كلمات في دعاء عرفة(1)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
205
0

اشتملت النصوص الشريفة على جملة من المستحبات في يوم عرفة، وأحد تلك المستحبات قراءة الدعاء المروي عن الإمام أبي عبد الله الحسين(ع)، فقد روي أن بشرا وبشيراً ولدا غالب الأسدي، قالا: لما كان عصر عرفة في عرفات، وكنا عند أبي عبد الله(ع)، خرج(ع) من خيمته مع جماعة من أهل بيته وأولاده، وشيعته بحال التذلل والخشوع والاستكانة، فوقف في الجانب الأيسر من الجبل، وتوجه إلى الكعبة، ورفع يديه قبالة وجهه كمسكين يطلب طعاماً،ثم ذكرا الدعاء المعروف بدعاء الإمام الحسين(ع) يوم عرفة.

وقد ذكر هذا الدعاء في غير واحد من مصادر الأدعية المعروفة عندنا، كالبلد الأمين للكفعمي، وزاد المعاد للمجلسي، والإقبال للسيد ابن طاووس.

ومع أن الراويـين للدعاء، بشراً وبشيراً أبناء غالب الأسدي، لم تثبت وثاقتهما، ما يوجب التوقف في البناء على حجية الدعاء المذكور، ومن ثمّ المنع من التعبد به، إلا أن التأمل في الألفاظ والمضامين العالية جداً والتي وردت فيه توجب الإطمئنان عند الفقيه، بل الجزم بصدوره عن المعصوم(ع)، ضرورة أن ما جاء فيه من مضامين لا يتصور صدوره عن غير المعصوم، فلاحظ.

وبالجملة، لا مجال للتأمل في صدوره عن المعصوم(ع)، استناداً لقوة المضمون وغزارة المعنى كما لا يخفى.

وعلى أي حال، سوف نعمد للحديث حول بعض المقاطع التي وردت في هذا الدعاء الشريف، ونتأمل في شيء مما جاء فيه من مضامين، لأنه لن يتسع المجال للحديث عن جميع ما جاء فيه، إذ يحتاج ذلك كثيراً من الوقت، خصوصاً مع عمق المضامين الواردة فيه، وغزارة المطالب التي تضمنها.

ولا بأس قبل الحديث عما سوف نتحدث عنه، أن نشير لأمرين:
الأول: الإشارة إلى البعد المعنوي والروحي في شخصية الإمام الحسين(ع)، خصوصاً وأنه قل أن يتعرض له الكتاب الذين كتبوا حول شخصيته المباركة.

الثاني: الحديث حول الهيئة التي خرج عليها الإمام(ع) للدعاء، وفقاً لما وصفها الراويان.

علاقة الإمام الحسين(ع) بالله سبحانه:

إن التأمل في دعاء الإمام الحسين(ع) يوم عرفة يستكشف بصورة جلية واضحة بينة حدود علاقته(ع) بالله سبحانه، ومن ثمّ لا يعجب الإنسان على إقدامه على تلك التضحية الكبرى في أرض كربلاء الخالدة يوم عاشوراء، لأن تلك التضحية لم تكن لتحصل لو لم يكن هناك ارتباط وطيد ووثيق جداً بين الإمام(ع)،و بين الباري سبحانه وتعالى.

ولا ينحصر طريق معرفة علاقة الإمام(ع) بالله سبحانه في خصوص دعاء يوم عرفة، بل هناك أكثر من موقف يشير لمدى هذه العلاقة، فقد قيل له يوماً من الأيام: ما أعظم خوفك من ربك؟ فقال: لا يأمن من يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا.

وقد عرف عنه(ع) أنه إذا توضأ تغير لون وجهه، وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك، فقال: حق لمن وقف بين يدي الملك الجبار، أن يصفر لونه وترتعد مفاصله.
ولقد كشف الإمام(ع) عن عمق هذه العلاقة مع الباري سبحانه يوم عاشوراء ظهراً، عندما طالب القوم بوقف القتال حتى يصلي لربه، مع ما كان عليه المنظر والمشهد في تلك اللحظات، وما كانت عليه الحالة من حراجة.

والحاصل، إن للحسين(ع) علاقة خاصة مع الباري سبحانه وتعالى، يمكن لكل من يقرأ دعائه يوم عرفة أن يتعرف عليها.

الهيئة التي خرج عليها:

لقد أشار الراويان إلى كيفية الهيئة التي خرج عليها أبو عبد الله(ع) للدعاء، فقالا: لما كان عصر عرفة في عرفات، وكنا عند أبي عبد الله(ع)، خرج(ع) من خيمته مع جماعة من أهل بيته وأولاده، وشيعته بحال التذلل والخشوع والاستكانة، فوقف في الجانب الأيسر من الجبل، وتوجه إلى الكعبة، ورفع يديه قبالة وجهه كمسكين يطلب طعاماً،ثم ذكرا الدعاء.

إن هذه الهيئة التي خرج عليها أبو عبد الله(ع) لأداء الدعاء في ذلك الموقف العظيم، كانت جالبة للأنظار، ومثيرة للاستغراب عند الكثيرين، فدعت إلى أن يلتفت الحاضرون إليه(ع)، فهل كانت غايته(ع) من ذلك هي عملية جلب الأنظار إليه ليس إلا، أم أنه كان يهدف إلى تقديم درس تعليمي تربوي للمجتمع الإسلامي، يستفاد منه في مثل هكذا مواقف؟

حتى نتمكن من الإجابة على هذا التساؤل، نحتاج الالتفات إلى أن للدعاء شروطاً تقسم إلى قسمين:

الأول: شروط تعرف بأنها شروط صحة.
الثاني: شروط تعرف بأنها شروط كمال.

وتختلف الشروط المعتبرة في القسم الأول عن الشروط المعتبرة في القسم الثاني، إذ أن شروط الصحة هي التي تتقوم صحة الدعاء بها، فلا يحكم بصحته ما لم يكن مستجمعاً هذه الشروط، وهذا بخلافه بالنسبة لشروط الكمال، إذ أن فقدانه لبعضها، أو لجميعها لا ينفي عنه عنوان الصحة، وإنما ينفي عنه كمال الدعاء، وهذا يعني أن الدعاء من دونها صحيح، لكنه ليس كاملاً، ومعنى فقدان الدعاء الكمال، أنه قد لا يحقق الغرض المرجو منه وهو الإجابة من قبل الله سبحانه وتعالى.

فمن شروط الصحة مثلاً، الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والإخلاص في الدعاء وعقد القلب عليه، وحسن الظن بالإجابة، واليأس من غير الله تعالى، وطيب المكسب والعمل الصالح، وأداء مظالم الناس وحقوقهم.

وأما شروط الكمال، والتي قد عرفنا أن مراعاتها توجب تحصيل الاستجابة للداعي، فمنها الطهارة من الحدث، والخبث، والدعاء بما ورد عن المعصومين(ع)، وأن يشتمل على ذكر محمد وآل محمد(ع)، لأنهم وسائط الفيض ووجهاء الخلق، وتقديم التمجيد لله سبحانه وتعالى والثناء عليه، والإقرار بالذنب والاستغفار منه، واختيار الأوقات الخاصة والمعينة للدعاء، كوقت السحر، وآخر الليل، والصباح والمساء، وعند نزول المطر.

ومن شروط كمال الدعاء أيضاً أن يكون ذلك بعد الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، ورقة القلب بالبكاء، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إذا رق قلب أحدكم فيدع، فإن القلب لا يرق حتى يخلص. وجاء عنه(ع) أيضاً أنه قال: إذا اقشعر جلدك ودمعت عيناك، فدونك دونك فقد قصد قصدك.

كما أن منها رفع اليدين في حال الدعاء، فقد ورد في عدة الداعي: إن رسول الله(ص) كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا، كما يستطعم المسكين. وجاء عن الإمام الباقر(ع) قوله: ما بسط عبد يده إلى الله عز وجل إلا استحيى الله أن يردها صفراً، حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء الله، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه.

ومن خلال ما تقدم اتضح لنا منشأ الحالة التي خرج عليها(ع)، فإن حالة الخضوع والاستكانة والتذلل التي كان عليها كانت غايته تحصيل شرائط كمال الدعاء، من خلال تمام الانقطاع لله سبحانه وتعالى.
هذا وينبغي الالتفات إلى أن وقوفه(ع) في الجانب الأيسر من الجبل يفيد استحباب الوقوف في هذه الناحية، فلا تغفل.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة