قال أمير المؤمنين(ع): عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار، والدعاء، فأما الدعاء فيدفع به عنكم البلاء، وأما الاستغفار فتمحى به ذنوبكم[1].
تركز النصوص المعصومية المرتبطة بشهر رمضان المبارك على نقطة أساسية في موضوعاتها، وهي مسألة العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، إذ يجد القارئ لها عرضاً لهذه المسألة وبصور متعددة، فمرة تعمد تلك النصوص إلى الدعوة إلى إيجاد أصل العلاقة مع الباري سبحانه وتعالى، لكل من لم يكن ذا ارتباط به، وأخرى تتعرض للحديث حول تصحيح مسار هذه العلاقة، لمن كان له رابطة به سبحانه، لكنه رابط هش يشوبه الكثير من العراقيل، وثالثة تدعو إلى توطيد العلاقة الموجودة ورفع مستواها إلى مستوى أفضل وهكذا.
ومن الطبيعي أن هذه الدعوة تحتاج إلى عرض وسائل يتسنى للمدعو من خلالها أن يحقق الغرض المرجو من الدعوة، وهذا ما نتلمسه في تلك النصوص الشريفة.
وواحدة من تلك الوسائل التي استخدمها المعصومون في البناء التربوي للعلاقة مع الباري سبحانه خلال شهر رمضان المبارك، مبدأ الاستغفار.
فقد نصت العديد من النصوص المباركة على الدعوة إليه، واستخدامه وسيلة من خلالها يوجد الإنسان علاقة مع الله سبحانه وتعالى.
ولعل أول ما يتبادر إلى الأذهان عند سماع ذكر الاستغفار كوسيلة يتم من خلالها تكوين علاقة مع الله سبحاه، أنه لماذا لا يكون ذلك من خلال قناة التوبة، بمعنى لماذا أغفلت النصوص الشريفة ذكر التوبة وجعلها وسيلة وقناة يتم من خلالها إيجاد علاقة مع الله سبحانه، خصوصاً وأن التوبة أوضح مضموناً في تحقيق ذلك.
وهذا الذي ذكر يوجب البحث حول حقيقة الاستغفار، وهل أنه يخـتلف عن حقيقة التوبة، أم أنهما مفهومان يشيران لمعنى واحد، ولا يوجد فرق بينهما، أم يقال أن أحدهما بمثابة المقدمة، أو الشرط المقوم للآخر، بحيث لا يتصور وجود أحدهما إلا بعد وجود الآخر، لأن وجود الثاني يتوقف على وجود الأول.
ومن الواضح مدى الفرق بين المحتملات الثلاثة التي ذكرت، إذ أنه وفقاً للاحتمال الأول، سوف تكون النسبة بين المفهومين هي نسبة التباين، وبالتالي توجد حقيقتان متغايرتان تماماً في كل شيء.
وهذا بخلافه على الاحتمال الثاني، لأنه سوف يكون بين المفهومين نسبة التساوي، بمعنى أن كليهما يشيران لمعنى واحد، عمدة ما كان أن للمعنى أكثر من لفظ دل عليه.
وأما بناءاً على الاحتمال الثالث فإن النـتيجة سوف تكون مختلفة تماماً عن سابقيه، لأن أحد المفهومين سوف يكون مقدمة لوجود الآخر، سواء بنحو الجزء أم الشرط.
ومن المعلوم أن اتضاح صحة أي واحد من المحتملات المذكورة يتوقف على معرفة حقيقة الاستغفار، ومن ثمّ نشير لبيان الفرق بينه وبين التوبة.
حقيقة الاستغفار:
لا يخـتلف الاستغفار عن المفاهيم الأخرى التي وردت في القرآن الكريم، والنصوص الشريفة، من أن له معنيـين، معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح.
أما معناه في اللغة، فهو: طلب الغفر، وهو يعني الستر، وهو مأخوذ من المغفر الذي يغطي به المحارب رأسه أثناء القتال.
ومن خلال التعريف اللغوي للاستغفار يمكننا أن نحرز حقيقة الاستغفار في الاصطلاح، لأن الظاهر أنه في معناه الاصطلاحي لا يخرج عما جاء في كلمات اللغويـين، وعلى أي حال، فقد عرف بأنه: عبارة عن: طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى.
وغاية المكلف من الاستغفار الحصول على أحد أمرين، كنـتيجة له، وهما:
الأول: أن يصون الله سبحانه وتعالى العبد من أن يمسه العذاب، فيكون استغفاره بمثابة طلب الأمان له من أن يصيـبه عذاب الله سبحانه نتيجة ما أقدم عليه من عمل وفعل، فيكون نتيجة الاستغفار على هذا بمثابة الأمان له.
الثاني: أن يستر الله سبحانه ما كان يفعله من أعمال، فلا يطلع عليه أحد من الخلق حتى الملكين الموكلين بكتابة ما يصدر عنه من عمل.
ثم إن الاستغفار الصادر من المكلف يمكن أن يكون من خلال القول، كما يمكن أن يكون بواسطة العمل، وهذا يعني أنه يمكننا القول أن الاستغفار له أسلوبان:
الأول: الاستغفار من خلال القول، بأن يقول العبد أستغفر الله ربي، أو أسأل الله المغفرة، أو اطلب منه تعالى أن يغفر لي، أو اللهم اغفر لي، أو ما يحقق هذا المعنى من لفظ.
الثاني: الاستغفار بواسطة العمل، وذلك من خلال عمل العبد الطاعات وفعل الخيرات واجتناب المعاصي والذنوب.
وبكلمة موجزة جداً يمكننا أن نقول في معنى الاستغفار أنه السؤال من الله سبحانه وتعالى.
ومن الواضح أن الاستغفار بهذا المعنى سوف يكون مختلفاً عن المغفرة، لأنها عبارة عن القبول منه سبحانه، فهناك أمران أحدهما صاعد والآخر نازل، فالصاعد هو سؤال العبد المغفرة منه سبحانه، والنازل هو مغفرة الرب وقبوله ذلك.
الفرق بين الاستغفار والتوبة:
ثم إنه بعدما اتضحت لنا حقيقة الاستغفار ومدى الفرق بينه وبين المغفرة، ينبغي لنا التعرف على النسبة بينه وبين التوبة، وفقاً للمحتملات التي تمت الإشارة لها في مطلع البحث، وقد عرفت هناك أنها ثلاثة.
هذا وقد ذكر اللغويون في بيان حقيقة التوبة، أنها: عبارة عن الندم على الخطيئة، مع العزم على ترك المعاودة.
وقد عرفنا في ما تقدم أن الاستغفار هو طلب المغفرة، وأنه يكون بواسطة أسلوبين، هما الدعاء، ونعني به ما يصدر عنه من قول، والتوبة، وتتمثل في عمل الطاعات وفعل الخيرات.
ولو كنا وهذا البيان، أمكن القول أن الاستغفار أعم من التوبة، ضرورة أنه يمكن حصول الاستغفار دونما حصول توبة، لأن التوبة عبارة عن عمل، بينما الاستغفار قد يكون قولاً، فلاحظ.
وقد اختلف أهل الاختصاص والاصطلاح[2]، في تحديد النسبة بينهما، فيستفاد من كلمات الأصحاب قولين في المسألة:
الأول: ما يظهر من الشهيد الثاني(قده)[3]، حيث أنه بنى على أن التوبة من مقومات الاستغفار،بمعنى أنه لا يتصور تحقق الاستغفار خارجاً دونما وجود توبة، فلو لم يكن قاصداً الندم على الخطيئة، والعزم على ترك المعاودة، فلا يمكن أن يكون تائباً.
وهذا منه(ره) في جعل التوبة من مقومات الاستغفار، مثل جعل الأصحاب القدرة على فعل الحرام من مقومات العدالة عند ترك الفعل، إذ أنهم ذكروا في بحثها، أن من ترك فعل الحرام لوجود مانع يمنعه من فعله، لا يكون عادلاً، لأن يعتبر إمكان فعله ذلك.
وعلى أي حال، فوفقاً لمختار الشهيد الثاني(ره)، لن يكون للاستغفار إلا أسلوب واحد، ينحصر في الجانب اللفظي القولي، لأن الجانب العملي المتقوم بالفعل والتوبة، يكشف عن وجوده الجانب اللفظي، وهذا يعني أن اللفظ ليس استغفاراً في الحقيقة، وإنما هو كاشف عن وجوده ليس إلا.
الثاني: ما يظهر من صاحب الجواهر(ره)[4]، إذ أنه بعدما نقل كلام الشهيد الثاني(ره) الذي عرضنا حاصله في القول الأول، علق عليه بقوله بنفي جعل التوبة من مقومات الاستغفار من حيث الحقيقة، وعدم كاشفيتها عنه، فذكر: إن فتاوى الأصحاب مطلقة من حيث جعل التوبة مقوماً من مقومات الاستغفار. والقول بأن الاصحاب اكتفوا بذكره عن ذكرها، بحاجة لدليل. ولو سلمنا بما ذكر، إلا أننا لا نسلم أن الشارع المقدس، قد جعلها كذلك
نعم أشار بعد ذلك إلى أن ما ذكره الشهيد الثاني(ره) يتم تعبداً، وذلك لأن موثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله الصادق(ع) تضمنت جعل التوبة من مقومات الاستغفار، قال(ع): وإلا يجد فليستغفر ربه، وينوي أن لا يعود، فحسبه بذلك-والله كفارة[5].
وقد تردد شيخنا الأعظم الأنصاري(قده) في المسألة، حيث لم يتضح منه جزم بقول من القولين، بل ظاهر عبارته إبدائه التأيـيد لكل واحد منهما، من خلال استعراضه لما ينهضه ويقويه على القول الآخر، وإن كان ربما يدعى اختياره القول بالاتحاد، فلاحظ ما حررته يراعه(ره) في رسالته الأنيقة في العدالة[6]. فذكر أن المستفاد من الآيات الشريفة والروايات مغايرة الاستغفار للتوبة، واستشهد لذلك بقوله تعالى:- (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه)[7]، وبالصيغة المعروفة والمتداولة في الألسن وهي قول: استغفر الله ربي وأتوب إليه، مضافاً لجملة من النصوص قابلت بين الاستغفار والتوبة.
وذكر أيضاً أن هناك وجوهاً يستفاد منها اتحاد اللفظين، مثل الجمع بين ما دل على أن دواء الذنوب الاستغفار، وأن التائب من الذنب ليغفر له، وأنه كمن لا ذنب له، ويؤيده غير ذلك من الأخبار التي تظهر للمتتبع.
وفي ختام حديثه أشار إلى ما قد يساعد على البناء على اتحاد المعنيـين من خلال حمل لفظ التوبة الوارد في موارد المغايرة على الإنابة، وهي التوجه لله سبحانه بعد طلب العفو عما سلف.
ومن المعلوم أن الوصول لهذه المرحلة رهين طي مرحلتين، وهما:
الأولى: الندم على ما فعله الإنسان واقترفه.
الثانية: التوجه لله سبحانه رغبة في عفوه.
ولو قيل: بأن ما ذكر يستدعي استعمال اللفظ في غير المعنى الظاهر، وهو بحاجة إلى قرينة.
أمكن علاجه من خلال أن التوبة بحسب اللغة تعني الرجوع، وهي تنطبق على ما تقدم، فيحمل تعبير النصوص بالتوبة على معناه اللغوي، فتدبر.
ثم إنه(ره) أكد ميله للقول بما ذكره الشهيد الثاني(ره) من أن هناك نصاً تضمن الإشارة للندم التي هي التوبة، وقد جعلها من مقوماته، وسيأتي منا الإشارة للنص المذكور عند حديثنا عن أركان الاستغفار، فانتظر.
والحاصل، إن المستفاد من جميع ما ذكر أن التوبة من مقومات وأجزاء الاستغفار، فلا يتصور حصول استغفار دون حصول توبة، فما لم يتب الإنسان يكون استغفاره كلا استغفار، ويشهد لهذا المعنى ما جاء عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ[8].
أركان الاستغفار:
وحتى يتضح ما ذكرناه من مقومية التوبة للاستغفار، فلا يتصور حصوله من دون حصولها، نشير إلى أركان الاستغفار التي تعدّ مقومة لوجوده بحيث لا يوجد ما لم تكن موجودة، ونعتمد في ذلك على ما جاء عن أمير المؤمنين(ع)، فقد روي أن قائلاً قال بحضرته: استغفر الله، فقال له(ع): ثكلتك أمك، أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليـين، وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدي للمخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيـبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر الله[9].
وعند ملاحظة هذا النص يتضح جلياً صحة ما بنينا عليه من مقومية التوبة للاستغفار، ذلك أن الركنين الأولين من الأركان الستة المجعولة في كلام أمير المؤمنين(ع) للاستغفار، يعدان ركنان للتوبة، كما أن الثالث والرابع منهما، هما شرطان لها، والخامس والسادس يعدان شرطا كمال لها أيضاً.
ولعل هذا هو السر في ورود بعض النصوص مشيرة إلى الاتحاد بين التوبة والاستغفار، فلاحظ.
وكيف ما كان، ينبغي أن نعرض إلى هذه الأركان الستة بشيء من التفصيل:
النـدم:
والمقصود منه الرجوع إلى الله سبحانه، وهو يمثل الرجوع للفطرة الطاهرة التي تدنست بالذنوب، والطريق لتحقيقه هو الندم على ما فات، وقد ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: قال رسول الله(ص): أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك: يهم العبد بالحسنة فيعملها، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته، وإن هو عملها كتب الله له عشراً، ويهم بالسيئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء، وإن هو عملها أجل سبع ساعات، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإن الله-عز وجل-يقول:- (إن الحسنات يذهبن السيئات)، أو الاستغفار، فإن قال: استغفر الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذا الجلال والإكرام وأتوب إليه لم يكتب عليه شيء، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار، قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: اكتب على الشقي المحروم[10].
واستفادة اعتبار الندم ركناً للاستغفار من خلال تعقيب قول المستغفر استغفر الله بقوله: وأتوب إليه، ولا تحصل التوبة كما هو معلوم دونما ندم، وقد عرفنا فيما مضى أن التوبة مقومة للاستغفار، فيكون الندم حاصلاً ضمناً، فلاحظ.
العزم على عدم العود:
وركنيته لا تحتاج دليلاً، ذلك أن مقتضى العودة لله سبحانه تستلزم عدم رغبة الإنسان فعل ما يخالفه بارتكاب معاصيه.
أداء حقوق الآخرين:
وهذا كسابقه في كونه من الوضوح بمكان من حيث الركنية، إذ أي معنى يتصور للمستغفر في استغفاره وهو يأكل حقوق الآخرين، بل إن البناء على عدم اعتبار هذا الركن يتنافى والركن الأول، ومن هنا يمكن القول أن البناء على اعتبار الركن الأول يستلزم اعتبار هذا الركن، فلاحظ.
بل يمكن القول أن العمل الصالح المتعقب جملة غير قليلة في الآيات الشريفة المتعرضة للتوبة إشارة إلى هذا المعنى، فتأمل.
أداء الفرائض المضيعة:
ويتم ذلك إما بقضاء ما فات فعله من الفرائض التي تركها الإنسان فلم يؤدها، فربما كان عليه صوم واجب ضيعه أيام المراهقة والشباب أول البلوغ، أو أنه فرط في صلاة، فلم يؤدها صحيحة على وجهها المطلوب، أو أن حقاً شرعياً تعلق بماله، فلم يعمد إلى دفعه، أو فرط في تحمل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا، فكل فريضة فرط في أداء حقها، عليه أن يعمد إلى تدارك ما فاته فيها.
وأما الشرطان الآخران فهما من الوضوح بمكان، لا يحتاجا بيان، نعم أود أن الفت النظر إلى أن إذابة اللحم لا يعني أن يعمد الإنسان إلى إزهاق روحه، بل يـبدو -والله أعلم- أنه كناية إلى عمد الإنسان إلى تطهير مطعمه ومشربه من الحرام، والسعي إلى تحصيل الحلال البين.
آثار الاستغفار:
هذا ولا يخفى أن للاستفغار جملة من الآثار المترتبة عليه، يحصل عليها المستغفرون، بل غيرهم، بمعنى أن وجود بعض المستغفرين في مجتمع ما، يوجب حصول بركات الاستغفار وآثاره في ذلك المجتمع فتصيب الجميع، وهذا يكشف عن أن هناك جملة من آثاره عامة لا تختص بخصوص المستغفرين، بل تشمل الكل:
فمنها: نزول البركات وحصول الحياة الطيـبة، وذلك لما بين العمل وبين الآثار التكوينية من علاقة وطيدة وارتباط تام، فمتى صلح المجتمع وحسنة أفعال أبناءه، أوجب ذلك نزول البركات من السماء، وحصول الحياة الطيـبة والرغيدة لهم، وقد أشير لهذا المعنى في قولين وردا على لسان نبيـين كريمين، فجاء على لسان نبي الله هود، قوله تعالى:- (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين)[11]، وقال تعالى على لسان شيخ الأنبياء نوح(ع):- (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً* يرسل السماء عليكم مدراراً* ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)[12]، ومثل ذلك قوله تعالى:- (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)[13].
ومنها: رفع العذاب عن الأمة، وقد أشير إليه في قوله تعالى:- (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)[14]، وعن أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: كان رسول الله(ص) والاستغفار لكم حصنين حصينين من العذاب، فمضى أكبر الحصنين، وبقي الاستغفار فأكثروا منه، فإنه ممحاة للذنوب[15].
مضافاً إلى أنه سبب من أسباب استجابة الدعاء، وفتح باب الرزق، والزيادة في العمر، ويكشف الهم والغم، ويقطع دابر الشيطان كما جاء عن رسول الله(ص).
زمان الاستغفار:
يستفاد مما تقدم في نصوص تأجيل المرتكب للذنب سبع ساعات حتى يعمل عملاً صالحاً، أو يستغفر، أن الاستغفار فوري، وليس على التراخي، وهذا يعني أن المذنب عليه أن يـبادر للاستغفار من ذنبه فوراً، فإن تراخى يكون مرتبكاً لمحرم كما هو واضح.
نعم تضمنت النصوص الإشارة إلى أوقات تعين على تحقق الغرض من الاستغفار، وهو قبوله، لا أن المستفاد منها أنها أوقاتاً للاستغفار بمعنى لا يكون إلا فيها، إذ اتضح أن مقتضى فوريته عدم تحديده بوقت.
ولا ريب أن المجال لا يسع للحديث عن أفضل الأوقات للاستغفار لتحقق الغرض منه، وإنما سوف نعرض لشيء من تلك الأوقات، فهناك وقت السحر، وقد أشير لهذا الوقت في حديثه سبحانه عن عباده الصالحين، قال تعالى:- (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون)[16]، وقوله سبحانه:- (والمستغفرين بالأسحار)[17]، وليالي الجمع، وقبل النوم، وعند صياح الديك، وقبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، وعند أوقات الصلوات، وفي ركعة الوتر، وعند نزول الغيث.
ومن أجلى الأزمنة التي ينبغي للمؤمن أن يعمد للاستغفار فيها، شهر رمضان المبارك، دونما فرق بين لياليه وأيامه.
رمضان والاستغفار:
ولا يخفى أن ذكر الأوقات السابقة وغيرها، إشارة إلى أن للزمان مدخلية في الاستغفار، بيكون عاملاً مساعداً ربما لتحقق القبول، وتحقق الغرض منه، فيتحصل المستغفر على غايته.
وهذا يفسر لنا التركيز الصادر من المعصومين(ع) على الاستغفار والحث عليه بصورة كبيرة جداً في شهر رمضان المبارك.
ولو قيل: إن مقتضى ما ذكرتموه من مدخلية الزمان في تحقيق الأثر المرجو من الاستغفار، لا يجعل لسهر رمضان المبارك ميزة على بقية الأزمنة والأوقات الأخرى، فلِمَ كان التركيز عليه إذن؟…
قلنا: إن شهر رمضان وإن كان يشترك مع بقية الأزمان من حيث التأثير في الاستغفار، إلا أنه يضاف له أمران غير موجودين في بقية الأزمنة الأخرى، وهما:
1-حصول المغفرة من الله سبحانه وتعالى لعباده فيه.
2-قبول العمل.
لذا ركزت النصوص الشريفة على الاستغفار، وذلك لأن الإنسان ربما استغفر الله تعالى لكن استغفاره لا يكون مقبولاً، وذلك لعدم توفر أركان الاستغفار لديه، بينما في شهر رمضان الذي ضمن الباري سبحانه فيه قبول العمل، حتى لو لم يكن مستجمعاً للشروط المعتبرة فيه، فإن ذلك يعني أن أي استغفار يصدر من الإنسان فإنه يكون مقبولاً، ولذا تترتب عليه المغفرة.
——————————————————————————–
[1] وسائل الشيعة ب 18 من أبواب أحكام شهر رمضان ح 4.
[2] نقصد من أهل الاختصاص والاصطلاح في هذا المجال عادة الفقهاء، والمفسرون، فلاحظ.
[3] تعرض لبيان ذلك في الحديث عن كفارة الظهار استطراداً أثناء حديثه عمن لا يقدر على كفارته، فراجع مسالك الأفهام ج 9 ص 535.
[4] جواهر الكلام ج 33 ص 163.
[5] وسائل الشيعة ب 6 من أبواب الكفارات ح 4.
[6] رسائل فقهية رسالة العدالة ص 56-57.
[7] سورة هود الآية رقم 90.
[8] وسائل الشيعة ب 86 من أبواب جهاد النفس ح 8.
[9] بحار الأنوار ج 6 ص 36.
[10] وسائل الشيعة ب 85 من أبواب جهاد النفس ح 1.
[11] سورة هود الآية رقم 52.
[12] سورة نوح الآيات رقم 10-12.
[13] سورة الأعراف الآية رقم 96.
[14] سورة الأنفال الآية رقم 33.
[15] بحار الأنوار ج 90 ص 279 ب 15 من أبواب كتاب الذكر والدعاء، ح 13.
[16] سورة الذاريات الآيتان رقم 17-18.
[17] سورة آل عمران الآية رقم 17.