قال تعالى:- (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)[1].
إن دلالة الآية الشريفة على لزوم مودة قربى النبي(ص) واضحة لا خفاء فيها، كما أن المقصود من القربى ليس مطلق قرابته(ص)، وإنما تتحدد في خصوص من شملتهم آية التطهير، ولا يصغى لما يذكر حول دلالة الآية الشريفة من الإشكالات، لعدم صلوح شيء منها لمنع دلالتها على ما ذكر.
إلا أن ما يحتاج بياناً، ويستدعي إزالة غموض هو: لماذا جعل الله سبحانه وتعالى المودة أجراً؟ وما هي الدواعي والدوافع لذلك، إذ لا يخفى على أحد أن المقصود من ذلك ليس مجرد قضية عاطفية بحتة أريد لها أن تكون وتذكر في القرآن الكريم من دون أن يكون ورائها أبعاداً أخرى، بل من الطبيعي أن يكون هذا الاهتمام والعرض بهذه الكيفية وخصوصاً مع التوجه إلى أن المعنيـين في الآية ليس مطلق القربى كما ذكرنا بل فئة خاصة معينة ومحددة، يشير إلى دواعي ومعطيات معينة هي التي دعت إلى هذا الاهتمام.
والحاصل، إن لهذا الموضوع معطيات تدعو إلى السعي للتعرف عليها، وملاحظة المعنى الأبعد في الآية، والغور في مضمونها للوصول للمعنى المقصود منها.
معطيات مبدأ المودة:
لا ريب في أن الآية الشريفة جاءت لتؤكد أمراً، بل أموراً أرادت الإشارة لها من خلال عرض مبدأ مودة أهل البيت(ع)، وليست بصدد بيان البعد العاطفي والاقتصار عليه كما يتصور البعض، وهذا يستدعي ملاحظة تلك الأمور التي أرادت الآية الشريفة عرضها:
بيان الإمامة وتثبيتها:
منها: إن أول ما يترائى من الآية الشريفة هو تثبيت مبدأ الإمامة، وهذا يعني أن الآية الشريفة تصلح دليلاً على إثبات إمامة أهل البيت(ع) كما ورد ذلك عن العلامة الحلي(ره)، وأحقيتهم بالخلافة بعد رسول الله(ص)، نعم لن تكون دلالة الآية الشريفة على منصب الإمامة بالدلالة المطابقية، وإنما سوف تكون بالدلالة الالتـزامية العرفية، ويتضح ذلك من خلال الالتفات إلى الحصر الواقع فيها للمودة الناتج من خلال الاستثناء الحاصر فيها، فالمودة والمحبة عندما تكون من الواجبات كشف ذلك عن وجود منـزلة خاصة لمن أوجب الشارع المقدس مودتهم، وأن لهم الولاية على الأمة، إذ أنه لا معنى لأن يجعل القرآن الكريم أجر الرسالة المحمدية مودة من كان في مقام دون مقام النبوة، وعليه يتحصل أن الذين اعتبرت الآية الشريفة لزوم مودتهم يتمتعون بمقام كمقام النبوة، فيستكشف قيادتيهم للمجتمع حينئذٍ.
الآثار التربوية والثقافية والاجتماعية لمبدأ المودة:
ومنها: الإشارة إلى الآثار الخاصة لمبدأ المودة، وأنها لا تنحصر فقط في أن الإمامة والحكم حق لأهل البيت(ع) نص عليه الله سبحانه وتعالى، فيلزم منه الطاعة والانقياد، بل هناك جملة من الآثار والأبعاد التربوية والثقافية والاجتماعية المختلفة، التي يتجسد هذا المبدأ من خلالها، ومن دونها لكن مبدأ المودة مجرد أطروحة نظرية لا تقبل التجسد خارجاً.
وبالجملة، إن تجسد مبدأ المودة خارجاً يعتمد على مراعاة الآثار والجوانب التربوية والثقافية والاجتماعية المترتبة عليه. خصوصاً بعدما قامت سيرة النبي(ص) على إبراز مبدأ المودة للقربى، وكان المسلمون يرون ذلك منه(ص)، وقد أوجب ذلك اتفاق المسلمين على أصل مبدأ محبة أهل البيت(ع). نعم قد اختلفوا في كيفية فهم هذا المبدأ، فحرفه من لم يرق له إقامة أهل البيت(ع) قادة وهداة للأمة عن مساره الطبيعي، وفسره بما يتنافى والغرض السياسي المقصود منه، وحصره في خصوص البعد العاطفي جاعلاً المودة في الآية تعني المحبة والاحترام والتقدير والود، وقد أعطوا ذلك لكونهم قوماً صالحين ومن أولياء الله المقربين منه ليس إلا. ولم ينحصر تحريف الفهم للنصوص الشريفة على خصوص الآية والمعطى الظاهر منها، بل تعدى ذلك إلى أحاديث أخرى كحديث الغدير، فحمل المعنى المقصود منه على مجرد النصرة، والمحبة، وأن الولاية المتضمنة فيه لا يقصد منها قيادة سياسية للأمة، ولا إدارة لشأنها وقياماً بأمورها، وكذا جرى ذلك في حديث الكساء، وهكذا تتعدد الأحاديث.
ومن الطبيعي جداً أن يترك هذا الانحراف في الفهم والتفسير للنصوص الشريفة أبعاداً سلبية على الأمة تؤدي بها إلى الخروج عن الجادة والنظم المقررة لها، وهذا ما جرى فعلاً، إذ صار ذلك سبباً إلى أن تحال مسألة الحكم والخلافة إلى الأمة نفسها، لتتخذ فيها الموقف المناسب، عوضاً عن أن يكون ذلك أمراً سماوياً محدداً من قبل الله تعالى.
ولا يخفى على أحد أن التفسير المذكور للآية الشريفة وحصر المقصود من مبدأ المودة التي وقع فيها في خصوص المحبة فقط وإبراز البعد العاطفي أمر خلاف ظاهر الآية المباركة، فإن هذا لا يتناسب والاهتمام القرآني والنبوي بهذا المبدأ، ليقال بأن الغاية المقصودة من ذلك كله حصر الموضوع في الإرشاد الروحي المتصل بعناصر المحبة القلبية وأمثالها.
أفهل يعقل أن يعتني القرآن الكريم بموضوع، ويورده في بعض آياته، ويهتم النبي(ص) به ليلاً ونهاراً مدة لا تقل عن ستة أشهر على مرأى ومسمع من الأمة، وتكثر عنه النصوص والبيانات والإشارة الصريحة والكنائية ذات الارتباط به، وما هو إلا إبراز بعدٍ عاطفي بحت وإرشاد لمبدأ روحي فقط؟!
إن منطق العقل يرفض القبول بذلك، بل إنه يحكم بأن هذا الاهتمام والاعتناء يكشف عن أن الموضوع بالغ الأهمية وله خصوصية دعت إلى الاهتمام بذكره في القرآن الكريم من جهة، وتكثر البيانات الصادرة من النبي(ص) حوله من جهة أخرى، لترسيخه في الوعي العام في الوسط الاجتماعي، لإزالة مفهوم آخر مسيطر عليه، وللحد من ذلك المفهوم واتساع رقعته، فكانت البيانات العديدة لتحقيق ذلك.
والحاصل، نستطيع أن نخلص إلى نتيجة مهمة أن لمبدأ المودة أبعاداً تربوية وثقافية واجتماعية أراد الشارع المقدس، سواء من خلال القرآن الكريم أم من خلال السنة النبوية إبرازها، لأن هذا المبدأ يمثل جنبة أبعد من جبنة الحكم والخلافة.
إبراز البعد الرباني في شخصية القربى:
ومنها: العمد إلى تعليم المسلمين أن من جعلت لهم المودة يملكون امتيازاً ربانياً من باعث الأنبياء ومرسل الرسل، الله سبحانه وتعالى، لأنهم ثقل الرسالة في الأرض، كالنبي(ص)، وبهم يفتح الله وبهم يختم، وهذا يعني أن النبي(ص) لم يكن قاصراً نظره في عرضه لمبدأ المودة لقرابته الذين فرض الله محبته على خصوص البعد السياسي المتمثل في الحكم والخلافة، وبالتالي يتصور أنه كان بصدد شرح نظرية الحكم والسياسة في الإسلام، فإن هذا الموضوع وإن كان يمثل قطرة من بحر الولاية، وجزءً منها، إلا أنه ليس تمام الموضوع المقصود، بل هناك ما هو أوسع وأشمل منه، وهو أن هؤلاء الذين فرض الله تعالى مودتهم، يملكون امتيازاً روحانياً عن الآخرين، ولهم ارتباط خاص بالسماء، أوجب ذلك لزوم مودتهم.
وإن شئت قل: إن الداعي للإلزام بمودة القربى المعنيـين في الآية يعود لما يملكونه من امتياز وصفات خاصة، أهلتهم لهذا المنصب، فهم رموز السماء في الأرض، وهذا يعني أن مودتهم ليس قضية إنسانية، بل هي جزء لا يتجزء من أصل الرسالة، والتـزام بأوامر الله تعالى فيها، لأن هذه المحبة تؤول في نهاية المطاف لكونها حباً لله تعالى والتـزاماً بأحكامه، وعملاً برسالته، وتنفيذاً لأنظمته، وتحقيق ما يطلبه من عباده.
موقع الرموز البشرية:
وقد يوجب ما ذكرناه من موقعية خاصة لمن وجبت مودتهم على الأمة، والكشف عن الامتياز المقرر لهم من السماء، تساؤلاً، حاصله: ما هي الدواعي لكل ما ذكر، وأي حاجة لبيان هذا الجانب، وما هي الثمرة المترتبة على ذلك؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل تحتاج إلى التعرف على دور الرمز البشري في التربية الربانية، ويتضح ذلك من خلال الالتفات إلى أن الله تعالى لم يترك خلق الإنسان حينما خلقه سدى، بل بقي مشرفاً ومهيمناً على أمره ومتصرفاً في شأنه من خلال ما يسمى بخط الشهادة، الذي يمثل الارتباط بين السماء والأرض، ومن اللازم أن يكون لهذا الخط رموز لأنه لا يمكن الارتباط بعالم الغيب ارتباطاً مجرداً، وإن كان الإنسان يملك القدرة على إدراك بعض القضايا بعقله المجرد، إلا أنه حسي بحسب نزعته أكثر من كونه مجرداً، وهذه الحسية تجعل الإنسان دائماً بحاجة إلى رموز تمثل تجسيداً بشرياً مادياً للعلاقة، من هنا جعل الله سبحانه الأنبياء من البشر، ولم يجعلهم من الملائكة، كما تؤكد ذلك العديد من الآيات الشريفة.
ومن خلال ما تقدم يتضح أن التركيز على مبدأ المودة غاية التفات قلوب الناس بالتدريج لهذه الرموز من بعده(ص)، والتفافها حولها، خصوصاً وأنه لا خلاف في رمزية النبي(ص)، فهو صاحب الرسالة والمعجزة الكبرى، لكن الكلام في الرمزية من بعده.
ولأجل استمرار خط الشهادة الممتد بين الأرض والسماء، لابد من وجود من يمثله، ويتمثل ذلك في آل الرسول(ص) الذين فرض الله تعالى مودتهم في الآية، وهذا يفسر لنا شيئاً من اهتمام القرآن الكريم بالنص على مبدأ المودة، وكثرة البيانات والأحاديث الصادرة عن رسول الله(ص) في هذا المضمار، فهو إشارة صريحة وواضحة إلى الرمزية التي يملكها هؤلاء، وتتمثل فيهم.
ويمكن أن يضاف لذلك أمر آخر، يفسر لنا شيئاً من الاهتمام، وهو إن السبب المحرك للإنسان والباعث له على الحركية في الفكر والمعتقد هو البعد العاطفي والحب القلبي، فالأنبياء صنعوا الحضارات وأقاموا الأمم من خلال عالم الحب القلبي، بينما فشل الفلاسفة أصحاب البراهين والأدلة في ذلك. لأن الفكر المجرد لا يستطيع البعث ولا التحريك إلا إذا أنزل إلى قلب الإنسان ليتحول من مجرد فكر نظري إلى رغبة وميل وعاطفة، إلى معتقد وعقيدة. ولهذا نجد أن الإسلام دخل من مبدأ المحبة والود، ليتركز هذا المبدأ في القلوب لا الأذهان فقط. وبهذا الأمر-أعني الحب القلبي-امتازت مدرسة الأنبياء عن مدرسة الفلاسفة، لأن مدرسة الأنبياء تتعامل مع الجانب الإنساني والروحي للإنسان، ومع عواطفه وقلبه، فلا تقصر التعامل مع خصوص الأفكار المجردة والنظرية، وإن كان هذا ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات، إلا أن ذلك لا يعني حصر جانب التميز في الإنسان فيه، بل إن الجانب المتميز في الإنسان هو قلبه وعواطفه وروحه. ولهذا ركزت مدرسة الأنبياء على هذا الجانب أكثر، كما يظهر ذلك من خلال وصف القرآن للعلاقة بين المؤمنين بالرسالة السماوية وبين الله سبحانه، من خلال كثرة استعمال لفظ القلب في آياته. لأن هذه المدرسة تريد تربية الإنسان وتكمل إنسانيته وكمالاته، ولا يستطيع الإنسان التكامل إلا من خلال هذا الجانب ومنه ينطلق إلى الخيرات والتحلي بالصفات الأخلاقية والوجدانية الحميدة.
فإذا كانت هذه هي طبيعة المدرسة الإلهية، ومدرسة الأنبياء، وطبيعة تربيتهم للبشرية، فمن الطبيعي أن نفهم كيف أن محبة أهل البيت ومودة القربى كانت نافذة في هذه التربية، لأن محبتهم تضمن استمرارية الرسالة، فتحفظ من أي تحريف أو خطأ.
مودة القربى هدف ووسيلة:
ومنها: لا يختلف اثنان في كون مودة القربى هدفاً إسلاميا رسالياً، إلا أن ذلك لا يمنع أن تكون وسيلة أيضاً للوصول إلى الأهداف الإسلامية الكبرى، وهذا يعني أن مودة القربى مبدأ ذو وجهين، هدف وغاية من جهة، وطريق ووسيلة من جهة أخرى.
فكونها هدفاً ينشأ من كونها كمودة الرسول(ص) نفسه، فهي مودة لله وفي الله سبحانه، لأن الرسول(ص) وأهل بيته(ع) ممثلون له تعالى، وحبهم لما يرمزون إليه من حب لله سبحانه،لأن الإنسان إذا أحب شيئاً أحب جميع المتعلقات به.
مودتهم طريق إقامة العدل في الأرض:
ومنها: إن إقامة العدل في الأرض يتوقف على وجود عنصرين، الرسالة الصحيحة، أو ما يعرف اليوم بالأيديولوجية الكاملة وغير المشوهة والمحرفة، ويمثل هذا العنصر القرآن الكريم. وسلامة من يريد تطبيق هذه الرسالة ويتحمل أحكامها وتحكيمها في الأرض، وهذا يعني أنه لو فقد العنصر الثاني أدى ذلك لفقدان العنصر الأول، فتحرف الرسالة كما حرفت الرسالات التي سبقتها، وهذا يفسر عدم انفكاك الثقلين عن بعضهما البعض، فيحمي أحدهما الآخر. وإذا عرفنا أن العنصر الأول هو القرآن الكريم، فمن هو العنصر الثاني؟ إن العنصر الثاني يتمثل في أئمة الهدى(ع)، دون غيرهم من المسلمين، فهم الذين يناط بهم حفظ وصيانة الرسالة الصحيحة، والقيام بتطبيقها، ويتضح هذا من خلال قراءة سير غيرهم ممن ترأس على رقاب الأمة، فليقرأ القارئ العزيز تاريخ بني أمية، أو ليطالع ما كتبه التاريخ عن بني العباس، أو غيرهم، ليعرف صدق ما قلناه، وأن طريق حفظ الرسالة لإقامة العدل على الأرض يتمثل في أهل البيت(ع)، وهم عدل القرآن والثقل الثاني، الذين فرض الله تعالى مودتهم.
ولا يظن أحد أن دور أئمة الهدى(ع) انحصر في حفظ خط التشيع، واقتصر على ذلك، فإنه يخطئ في ظنه، لأن القارئ لسيرتهم يجد أنهم(ع) حفظوا حتى خط الإسلام العام عندما بدأت التيارات والاتجاهات تظهر نتيجة أعمال المنحرفين وأوجبت بلبلة زعزت الوضع العام للمسلمين وتشويشاً لذهنياتهم ومعتقداتهم الأولية .
ويعدّ هذا واحداً من الآثار الاجتماعية، بل العقدية، والفكرية المترتبة على مبدأ المودة القرآني الذي تضمنته الآية الشريفة، وأكدته سيرة النبي(ص)، وبياناته المتكررة وأحاديثه الشريفة[2].
[1] سورة الشورى الآية رقم 23.
[2] من المصادر: مجلة المنهاج العدد 34 ص 13-23، تفسير الأمثل ج ص 15 ص 466-478، مفاهيم القرآن ج 4 ص 31-81.