من أبرز التساؤلات التي ترد في سيرة الإمام الحسن الزكي(ع)، عدم إقدامه على التضحية بنفسه، وبمهجته الشريفة، كما فعل ذلك أخوه الإمام أبو عبد الله الحسين(ع)
ومن الطبيعي أن هذا السؤال يترتب على معرفة الأسباب التي دعت الإمام الحسن(ع) إلى القبول بالصلح، وتركه المحاربة، إذ من خلالها سوف يتضح إن كان هناك موضوع للتضحية وبذل النفس أم لا. ومن ثمّ هل تصح المقارنة والمقايسة بين الإمامين الحسنين(ع) من عدمها.
ووفقاً لهذا نحتاج للإجابة عن هذا التساؤل الحديث عن دواعي الصلح وأسبابه، وعليه سوف يكون حديثنا ضمن محورين:
الأول: ما هي الأسباب والظروف التي أحاطت بالإمام الحسن(ع)، ومن ثمّ دعته للمهادنة والصلح.
الثاني: لماذا لم يقدم الإمام(ع) على بذل مهجته الشريفة والتضحية بها كما فعل الإمام الحسين(ع).
أسباب صلح الحسن:
سوف نقصر الحديث على خصوص الأسباب التي ورد ذكرها في كلمات الإمام(ع)، ولن نتعرض لما جاء في كلمات الكتاب والباحثين حول سيرته المباركة.
وقد تعرض(ع) لبيان الأسباب والدواعي، وعرض ذلك بطريقين:
الأول: أنه الحجة المفترض الطاعة، وقد أوكل الله تعالى له قيادة الأمة، فيسير فيها بما خطط له من قبل الله تعالى، وأنه ليس لأحد الاعتراض عليه في ما أقدم. من دون أن يبين الأسباب أو الدوافع، بل قصر ذلك على خصوص ما له من منصب سماوي خاص، وأنه يلزم الجميع طاعته، واتباع قوله.
ويشير إلى ذلك في حديثه مع أبي سعيد عقيصا، عندما سأله عن ذلك، فقال له: يا بن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته، وقد علمت أن الحق لك دونه، وأن معاوية ضالٍ باغٍ؟ فقال: يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم بعد أبي(ع)؟ قلت: بلى. قال: ألست الذي قال رسول الله(ص) لي ولأخي الحسن والحسين: إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى. قال: فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذاً لو قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله(ص) لبني ضمرة وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنـزيل، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً ألا ترى الخضر(ع) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى(ع) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا، سخطتم علي بجهلكم وبوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل[1].
وهو واضح فيما ذكرنا، إذ أنه(ع) لم يجب على تساؤل أبي سعيد، وإنما برر ذلك بما ثبت عن رسول الله(ص) فيه وفي أخيه الإمام الحسين(ع)، من أنهما إمامان قاما أو قعدا، وأن منصب الإمامة ليس متوقفاً على القيام، بل حتى أن القاعد والمهادن يكون إماماً، ولكي يبرهن ذلك للجميع بما فيهم السائل استشهد بصلح النبي الأكرم(ص) لبني ضمرة، وبني أشجع، وكفار مكة، وحتى لا يعترض عليه بأن هناك فرقاً بين هؤلاء الذين صالحهم النبي(ص)، وبين معاوية، فأشار إلى وحدة الملاك بين الطرفين، وإن اختلفا في الصفة، فلاحظ.
ثم أكد على أن اللازم على الأمة التسليم والانقياد للإمام، وليس لها أن تخالفه، لأنه قد لا تكون محيطة بحكمة الفعل الصادر منه، وليس من اللازم أن تمتلك القدرة على ذلك، وأستشهد لذلك بقصة الخضر ونبي الله موسى(ع).
وبالجملة، فإن المستفاد من النص المذكور، أن هناك مصلحة اقتضت أن يقدم(ع) على المهادنة والصلح، وليس كل أحد قادر على الإحاطة بها، وقد أشار في ذيل النص المذكور إلى شيء من تلك المصلحة، عندما قال(ع): ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل.
ومثل ما ذكرنا في الدلالة رواية أخرى، لو لم تكن أوضح منها، فقد روى أبو سعيد عقيصا قال: لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته، فقال الحسن(ع): ويحكم ما تدرون ما علمت، والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أني إمامكم ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، بنص من رسول الله(ص) عليّ؟ قالوا: بلى، قال: أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار، وقتل الغلام، كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران(ع) إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً. أما علمتم أنه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن مريم(ع)، فإن الله عز وجل يخفي ولادته، ويغيّب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب ابن دون الأربعين سنة ذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير[2].
وقد تضمنت الرواية المذكورة مضافاً لما ذكرناه في سابقته الإشارة إلى أن أحد أسباب الصلح ثبوت بيعة للظالم في عنق المعصوم(ع)، عدا صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، فلاحظ.
الثاني: النصوص التي تضمنت استعراض جملة من الأٍسباب والظروف الموضوعية التي أحاطته(ع)، ويمكن حصرها وفقاً لما يستفاد من كلماته الشريفة(ع) في ثلاثة أمور:
1-تثاقل الناس عن النهوض معه، والخروج لحرب معاوية، فقد روى الحارث الهمداني قال: لما مات علي(ع) جاء الناس إلى الحسن، وقالوا: أنت خليفة أبيك، ووصيه، ونحن السامعون المطيعون لك فمرنا بأمرك فقال(ع): كذبتم، والله ما وفيتم لمن كان خيراً مني، فكيف تفون لي؟ وكيف أطمئن إليكم، ولا أثق بكم؟ إن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن، فوافوا إليّ هناك.
فركب وركب معه من أراد الخروج، وتخلف عنه كثير، فما وفوا بما قالوه وبما وعدوه، وغروه كما غروا أمير المؤمنين(ع) من قبله، فقام خطيباً، وقال: غررتموني كما غررتم من كان من قبلي، مع أي إمام تقاتلون بعدي، مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو وبني أمية إلا فرقاً من السيف؟ ولو لم يبق لبني أمية إلا عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً، وهكذا قال رسول الله(ص)[3].
وأوضح منه في الدلالة على ذلك ما صدر منهم لما خطبهم(ع) بعد وفاة أمير المؤمنين(ع)، وقال: أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا. ثم أصبحتم تصدون قتيلين: قتيلاً بصفين تبكون عليهم، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأما الباكي فخاذل، وأما الطالب فثائر.
وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت، بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله. فنادى القوم بأجمعهم، بل البقية والحياة[4].
2-خيانة القيادات المتكررة، كعبيد الله بن العباس، وقد أشار الإمام(ع) إلى ذلك في إحدى خطبه، فقال(ع): أيها الناس، لا يهونكم ولا يعظمنّ عليكم ما صنع هذا الرجل الموّله، إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إن أباه عم رسول الله خرج يقاتله ببدر، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتى به رسول الله فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين، وإن أخاه ولاه على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري وزعم أن ذلك له حلال، وإن هذا ولاه على اليمن فهرب من بسر بن أرطأة، وترك ولده حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع[5].
والكندي الذي أرسله في أربعة آلاف، فكتب إليه معاوية بأنه إن أقبل إليه فسوف يوليه بعض كور الشام، والجزيرة، غير منفس عليه، وأرسل إليه بخمسمائة ألاف درهم، فقبص المال وأنقلب على الإمام الحسن(ع)، وصار إلى معاوية[6].
3-بيان طبيعة الجيش الذي خرج معه(ع)، والتركيبة التي تكوّن منها، وإثبات عدم كفاءته لمواجهة جيش الشام، فقد روى سالم بن أبي الجعد، قال: حدثني رجل منا، قال: أتيت الحسن بن علي(ع)، فقلت: يا ابن رسول الله(ص) أذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً ما بقي(معك)رجل، فقال: ومم ذاك؟ قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية, قال: والله ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً قاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسداً، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون ويقولون لنا: إن قلوبهم معنا، وإن سيوفهم لمشهورة علينا[7].
وتتجلى الصورة في هذا الأمر بصورة أوضح عندما يحيط القارئ خبراً بطبيعة المجتمع الذي وجد فيه الإمام الحسن(ع) في الكوفة، ونوعية الجماهير التي عاصرها أبان توليه الخلافة، فإن المؤرخين يقسمون المجتمع الكوفي في تلك الحقبة الزمنية إلى خمسة أقسام:
1- الحزب الأموي: وهي جملة من العناصر الموجودة في العراق، وذات نفوذ قوية، مضافاً لكثرة الاتباع، كالأشعث بن قيس، وحجار بن أبجر، وشبث بن ربعي، وغيرهم، وقد سعى هؤلاء كثيراً إلى نصرة معاوية في أوساط شيعة الإمام الحسن(ع)، وكانا بمثابة الجواسيس والعيون على حركات الإمام(ع).
2- الخوارج: ويعتبر هذا القسم أكثر أهل الكوفة لجاجة على الحرب حتى أنهم قد اشترطوا على الإمام(ع) عند البيعة حرب الحالين الضالين فرفض، فقصدوا الإمام الحسين(ع) طالبين منه البيعة على ذلك، إلا أنه(ع) رفض ذلك، ما دام الإمام الحسن(ع) على قيد الحياة. فعندها لم يجد هؤلاء بداً من بيعته(ع)، إلا أنهم أخذوا في حياكة المؤمرات له(ع) مع الحزب الأموي.
3- الشكاكون: ونعني بهم من كانوا متأثرين بدعوة الخوارج وإن لم يكونوا منهم، فهم مذبذبون لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ويغلب عليهم الطابع الانهزامي.
4- الحمراء: وهم شرطة زياد، وقد كان الطابع العام لهم أنهم جنود المنتصر، وسيوف الغالب.
بالإضافة إلى شيعة أمير المؤمنين(ع)، وأتباع الإمام أبي محمد(ع)[8].
الصلح وعدم التضحية:
ووفقاً لما تقدم، عمد الإمام(ع) إلى الصلح، فيبقى التساؤل الذي عرضناه في مطلع الحديث عن الموجب الذي دعاه(ع) لعدم التضحية، وبذل مهجته الشريفة، واختيار هذا الطريق.
لا يخفى أنه لا يوجد جواب عن هذا التساؤل في كلمات الإمام الحسن(ع) بعكس أسباب الصلح ودواعيه، وذلك لأن ظهور هذا التساؤل كان بعد النهضة المباركة للإمام الحسين(ع)، فعقدت عندها مقارنة بين الإمامين الطيبين(ع)، ونشأ التساؤل عندها، ولهذا لم يعرض هذا السؤال على الإمام(ع)، بل الظاهر أنه لم يعرض على أحد من الأئمة الأطهار(ع) أيضاً.
نعم قد ذكرت إجابات عنه في كلمات غير واحد من الكتاب والمحللين، نشير لما ظفرنا به:
منها: ما جاء في كلمات بعض الأعلام(ره) وحاصله: لقد عمد الإمام الحسن(ع) إلى التضحية بالملك، وصبر على فقده إياه، ومن المعلوم أن التضحية بالملك والصبر عليه أعظم من التضحية بالنفس، لأنه يتضمن إنكار الذات، وهو آلم التضحيتين للنفس، وأطولهما عناء في الحياة، وأشدهما ارهاقاً لكيان الإنسان[9].
والجواب المذكور كما نلحظ لا يعالج المشكلة، لعدم إجابته عن التساؤل، إذ أن التساؤل ليس عن مقدار التضحية والفداء الذي قدمه المولى أبو محمد(ع)، أو عن مقدار ما عانى في سبيل ذلك البذل، وإنما السؤال لماذا أقدم على التضحية بالملك، ولم يقدم على بذل النفس، وتقديم مهجته الشريفة؟!
لقد عرفنا فيما تقدم، أن هناك دواعي وأسباب دعته إلى أن يتنازل عن الملك، تمثل في أمور أشرنا إليها، لكن التضحية بالنفس لا تحتاج إلى شيء من ذلك، فهو لا يحتاج جيشاً جراراً، ولا يحتاج قواداً، ولا يحتاج جماهير كثيرة حتى يقدم على التضحية بنفسه الشريفة. وهذا يعني أنه كان بإمكانه أن يعمد إلى التضحية بمهجته الشريفة دونما حاجة إلى أنصار يحاربون معه، ويتوقف ذلك على جيش متكافئ القوى، فقد خاص رسول الله(ص) حرب بدر، بل وأحد، إن لم تكن سائر معاركه مع كفار مكة دونما تساوي في القوى العسكرية والعدة البشرية. كما أن أبا عبد الله(ع) قدم أطروحة التضحية في كربلاء الشهادة والسعادة مع عدم وجود الناصر، فلاحظ.
ومنها: إن إقدام الإمام الحسن(ع) على التضحية بمهجته الشريفة، وإزهاق نفسه الطاهرة، سوف يستتبع أموراً لا مناص عنها، إذ سوف يستتبع استماتة شيعته دونه، وتفدية أنفسهم إليه، كما أن ذلك سوف يوجب أن يضحي أهل بيته بأنفسهم كذلك.
ومن الطبيعي أن هذا سوف يؤدي إلى أن ينفرد الأمويون بالإمام(ع)، لأن المعركة لن تكون متكافئة الأطراف، مضافاً إلى أنه لو قتل الإمام(ع)، فسوف ينفرد الأمويون بالإسلام، وبالمسلمين، ولن يكون هناك من يقف أمامهم، ويحجبهم عن فعل ما يريدون.
ويجاب عن هذا الوجه، بما صدر من الإمام الحسين(ع)، وموقفه فإنه أقدم على ذلك، وقد استمات شيعته بين يديه، لكن لم ينتهِ الوجود الشيعي من على الأرض، كما أنه وإن استمات أهل بيته وذووه بين يديه، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد حفظ الحجة وصانها، ومنع من أن تصل يد الطغاة لها بسوء.
نعم لقائل أن يقول، بأن الخطر المحدق بالإسلام والمسلمين، لو قتل أبو محمد(ع) ومن حوله يختلف تماماً عن الخطر المحدق بهم عندما يقتل الإمام الحسين(ع)، وذلك يظهر بمعرفة الفرق بين معاوية وبين يزيد، فإن شخصية يزيد كانت شخصية مرفوضة عند المسلمين أساساً، دون شخصية معاوية، وهذا كان يستدعي ألا يقدم الإمام الحسن(ع) على التضحية، فتأمل.
ومنها: أن تحمل قضية انتخاب الصلح والهدنة وعدم الإقدام على التضحية على القضية الإلهية، والأمر الغيبي، فيقال: إن التكليف الإلهي الموجه للإمام الحسن(ع) كان يستدعي أن يسلك الإمام(ع) هذا الطريق، وأن يتخذ هذه الوسيلة، وبالتالي ما هي الحكمة التي دعت إلى ذلك، فإن هذا مما نقصر عن معرفته والإحاطة به، لأنه من الأمور الغيبية الكثيرة في سيرة المعصومين(ع).
ونحن لا ننكر أن هناك أموراً غيبية عديدة في حياة المعصومين(ع)، لا يقدر العقل البشري العادي أن يصل إليها، إلا أنه يصعب علينا أيضاً أن نحيل كل قضية لم نتمكن فيها من معرفة الحكمة، أو الإحاطة بجواب عنها إلى البعد الغيبي، فإن هذا يستوجب عدم كون سيرة هؤلاء المعصومين(ع) مورداً للتأسي والاقتداء.
والحاصل، إن تحليل الموضوع بصورة غيبية يصعب البناء عليه، فضلاً عن الالتـزام بمؤداه ي كل قضية قضية، فلا تغفل.
ومنها: إنه لا يوجد موضوع للتضحية أصلاً في سيرة الإمام الحسن(ع)، وهذا يعني أن عقد مقارنة بينه وبين الإمام الحسين(ع)، في غير محله، ويتضح ذلك من خلال البيان التالي:
إن كل موضوع من الموضوعات يحتاج في وجوده الخارجي إلى توفر أمرين، وهما:
1-وجود المقتضي، ونعني به توفر الدواعي والأسباب لتحققه في الخارج، وتوفر الأرضية المهيأة لذلك، فحضور المصلي إلى المسجد يتوقف على وجود إمام فيه، فلو لم يكن الإمام موجوداً لن يحضر إليه لأداء صلاة الجماعة، كما أن ذهابه إلى المأتم يتوقف على تواجد الخطيب، فما لم يكن الخطيب متواجداً فلن يذهب إليه.
فأول ما يحتاج إليه في كل أمر من الأمور أن يتوفر المقتضي لذلك الأمر حتى يكون موجوداً في الخارج، فلاحظ.
2-فقدان الموانع، فلا يكون هناك ما يمنع من وجوده وتحققه في الخارج، وهذا يعني أن مجرد وجود الأسباب والدوافع لتحقق الأمر خارجاً لا تكفي لو كانت هناك موانع تمنع من تحققها، وبالتالي الحضور إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة، كما يتوقف على وجود الإمام فيه، يتوقف أيضاً على أن لا يكو ن الجو ممطراً، ولا يكون المصلي مريضاً، كما أن الحضور للمأتم لا يتوقف على وجود الخطيب فقط، بل يتوقف على فقدان الموانع المانعة من الحضور فيه.
وبعد هذا التوضيح، نأتي لننظر، هل أن تضحية الإمام الحسن(ع) كانت متوفرة على المقتضي للتضحية، وتفقد الموانع منها، أم أنها لا تتضمن المقتضي، فلا حاجة للبحث عن الموانع، أو أنها تتضمن المقتضي لكن كانت هناك موانع منها.
وحتى يتضح هذا المعنى بصورة أكثر، لنطبق ذلك بداية على النهضة الحسينية، وننظر كيف أنها توفرت على المقتضي للتضحية، وفقدت الموانع منها، ومن ثمّ تحققت في الخارج، إننا عندما نعود للتأريخ نجد أن الإمام الحسين(ع) قد خيّر بين أمرين لا ثالث لهما، خيّر بين القتال، وبين الاستسلام، وقد أشير لذلك في خطاب ابن زياد مع عمر بن سعد، فقد جاء في كتابه إليه: انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث إلي بهم سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم[10].
وقد عقب ابن سعد على هذا الكتاب بقوله: لا يستسلم والله حسين، إن نفس أبيه بين جنبيه[11].
وهذا المعنى ضمنه الإمام(ع) أيضاً خطبته الشريفة يوم عاشوراء عندما قال: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، ويأبى الله لنا الذلة، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام[12].
إذاً لقد حصر الأمر بالنسبة إليه(ع) بين أن يعيش ذليلاً مستسلما، وبين أن يستشهد بإباء وعظمة، ومن الطبيعي أن مثل أبي عبد الله(ع) سليل العز والشرف والرفعة، لا يمكن أن يستسلم ويعيش شيئاً من الذل والهوان، ولهذا تعين أن يختار(ع) مبدأ التضحية والجهاد، وتقديم مهجته الشريفة.
وجميع ذلك لم يكن متوفراً في سيرة المولى أبي محمد(ع)، فإنه لم يخير بين الاستسلام والقتال، بين كان مخيراً بين القتال والصلح، وشتان بينهما، خصوصاً لو لاحظنا أن اختيار القتال فيه مغبة له(ع)، إذ لو انتصر معاوية عليه(ع) لكان ذلك مدعاة لأن يقول المسلمون ألقى بنفسه وبصحبه في التهلكة، وأزهق نفسه بدخوله حرباً كان قديراً على تجنيب نفسه إياها.
أما لو كان هو المنتصر على معاوية، لصار معاوية بطلاً إسلامياً، لأنه كان داعية السلام والصلح، وهو الذي أراد حقن دماء المسلمين، والحفاظ عليها من الإزهاق، لكن الحسن(ع) لم يقبل بذلك.
ومن هذا يتضح أن المقتضي للتضحية لم يكن موجوداً، وعلى فرض وجوده، فقد كانت هناك موانع تمنع من الركون إليها والالتـزام بها، فلاحظ.
[1] علل الشرائع ج 1 ص 248-249.
[2] بحار الأنوار ج 44 ص 19، نقلاً عن الاحتجاج.
[3] بحار الأنوار ج 44 ص 43.
[4] بحار الأنوار ج 44 ص 22-23.
[5] مقاتل الطالبيـن ص 35.
[6] بحار الأنوار ج 44 ص 43-44.
[7] بحار الأنوار ج 44 ص 147.
[8] الأئمة الأثنا عشر دراسة وتحليل ص 94.
[9] صلح الحسن ص 206.
[10] بحار الأنوار ج 44 ص 390.
[11] المصدر السابق.
[12] المصدر السابق ج 45 ص 7.