنا على الاعتناء بمثل هذه الأمور، وليس موضوع السفارة الخاصة فقط من الموضوعات التي اعتنى بها، بل إن كل ما هو مرتبط به(روحي لتراب حافر جواده الفداء) قد كان محط اعتناء واهتمام منهم، حتى أنهم قد ألفوا الكتب في من رآه، وسأله مسائل، وقد كان لا يعرف أنه صاحب الناحية المقدسة، ولم يكن مدعياً لمنصب السفارة، فلاحظ[10].

ولنختم المقال بكلمتين لعلمين من أعلامنا في البين:

الأولى: للشيخ النعماني(ره)، قال: فأما الغيبة الأولى فهي الغيبة التي كانت السفراء فيها بين الإمام(ع) وبين الخلق قياماً منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص والأعيان، يخرج على أيديهم غوامض العلم، وعويص الحكم والأجوبة عن كل ما يسأل عنه من المعضلات والمشكلات، وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيامها، وتصرمت مدتها، والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط للأمر الذي يريده الله تعالى، والتدبير الذي يمضيه في الخلق[11].

الثانية: لشيخنا ابن قولويه(قده)، قال: إن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضل.

ولا يخفى ظهور كلتا العبارتين، بل صريحهما في انقطاع السفارة الخاصة في الغيبة الكبرى.

[1] الغيبة للشيخ الطوسي ح 123 ص 162.

[2] الغيبة للنعماني ب 10 ح 5 ص 171-172.

[3] الغيبة الصغرى ص 631-632.

[4] في بعض النسخ: فقد وقعت الغيبة الثانية.

[5] كمال الدين وتمام النعمة ب 45 ذكر التوقيعات ص 516.

[6] بحار الأنوار ج 52 ص 151 ح 1.

[7] بحار الأنوار ج 52 ب 20 علة الغيبة ح 14.

[8] إكمال الدين باب 32 ما أخبر به الباقر(ع)من وقوع الغيبة ح 16.

[9] بحار الأنوار ج 52 ب 20 علة الغيبة ح 4.

[10] مكيال المكارم ج 2 ص 336.

[11] الغيبة للنعماني ص 179.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة