إن مذهب أهل البيت(ع) ومنذ أن بذر رسول الله(ص) بذرته الأولى، ودعى إلى التشيع أثناء دعوته إلى التوحيد والإيمان برسالته، يتعرض إلى هجمات عنيفة غايتها النيل منه، والمنع من امتداده، وقد أختلف المناوئون وتعددت أهدافهم، فكثر أعدائه، وقد كانت غاياتهم واضحة. وقد أتخذ هؤلاء أساليب ووسائل متعددة لتحقيق أهدافهم المنشودة، فكانت إحدى تلك السبل عملية التشكيك في المتبنيات الشعيرية لهذا المذهب، وفي شعائره الخاصة، وبررت بعض تلك الحركات التشكيكية بأنها حركة تصحيحية، أو إعادة صياغة، أو ما شابه.
ومن الشعائر الخاصة التي امتاز بها المذهب الجعفري والتي نالتها بعض تلك الأقلام الشهادة الثالثة لأمير المؤمنين(ع) في الأذان والإقامة بالولاية، بأن يقول المؤذن في أذانه بعد الشهادة لرسول الله(ص) بالرسالة مرتين، أشهد أن علياً أمير المؤمنين ولي الله، أو أشهد أن علياً ولي الله، أو أشهد أن علياً حجة الله.
ورفعاً لما قد يعلق في بعض الأذهان، نوقع البحث حول شرعية هذا الفعل المعروف والمتداول بين أهل الإيمان، وإقامة الدليل على شرعيته.
ونقدم قبل الحديث عن ذلك مقدمات:
الأولى: تشريع الأذان:
نختلف نحن الشيعة عن غيرنا من المسلمين في كيفية تشريع الأذان، إذ نعتقد أنه شرع بأمر من الله سبحانه وتعالى، وقد كان ذلك ليلة الإسراء والمعراج عندما أراد رسول الله(ص) أن يصلي بالأنبياء في السماء، فأمر الله سبحانه وتعالى الأمين جبرائيل(ع) أن يقوم بالأذان فأذن، وأقام، وأمر رسول الله(ص) بذلك.
وهذا يعني أن الأذان وحي أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى رسوله(ص)، وأمره به كما أمره بغيره من الأمور المشرعة، كما لا يخفى. ووفقاً لما ذكر سوف يكون تشريع الأذان متوافقاً مع تشريع الصلاة في مكة المكرمة. وهذا يتوافق مع المنهج السليم والقويم، إذ لا يتصور أن يشرع الله سبحانه وتعالى أمراً من دون أن يجعل له كافة ما يحتاج إليه، ولعل أهم شيء كيفية دعوة الناس إلى تنفيذه وتطبيقه، كما هو واضح.
وقد أختلف أبناء السنة والجماعة في كيفية تشريع الأذان، وإن كان المشهور بينهم أن تشريعه كان في المدينة المنورة، في السنة الأولى من الهجرة، وقد كان نتيجة رؤية رآها بعض الصحابة، فقد احتار النبي(ص) في كيفية دعوة المسلمين للصلاة، وإعلامهم بدخول وقتها، فعرضت عليه عدة مقترحات، لم يقبلها لعدم تماشيها مع الإسلام في أطروحاته، فبات ليلته مهموماً وبات المسلمون كذلك لهمه(ص)، فرأى عبد الله بن زيد في المنام كيفية الأذان، فجاء لرسول الله(ص)، وأخبره بما رأى فاستحسن ذلك، وقد كان عمر قد رأى مثل ذلك إلا أنه كتمه عشرين يوماً، واستحى أن يخبر رسول الله(ص) فسبقه بها عبد الله بن زيد.
ومن خلال ما تقدم، يتضح الفرق بين ما عليه الشيعة الإمامية، من أن الأذان وحي من السماء، كغيره من الأمور العبادية الأخرى، وما عليه أبناء السنة والجماعة، من كونه أمراً بشرياً جعل وفق رؤية صدرت من بعض الصحابة، وهذا يعني انتفاء عنوان العبادية عنه، إلا بناءً على التسليم بسنة الصحابي، فتأمل.
على أن هناك أهدافاً مقصودة من القول بتشريع الأذان من قبل رؤية منامية رآها أحد الصحابة، كنفي فضائل أمير المؤمنين(ع)، لأنها سوف تنفي كتابة اسمه على ساق العرش، فضلاً عن أن ذلك يوجب إقصاء أهل البيت(ع) عن مقامهم، ونفي فضائلهم الثابتة لهم، وقد ابتدأ القول بكون الآذان شرع برؤية في العهد الأموي، وبالتحديد أيام معاوية، فلا تغفل.
الثانية: جزئية الشهادة الثالثة:
لا يذهب عليك أن الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان والإقامة لا يتخذ شكلاً واحداً، بل يمكن أن يكون بأحد شكلين، فقد يأتى بها بعنوان الجزئية من الأذان، كما يمكن الإتيان بها بعنوان المحبوبية والمرجوحية والشعارية. والإتيان بها بعنوان الجزئية له صورتان:
إحداها: الجزئية الواجبة، ويسمى بجزء الماهية أيضاً، ونقصد به أن يكون الإتيان بها بعنوان الجزء الواجب الذي يعدّ مقوماً للفعل بحيث لا يتصور وجود الفعل وحصوله خارجاً إلا بوجوده بحيث يكون وجوده متوقفاً عليه لكونه أحد أجزائه التي يعتمد عليها، كما في الصلاة مثلاً، فإنها مكونة من أحد عشر جزءاً، فلا يتصور تحققها خارجاً لو تعمد المصلي إسقاط جزء منها، وما ذلك إلا لأن أجزائها الإحدى عشر مقومة لحقيقتها.
وهذا يعني أن القائل بالجزئية الواجبة يرى عدم تحقق الأذان مثلاً خارجاً لو لم يأت بالشهادة الثالثة فيه، لنقصان فصل من فصوله كما لا يخفى.
ثانيها: الجزئية المستحبة، وهي التي تسمى جزء الكمال، وهو الذي لا يتوقف وجود المركب على وجوده خارجاً، بل يكون وجوده كمالياً للمركب، كالقنوت في الصلاة، فإن وجودها لا يتوقف على وجوده، إلا أنه وجوده فيها يعدّ كمالاً لها كما لا يخفى.
ولا يخفى أن البحث عن إقامة الدليل، وإضفاء جنبة الشرعية إنما يكون وفقاً للقول بكونها جزءاً من أجزاء الأذان وفصلاً من فصوله، لا ما إذا كان الإتيان بها بعنوان المرجوحية والمحبوبية والشعارية، فإن ذلك لا يحتاج إقامة دليل عليه، لشمول العمومات الدالة على أن ذكر علي(ع) عبادة، وأمثاله للمقام.
نعم قد يتشبث بمسألة اعتبار الموالاة بين فصول الأذان، وبالتالي حتى الإتيان بها بعنوان المرجوحية والمحبوبية غير مشروع لمنافاته لمسألة الموالاة بين فصوله، وهو كما ترى. إذ قد ألتـزم غير واحد من أعلامنا بعدم اعتبار ذلك، بل قد جوزوا الكلام العادي في الأذان، وإن كان كلاماً باطلاً.
الثالثة: أدلة الشهادة لأمير المؤمنين(ع) بالولاية:
ينبغي التفريق بين الأدلة التي تضمنت الشهادة لأمير المؤمنين(ع) بالولاية والإمامة والخلافة، فليست جميعها صالحة للاستشهاد في محل بحثنا، لأن موضوع بعضها الحديث عن الإيمان وليس موضوعها الحديث عن الأذان، وعليه فسوف تقسم تلك الأدلة إلى قسمين:
أحدها: الأدلة التي قرنت بين الإمامة والنبوة في كل الشريعة وبصورة مطلقة، مثل ما جاء: إذا قال أحدكم: أشهد أن محمداً رسول الله(ص)، فليقل أشهد أن علياً ولي الله. وكذا الأدلة التي تضمنت أن ذكر علي(ع) عبادة، والنصوص التي تضمنت أن الإسلام بني على خمس، خامسها الولاية، وما نودي بشيء كما نودي بالولاية.
ثانيها: الأدلة المرتبطة بخصوص الأذان.
ومن الواضح أن البحث عن جزئية الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة تتوقف على تمامية القسم الثاني من الأدلة دون القسم الأول، فإن أقصى ما يمكن دلالة القسم الأول عليه هو الاستحباب النفسي، والمحبوبة والمرجوحية، دون إثبات الجزئية.
أقوال أعلامنا في الشهادة الثالثة:
ثم إنه بعد وضوح المقدمات التي أردنا التمهيد بها، نحتاج أن نتعرف أقوال أعلامنا في الشهادة الثالثة، ويمكن حصرها في ثلاثة واضحة، وإن كان هناك ميل لرابع نشير إليه:
الأول: البناء على كون الشهادة الثالثة شرط الإيمان، وليست جزءً من الأذان، ولا فصلاً من فصوله، فهي مستحب نفسي وعمل راجح بالأصالة، فيستحب الإتيان بها في كل مورد ذكر فيه النبي(ص)، ولا خصوصية للأذان أو الإقامة، لأن الولاية لأمير المؤمنين(ع)، والإقرار له بالخلافة الإلهية في الأرض على الخلق بعد رسول الله(ص) هو ما يجب الاعتقاد به والإذعان به. وهذا هو الرأي المشهور بين أعلامنا.
الثاني: البناء على كونها جزءً واجباً في الأذان وفصلاً من فصوله، وكذا في الإقامة، ولم يعرف قائل بهذا القول إلا بعض أعلامنا المعاصرين، وهما السيدان الشيرازيان، السيد محمد(قده)، والسيد صادق(حفظه الله) ، وإن مال له كثيراً الشيخ عبد النبي العراقي(ره) في رسالته الهداية في كون الشهادة في الأذان والإقامة بالولاية جزءً كسائر الأجزاء. وكذا صاحب الجواهر(ره)، فقد ذكر أنه لولا دعوى التسالم بين الأصحاب وشهرتهم على عدم كونها جزءاً واجباً من أجزاء الأذان، لكان القول بها متعيناً.
الثالث: القول بكونها جزءاً مستحباً من أجزاء الأذان، كالصلاة على النبي(ص) عند ذكر اسمه الشريف فيه، وهو مختار كثير من فقهائنا، كالشيخ المجلسي، وصاحب الحدائق، وصاحب الجواهر، وغيرهم(رض).
وقد مال جملة من أعلامنا كالشهيد الثاني، والمحقق السبزواري، وغيرهما للقول بحرمة الإتيان بها فيه من باب الجزئية، وأنها فصل من فصوله.
هذا ولا ينبغي الخلط بين أمرين، بين نفي الجزئية، ونفي المحبوبية والمرجوحية، فإن المائلين للقول بالحرمة، لا يمنعون من الإتيان بالشهادة الثالثة من باب المرجوحية والمحبوبية، وإنما يمنعون من جعلها فصلاً من فصول الأذان لعدم ورود الدليل عندهم على ذلك. بل لا يـــــبعد القول ببنائهم على جواز الإتيان بها من باب الجزئية المستحبة، فلا يكونوا مخالفين للعلامة المجلسي(ره)، ومن جاء بعده، إذ أن ظاهر عبائرهم منصب على ما إذا كانت فصلاً من فصول الأذان ، بنحو الجزئية الواجبة، كما لا يخفى.
ثم إنه قد يمنع القبول بالقول بالجزئية وإن كانت مستحبة، لعدم معروفية ذلك بين قدماء الأصحاب، فإن أول من عرف عنه القول بها هو غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده)، ثم انتشر القول بذلك.
وكأن ذلك لأحد أمرين:
الأول: أن عدم معروفية القول بذلك بين قدماء الأصحاب يوجب كون القول بها من قبل العلامة المجلسي(ره) قولاً شاذاً، فيدخل تحت دائرة ما جاء في المقبولة: ودع الشاذ الناذر.
الثاني: أن في البين إعراضاً من قبل أصحابنا عن العمل بما يستظهر منه القول بالجزئية، ولو كانت مستحبة، فيكون ذلك موجباً لحصول الريب فيه، ومانعاً من البناء عليه.
وكلا الأمرين لا يصلح للمانعية، إذ يرد الأول، أن عدم معروفية قول بين قدماء الأصحاب لا يوجب انطباق عنوان الشذوذ عليه، ضرورة أن مقتضى فتح باب الاجتهاد يستوجب وجود مخالفة بين الفقهاء في الرأي الواحد وفقاً لاختلافهم في المباني، وفي طريقة الاستنباط، وقد عدّ ابن إدريس الحلي(ره) الفاتح لباب الاجتهاد من جديد في المذهب الشيعي، لأن أكثر الأصحاب بعد شيخ الطائفة(ره) أصبحوا بمثابة المقلدة له، كما قيل.
وهذا العلامة(ره) يخالف الأصحاب في مسألة نزح البئر، وهذا سيدنا الخوئي(ره) يخالف الأصحاب في مسألة الشهرة جابرة كاسرة، وهذا سيدنا السيستاني(دامت أيام بركاته) يبدع شيئاً لم يسبقه له أحد من الفقهاء في قاعدة لا تعاد، فلو كان مجرد الانفراد موجباً للقول بالشذوذ، للزم إغلاق باب الاجتهاد، وعدم مخالفة الأصحاب في فتوى من الفتاوى، فتدبر.
ويدفع ثاني الأمرين، بعدم وضوح ذلك من كلمات القدماء، إذ أن المفيد(ره) على سبيل المثال لم يلتـزم بما ذكره الصدوق(ره)، فإنه خالفه في تعداد فصول الأذان والإقامة، لأن الصدوق(ره) يرى أن فصول الإقامة عشرين فصلاً، وهو ما لم يلتـزم به المفيد في المقنعة، نعم لم يتعرض(ره) للحديث عن ذلك، وهو أعم من الإعراض، كما هو مقرر في الأصول، فلاحظ.
هذا ولم يكتف جملة من أعلامنا كالإمام السيد الحكيم، والإمام السيد الخوئي(ره)، والإمام السيد السيستاني(دامت أيام بركاته) بالقول بمحبوبية الشهادة الثالثة ومرجوحية الإتيان بها في الأذان والإقامة، بل بنوا على كونها شعاراً للشيعة، وهم بالتالي يلتـزمون بوجوبها لا من باب الجزئية في الأذان، وإنما من باب الشعارية فيكون الحكم بوجوبها حكماً ثانوياً، ويكفينا حينئذٍ لإثبات شعارية الشهادة الثالثة الأدلة الدالة على أن الشهادة لأمير المؤمنين(ع) بالولاية، وأنها من أسمى الشعائر الإسلامية الإيمانية.
ولنختم الحديث في هذا الجانب بنقل كلمة رائعة جداً للمرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الحكيم(أطال الله في عمره الشريف)، قال: ورد في بعض الأخبار أن من أجزاء الأذان الشهادة لعلي(ع) بالولاية وبإمرة المؤمنين، بل عن بعض كتب الجمهور المخطوطة أن أبا ذر(رض)قد أذن بالولاية له(ع) فشكاه الناس لرسول الله(ص) فأقره على ما فعل.
إلا أنه حيث لم تتم عندنا حجية الأخبار المذكورة، فلا مجال للإتيان بها بنية أنها من أجزاء الأذان، نعم قد يحسن الإتيان بها لا بنية ذلك، بل برجاء كونها من أجزاء الأذان المستحبة، أو كونها مستحبة في نفسها لقوله(ع) في خبر الاحتجاج: إذا قال أحدكم: لا إله إلا الله محمد رسول الله فليقل: علي أمير المؤمنين، ولأنها شهادة بحق جعله الله تعالى من الفرائض الخمس التي بني عليها الإسلام، بل هو أهمها. وهي بعدُ شهادة أذن الله سبحانه بها في بدء الخلق مع الشهادتين الأوليـين رفعاً لشأنها وتثبيتاً لمضمونها، فقد روى ثقة الإسلام الكليني بسنده عن الإمام الصادق(ع) قال: إنا أول أهل بيت نوه الله بأسمائنا، إنه لما خلق السماوات والأرض أمر منادياً فنادى: أشهد أن لا إله إلا الله-ثلاثاً-أشهد أن محمداً رسول الله-ثلاثاً-أشهد أن علياً أمير المؤمنين حقاً-ثلاثاً-. ولا بدع مع كل ذلك أن يؤتى بها في الأذان والإقامة تأكيداً لها وتثبيتاً لمضمونها لا بنية الجزئية منهما، كما فعل المسلمون في عصر النبي(ص) يوم قتلوا (عيهلة) الأسود العنسي الكذاب لعنه الله تعالى، فقد قال مؤذنهم-إمعاناً في الحط لدعوته وإعلاناً بخمود نارها-: أشهد أن محمداً رسول الله وأن عيهلة كذاب، ولم ينكر عليهم أحد بأنهم قد أدخلوا في الأذان ما ليس منه. وإنما تركوا ولم يستمروا عليه لعدم الحاجة بعد أن ماتت دعوة العنسي بقتله.
أما شهادتنا هذه فلا زال المسلمون في حاجة للإعلان بها، بعد أن تجاهلها البعض، بل لا زالوا مصرين على إنكارها مجدين في إطفاء نورها، ويأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته. وعلى ذلك جرى أتباع أهل البيت(ع) على مرّ العصور وتعاقب الدهور حتى صار شعاراً لهم، ورمزاً للإيمان من دون أن يدعي أحد منهم أنها من أجزاء الأذان أو الإقامة الواجبة، فالتزموا بها كالتـزامهم بالصلاة على النبي وآله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)عند ذكر اسمه الشريف راجح من دون أن يكون جزءً من الأذان ولا الإقامة[1].
[1] منهاج الصالحين ج 1 مسألة 132.