عندما يذكر سيدنا ومولانا أبو طالب(ع)، فأول ما يتبادر إلى الأذهان الحديث حول العقيدة التي توفي عليها، وهل أنه مات على ما كان عليه قومه من الوثنية وعبادة الأصنام، أم أنه مات على ما عليه أبوه عبد المطلب، من عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده، حيث كان هو أول من طيب غار حراء بذكر الله سبحانه وتعالى، فكان يخلو فيه عند حلول شهر رمضان المبارك يتنسك عابداً ربه سبحانه.
هذا وقد أشبع البحث حول هذه النقطة كثيراً، وقد تعددت الطرق التي تم من خلالها إثبات المعتقد الذي مات عليه سيد البطحاء(ع)، وأنه ما خرج من الدنيا إلا وقد آمن برسالة ابن أخيه محمد(ص) بعدما كان قبل بعثته الشريفة مؤمناً بالحنفية السمحاء التي هي رسالة جده إبراهيم(ع)، تبعاً لما كان عليه أبوه عبد المطلب كما عرفت.
ويكفي لإثبات إيمان الشيخ(ع)، أن جميع ما ذكر من نصوص يتمسك بها على إثبات كفره وعدم إيمانه، وعلى رأسها حديث الضحضاح كلها ضعاف الأسناد لا يركن لشيء منها، وإن كانت قد رويت في الصحيحين وغيرهما، إذ أن مراجعة رجالهما تكشف عن صحة ما ذكرنا.
وعلى أي حال، لسنا بصدد الحديث عن هذه الناحية بعدما عرفت إشباعها ولو في الجملة.
هذا ولكن ما يدعو للعجب، هو معرفة الأسباب التي دعت إلى إثارة هذه المسألة، أعني مسألة كفر أبي طالب، فما هي الأسباب التي دعت إلى ذلك، ومعرفة متى أثيرت هذه المسألة، وفي أي وقت.
هذا وقبل أن نبدأ الحديث حول ما ذكر، لنقدم تعريفاً إجمالياً لشخصية سيد البطحاء(ع)، فنقول:
الصفات الشخصية:
هو عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، وقيل أن اسمه عمران وقد ورد ذلك في رواية لكنها ضعيفة، كما قيل أن اسمه وكنيته واحد، وهو أبو طالب، لكنه لا يركن لهذا القول.
وقد كانت ولادته بعد حفر بئر زمزم، وقبل عام الفيل ومولد النبي(ص) بخمس وثلاثين سنة، وأبوه عبد المطلب المعروف بشيبة الحمد، وأمه هي فاطمة بنت عمرو بن العائذ من بني مخزوم، وهي آخر زوجات عبد المطلب. وقد كان له أخوان شقيقان، وهما عبد الله والد النبي محمد(ص)، والزبير، وقيل أن أخاه الشقيق ينحصر في والد رسول الله(ص).
هذا وقد عرف أبو طالب بعدة ألقاب، منها أبو طالب، وسيد البطحاء، وشيخ قريش، ورئيس مكة، وبيضة البلد، والشيخ، وشيخ الأبطح، وشيخ الأباطح.
وقد غلب عليه لقب أبي طالب حتى لم يعرف أحد يناديه باسمه الأصلي عبد مناف.
تاريخ وفاته:
وقد اتفق المؤرخون على سنة وفاته، وهي السنة العاشرة من البعثة النبوية الشريفة، وقبل الهجرة بثلاث سنين، لكنهم اختلفوا في تحديد الشهر الذي وقعت الوفاة فيه على ثلاثة أقوال:
1-أن وفاته(ع) كانت في شهر شوال في ليلة النصف.
2-أن وفاته(ع) كانت في شهر رمضان المبارك في الليلة السابعة منه.
3-أن وفاته(ع) كانت ليلة السادس والعشرين من شهر رجب الأصب.
سيادته على قومه:
لقد خلف أبو طالب جميع ما كان لوالده عبد المطلب(ع) من رئاسة وزعامة اجتماعية في الوسط المكي، ومن الطبيعي أن الموجب لتسمنه هكذا مكانة بين القرشيـين دون بقية أولاد عبد المطلب، يعود لأمرين أساسين:
الأول: ما كان يمتلكه أبو طالب من مكانة سامية وعالية عند والده عبد المطلب دون بقية أبنائه، ما عدا عبد الله والد النبي(ص)، حيث كانت لأبي طالب منـزلة خاصة وسامية عند والده، لما كان يعرفه من علو منـزلته، ولما تفرس فيه من الخير .
الثاني: المقومات النفسية التي كان يتمتع بها أبو طالب(ع)، حيث ذكر المؤرخون في صفاته النفسية، أنه كان ذا شخصية قوية مهابة في نفوس قومه، طاهراً مستقيماً، شجاعاً طيب النفس.
وبسبب ما ذكرنا آلت رئاسة مكة وقريش بعد وفاة عبد المطلب إلى أبي طالب(ع).
ولأجل ما ذكر صار قومه يقلدونه في أفعاله، وكانوا لا يقدمون على أمر إلا بعد مشورته، وأخذ رأيه، ويشهد لما ذكرنا حديث عفيف الكندي مع العباس بن عبد المطلب، فقد رأى رسول الله(ص) يصلي في مبدأ الدعوة، ومعه امرأة، وغلام، قال: فقلت للعباس: أي شيء هذا؟ قال: هذا ابن أخي يزعم أنه رسول من الله إلى الناس، ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام، وهو ابن أخي أيضاً، وهذه الإمرأة هي زوجته، قال: فقلت: فما الذي تقولونه أنتم؟
قال: ننتظر ما يفعل الشيخ-يعني أبا طالب.
أولاده:
خلف أبو طالب أربعة من الذكور وهم طالب، وبه كان يكنى، وعقيل، وجعفر، وعلي، وقد كان الفارق بين كل واحد منهم عشر سنين، وخلف ثلاث بنات، هن أم هاني، وفاختة، وجمانة، وجميعهم لأم واحد واحدة، هي سيدتنا ومولاتنا فاطمة بنت أسد(ع).
إثارة كفره:
هذا وبعدما أحطنا إجمالاً بجملة من الجوانب الشخصية بسيرته المباركة، ينبغي أن نصرف عنان البحث للحديث حول تاريخ إثارة مسألة موته على الكفر، فمتى أثيرت هذه المسألة، وهل كانت متداولة ومعروفة بين الصحابة أيام رسول الله(ص) بحيث أن المسلمين في مكة وقبل الهجرة كانوا على دراية أن أبا طالب(ع) مات كافراً، أم أن هذه المسألة من المستحدثات والمستجدات التاريخية التي لم يتحدث التاريخ عنها إلا بعد مضي حقبة من الزمن، ورحيل الرعيل الأول من الصحابة والتابعين؟
عند نرجع للبحوث التاريخية المصنفة، وما كتبه المؤرخون، لا نجد فيها إشارة إلى هذا الموضوع فضلاً عن إثارته أيام رسول الله(ص)، سواء فترة وجوده في مكة المكرمة وبعد وفاة أبي طالب مباشرة إلى حين هجرته المباركة إلى طيبة الطيبة، ولا فترة إقامته لدولة الحق في المدينة المنورة، وهذا يعني أن المسلمين كانوا على يقين أن الشيخ(ع) مات على طريق الحق والهداية، وإلا لو لم يكن كذلك لكان هناك كلام آخر، ولا أقل أنه لو كان في البين شك بينهم أنه على أي طريق قد مات، لسأل رسول الله(ص) عن ذلك.
ولا نجد في النصوص المعتمدة والمعتبرة المروية عنه(ص) ما يتضمن الحديث أو السؤال عن ذلك.
كما أن خلو الكتب التاريخية عن طرح مثل هذا الموضوع، يكشف عن أن إثارة هذه المسألة لم يكن على حياة رسول الله(ص)، بل هي متأخرة عنه.
كما أننا لا نجد ما يشير إلى الموضوع المذكور طيلة خلافة الخلفاء الثلاثة الأول، وهي مدة تبلغ ستاً وعشرين سنة تقريباً، حيث لم ينقل التاريخ شيئاً عنهم في ذلك.
وقد يتصور الكثيرون أن أول إثارة للموضوع محل البحث كانت في العصر الأموي، وبالتحديد عندما بدأ الصراع السياسي بين أمير المؤمنين(ع) من جهة وبين معاوية من جهة أخرى عند تسلم أمير المؤمنين الخلافة الظاهرية وقيادة الأمة، وقد يؤكد هذا التصور الدوافع التي كان يسعى لها معاوية للنيل من أمير المؤمنين(ع) ومحاولة إضعاف مركزه الاجتماعي في الوسط الإسلامي، ضرورة أن وصف أبيه بهذه الصفة، وهي الكفر موجب إما لتقليل شيء من فضائله، أو إيجاد مثلبة فيه.
هذا وعند الرجوع للكتب التاريخية، فإننا لا نجد ما يشير إلى صدور هذا الأمر من معاوية، مع أن التاريخ نقل جملة من المواجهات الصادرة من أمير المؤمنين(ع) تجاه معاوية والتي كانت تتضمناً ثلباً منه في أبويه وبكلمات حادة، إلا أن معاوية لم يصدر منه في شأن سيد البطحاء(ع) شيء أصلاً.
ولعمري أنه لو كان معاوية يظن موت أبي طالب(ع) كافراً لما ترك هذه الفرصة تفوت عليه.
وبالجملة، فالشواهد التاريخية لا تساعد على ظهور هذه الفرية والكذبة المزعومة في زمان معاوية، بل ولا في العصر الأموي.
وليس هذا منا دفاع عن معاوية أو تبرئة لساحته، إذ لا يخفى على أحد ما جناه وعملته يداه، إذ هو والأمويون من بعده لم يتورعوا عن شيء في مجالات عدة، والتاريخ ملئ بالشواهد التي تتحدث عن افتراءاتهم وكذبهم على رسول الله(ص).
نعم لبعض الكتاب احتمال، وهو أن عدم تعرض معاوية لذلك لا ينفي تبنيه للفكرة، عمدة ما كان أن الحاشية التي كانت تحوطه من الأمويـين، كعمرو بن العاص وأضرابه من دهاة العرب، كانت لهم أبعاد سياسية وراء ذلك.
لكن الإنصاف، أن هذا التبرير لا يقبل، ضرورة أنه ما الموجب لعمرو وأمثاله إلزام معاوية التورع عن هذا الأمر، إن كان شخص أبي طالب، فشخص رسول الله(ص) أولى، وهو لم يتورع عنه، وإن كان الإسلام، فالتاريخ ينبيك عما اقترفته يداه ومن جاء بعده.
الفرية عباسية:
هذا والذي تساعد عليه الشواهد التاريخية أن أول من أثار هذه الفرية وأطلق العنان لهذه الدعوى، هم العباسيون، وبالتحديد الدوانيقي أبو جعفر المنصور، وقد كانت غايته التالي:
أولاً: بيان أنه لا فرق بين العلويـين والعباسيـين من حيث الانتساب إلى رسول الله(ص)، ذلك أن الطرفين يتصلان به(ص) من خلال عميه أبي طالب والعباس.
ثانياً: إن للعباسيـين امتيازاً على العلويـين ينشأ من أن جدهم العباس مات مسلماً، بينما العلويون مات جدهم أبو طالب كافراً.
أسباب التشكيك في إيمان أبي طالب:
هذا وقد يتساءل الكثيرون أنه ما هي الأسباب والدواعي التي أدت إلى التشكيك في إيمان أبي طالب، بمعنى أنه لابد وأن هناك ما ساعد على التشكيك في موضوع إيمانه، لا أن الموضوع صدر من البداية.
وما ذكر يمكن أن يكون مقبولاً في الجملة، بمعنى أن هناك أسباباً ساعدت على تهيئة الأرضية لبث هذه الفرية والكذبة في الأوساط الاجتماعية من قبل السلطات الحاكمة، ويمكن حصر تلك الأسباب في ما يلي:
1-كتمانه(ع) لإيمانه:
فقد كان(ع) يكتم إيمانه، ومن الطبيعي أنه إنما لجأ لذلك لدواعٍ خاصة، إذ لا يخفى أن مكانة أبي طالب الاجتماعية التي قد عرفت شيئاً عنها في مطلع الحديث كانت تستوقف المكيـين عن إيذاء رسول الله(ص) بصورة مباشرة، ولذا وردت النصوص الشريفة عنه(ص) تتحدث أن قريشاً ما نالت منه إلا يوم توفي سيد البطحاء، لا قبل ذلك.
وبالجملة، إن كتمانه(ع) لإيمانه وفرّ له الأجواء المناسبة للدفاع عن رسول الله(ص) وهذا أعطى رسول الله(ص) حرية لبث دعوته وعرضها على كل أحد وفي آن ومكان.
2-الحقد على أبي طالب:
من الطبيعي أن العباسيـين، وكذا بعض المرتزقة كان يحقدون على شخص أبي طالب ولعدة اعتبارات، منها أن أبا طالب ابن حرة، والعباسيون يرجعون للعباس وهو ابن أمة، وكانت خادمة عند أم أبي طالب، وهبتها لزوجها عبد المطلب فأنجب منها العباس، وقد بقيت هذه العقدة في نفوس العباسيـين تسايرهم حتى انهيار دولتهم، كما أن المكانة السامية والمرموقة لأبي طالب اجتماعياً جعل أبناء أخيه العباس يحقدون عليه.
وكيف وهو الحامي لرسول الله(ص)، وأحد أبرز الأركان الأساسية في نشر دعوته وانتشار رسالته. بحيث أنه متى ما ذكر رسول الله(ص) إلا وذكرت كفالة أبي طالب ورعايته له(ص)، بل ما ذكر الإسلام إلا وأشير إلى أنه انتشر بفضل رعاية أبي طالب له، والدفاع عنه وحمايته.
3-الحقد على علي بن أبي طالب:
وهذا من الموضوعات التي لا تحتاج بياناً أو حديثاً، ضرورة أنه من الواضحات، فلو كان أبو طالب والداً لأحد غير علي، لكان أحد أهل الجنة، بل ربما كان من أبرز الأولياء الذين يتوسل بهم، والشفعاء المشفعين يوم القيامة.