عباد الرحمن (3)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
95
0

قال تعالى:- (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً)[1].

تمهيد:

لا زال الكلام مستمراً حول صفات عباد الرحمن، وقد تقدم الحديث حول صفتين منهما، وهما:

الأولى: أسلوب العلاقة القائم بينهم وبين الناس، من خلال حسن التعامل وترك الإيذاء.

الثانية: تحمل الأذى، واستيعاب الآخرين بالأساليب الحسنة.

هذا ويقع الحديث الآن حول الصفة الثالثة، وهي تتضمن بياناً لسيرتهم عندما يخيم الظلام بسكونه، وينشر لونه الأسود على الكون، فتشير إلى أنهم في ذلك الوقت يعمدون إلى خدمة الخالق سبحانه وتعالى.

الجانب الروحي في الشخصية الدينية:

تعرضنا فيما تقدم إلى أن الشخصية الدينية متقومة بجزئين على نحو جزء العلة، وأنها لا تتحقق إلا إذا تحققا، وهما الجانب الروحي، والجانب الأخلاقي.

ومن الواضح أن الصفتين الأولى والثانية مرتبطتان بالجانب الأخلاقي، أما الصفة الثالثة فإنها مرتبطة بالجانب الروحي.

ومن المعلوم أن الجانب الروحي يتمثل في جملة من العناصر النفسية الداخلية التي تنشد إلى الله سبحانه، فهو يتشكل من خلال الإيمان بالباري سبحانه وتعالى، والاطمئنان له، والخوف منه سبحانه، ورجاؤه، والصبر والإخلاص، وما شابه ذلك من المعاني.

ومن خلال ما ذكرنا يتضح أن الطقوس العبادية من صلاة وصيام وحج وصدقة، وأمثال ذلك، التي يمارسها المكلف لا تشكل الجانب الروحي، بل هي وسائل للتربية الروحية والإعداد الروحي.

وسائل التربية الروحية:

هذا ولا يخفى أن هناك وسائل متعددة للتربية الروحية في الإسلام، وهي كثيرة، فمنها ذكر الله سبحانه، سواء كان الذكر القلبي أم كان الذكر اللساني اللفظي. ومنها المحاسبة والنقد الذاتي، ومنها الصوم، ومنها تلاوة القرآن الكريم.

ومن ضمن وسائل التربية الروحية في الإسلام، الصفة الثالثة من صفات عباد الرحمن، والتي نحن بصدد الحديث عنها، وهي قيام الليل والتهجد.

قيام الليل:

وعندما نود الحديث عن الصفة الثالثة من صفات عباد الرحمن، نجد أنه قد ورد الحث الشديد عليها في النصوص الشرعية، قال تعالى:- (يا أيها المزمل*قم الليل إلا قليلاً*نصفه أو انقص منه قليلاً*أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً)[2]، وقد سبحانه:- (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)[3]، وقال عز من قائل:- (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون)[4]، حيث أنها فسرت في كثير من النصوص وفي كلمات عدة من المفسرين بالقيام والنهوض من النوم لأداء صلاة الليل.

وقال تعالى:- (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون)[5].

وقال النبي الأكرم محمد(ص): خيركم من أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام.

وجاء عنه(ص) أيضاً: من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار.

وعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: قيام الليل مصحة للبدن، ومرضاة للرب عز وجل، وتعرض للرحمة، وتمسك بأخلاق النبيـين.

وعن رئيس المذهب أبي عبد الله الصادق(ع) قال: ثلاثة هن فخر المؤمن وزينة في الدنيا والآخرة: الصلاة في آخر الليل، ويأسه مما في أيدي الناس، وولاية الإمام من آل محمد.

وقد أوصى(ع) أحد أصحابه بقوله: لا تدع قيام الليل فإن المغبون من حرم قيام الليل.

مراتب التهجد في الليل:

هذا وقد يتصور البعض أن صفة قيام الليل متأتية لكل أحد، بحيث يمكن لكل واحد الحصول عليها وتحقيقها خارجاً، ضرورة أنه لا يوجد أدنى صعوبة في ذلك، وهذا يستدعي التساؤل عن منشأ تخصيص عباد الرحمن بها دون غيرهم، مع كونها كما عرفت ممكنة الحصول لكل أحد.

ولكي يتضح عدم صحة التصور المذكور، وبالتالي يظهر أن توصيف عباد الرحمن بهذه الصفة يكشف عن صفة ليست في تناول كل أحد، بل هي صفة خاصة، لابد من الإشارة إلى مراتب إحياء الليل، إذ لا يخفى أن الناس المحيون لليل ليسوا على نسق واحد، بمعنى أنهم يخـتلفون ويتفاوتون في إحيائه، ولذا يمكن تقسيمهم إلى مراتب:

الأولى: الذين يعمدون إلى أداء صلاة الليل قبل أن يخلدوا للنوم، وبعد فراغهم عنها يقومون بالنوم حتى يطلع الفجر عليهم وهم نيام.

ولا ريب في أن هؤلاء ينطبق عليهم أنهم قد أدوا صلاة الليل، لكن لا ينطبق عليهم إحياء الليل بالعبادة، وذلك لأن الظاهر أن إحياء الليل بالعبادة يتقوم بأحد أمرين على سبيل مانعة الخلو:

أولهما: أن يكون محيـياً الليل كله بالعبادة فيسهر الليل بأكمله حتى يطلع عليه الفجر وهو كذلك.

ثانيهما: أن ينام شيئاً من الليل ثم يستيقظ ليحيي الليل أو ما تبقى منه.

ومن الواضح أن أصحاب هذه المرتبة لم يتحقق منهم أي الأمرين، ولذا لو عبر عنهم بأنهم أحيوا الليل لكان في ذلك نحو من المسامحة في التعبير، نعم ما لا ينكر أنهم قد أدوا صلاة الليل.

الثانية: أن يستيقظ الإنسان من نومه لكنه لم يتبق من الوقت على طلوع الفجر إلا مقدار أداء ثلاث ركعات، فيصلي صلاة الشفع، وصلاة الوتر.

ومن الواضح أن أصحاب هذه المرتبة أفضل حالاً من أصحاب المرتبة السابقة، ضرورة أنهم ينطبق عليهم أنهم أحيوا الليل بالعبادة، لأنهم لم يدركهم الصبح نيام، لكن الإحياء لم يكن بالصورة المطلوب، وذلك لعدم اشتماله على المناجاة والاستغفار، وتلاوة القرآن الكريم، وما شابه ذلك.

الثالثة: أن يستيقظ المكلف من نومه، في وقت يسع أداء صلاة الليل بنافلتها، وهذا وإن كان ينطبق عليه عنوان المتهجدين في الأسحار، القائمين في الليل، إلا أنه لم يحيي الليل كله بالعبادة من خلال الاشتغال بتلاوة القرآن الكريم، والأدعية والذكر والمناجاة، مما يعني أنه قد فاته لقاء الحبيب لقاء تاماً.

الرابعة: أن يقوم المكلف من نومه في وقت يسعه مضافاً إلى أداء صلاة الليل بنافلتها، تلاوة القرآن الكريم والاشتغال بالأذكار المباركة، والمناجاة وحلاوة الدعاء، والاستغفار حتى مطلع الفجر.

وهذا هو شأن أكثر المتهجدين في الأسحار، ولا يخفى أن حال أصحاب هذه المرتبة أفضل من حال أصحاب المرتبة السابقة، ضرورة أنهم لقوا الحبيب من خلال الأذكار والمناجاة والاستغفار.

نعم قد فاتهم طول الإقامة معه أثناء اللقاء بسبب قلة المدة الزمنية التي تواجدوا معه فيها.

الخامسة: أن يقوم المكلف ثلث الليل بعدما كان قد نام ثلثيه الأولين، فيشتغل بداية بتلاوة القرآن والدعاء والمناجاة، ثم يعمد إلى الاستغفار، إلى أن ينـتصف الليل، فيقوم حينها لأداء صلاة الليل بعدما يؤدي نافلتها.

وهذا هو شأن أكثر القائمين، والزهاد العابدين، يشتغلون بالعبادة هكذا حتى يطلع الفجر عليهم، وهم ما بين بكاء ومناجاة، ودعاء وذكر واستغفار.

السادسة: أن يجعل الليل بينه وبين ربه، فينام نصفه، ويقوم لربه نصفه الآخر، فيتلو القرآن الكريم قبل نافلة الليل أو بعدها، ويكثر من ذكر الله تعالى والاستغفار، والتسبيح والتهليل، والمناجاة، ثم يقوم لأداء نافلة الليل، ومن ثمّ صلاة الليل، ويـبقى هكذا حتى يطلع عليه الفجر.

السابعة: أن يسهر الليل كله، فيحيه بأكمله بالعبادة، فلا ينام شيئاً منه، طيلة ليلته، وهذا هو شأن الأقوياء الذين تجردوا للعبادة الليلية، والتـذوا بمناجاة ربهم، يقومون ليلهم، يتلون كتاب ربهم ويذكرونه، ويستغفرونه من غير أن يتعبوا بطول القيام، ولا يملوا من كثرة المناجاة، ولا تكرار الطلب والإلحاح، بل صار ذلك غذاء لهم وحياة لقلوبهم، حتى أن بعضهم ليصلي صلاة الصبح بوضوء العشاء.

وهؤلاء قد استعانوا على ذلك بقليل من النوم في النهار، وخاصة نوم القيلولة.

آثار نافلة الليل في النفوس والمجتمعات:

هناك جملة من الأعمال التي يمارسها الإنسان لها جملة من الآثار الوضعية التكوينية، التي يلمسها فاعلها حتى لو لم يرد التصريح أو الإشارة إليها في النصوص الشرعية الواردة عن الشارع المقدس وعن أهل بيت العصمة(ع)، والظاهر أن نافلة الليل واحدة من تلك الأمور، ضرورة أنه لو لم تتعرض النصوص إلى الحديث عما يترتب عليها من آثار يلمسها المواظب عليها، لكان ذلك جلياً واضحاً وملموساً لممارستها، فيرى تلك الآثار بنفسها، ويحسها دون أن يخبره أحد بذلك.

وعلى أي حال، فقد تعرضت النصوص الصادرة عن أهل البيت(ع) إلى جملة من الآثار المترتبة على صلاة الليل، والمداومة عليها، نشير إلى بعض من تلك النصوص:

منها: ما ورد عن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: خيركم من أطاب الكلام وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام.

فالنبي الأكرم(ص)، يعطي صفة الأفضلية من خلال التعبير بالخيرية لمن يكون ممتلكاً لتلك الصفات التي منها صفة قيام الليل.

ومنها: قوله(ص): من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار.

وفي هذا الحديث النبوي، يشير(ص) إلى أثر تكويني-بناءً على حمل الرواية على ظاهرها-يتحصل عليه المؤدي لصلاة الليل، فيظهر ذلك عليه إذ يرى الناس حسن وجهه. نعم يحتمل أن تكون الرواية مؤولة، بمعنى أن هناك نحواً من أنحاء الكناية أو الاستعارة لحسن، فيكون المقصود معنى آخر كنائي، فلاحظ.

ومنها: ما جاء عن أمير المؤمنين(ع)، أنه قال: قيام الليل مصحة للبدن، ومرضاة للرب عز وجل، وتعرض للرحمة، وتمسك بأخلاق النبيـين.

تضمن هذا الحديث جملة من الآثار بعضها آثار تكوينية وضعية، وبعضها الآخر يمكن التعبير عنه بالآثار التشريعية، فمن الآثار التكوينية كونه مصحة للبدن، ومرضاة للرب، وتعرض للرحمة، أما الآثار التشريعية، فمن عد التعرض لمرضاة الرب منها، كما أنه يمكن عدّ التعرض للرحمة الإلهية منها، وأيضاً التمسك بأخلاق النبيـين.

ومنها: ما جاء عن رئيس المذهب(ع) أنه قال: ثلاثة هم فخر المؤمن، وزينة في الدنيا والآخرة، الصلاة في آخر الليل، ويأسه مما في أيدي الناس، وولاية الإمام من آل محمد.

وهنا نجد الإمام(ع) يعدّ من فخر المؤمن وزينـته في الدنيا والآخرة، أداء صلاة الليل.

ومنها: ما جاء عنه(ع) أيضاً أنه أوصى أحد أصحابه بقوله: لا تدع قيام الليل فإن المغبون من حرم قيام الليل.

ومنها: ما جاء عنه(ع) أيضاً قوله: صلاة الليل تحسن الوجه وتذهب بالهم وتجلو البصر.

ومنها: ما جاء عنه(ع) أيضاً قوله: صلاة الليل تحسن الوجه، وتحسن الخلق، وتطيب الريح وتدر الرزق، وتقضي الدين وتذهب بالهم وتجلو البصر.

ومنها: سئل إمامنا الرضا(ع): ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالله فكساهم الله من نوره.

التوفيق لصلاة الليل:

قيام الليل بما ينطوي عليه من أعمال عبادية، من تلاوة قرآن واستغفار، وتهجد بالأسحار، وما شابه ذلك، يحتاج إلى توفيق وتأيـيد من الله سبحانه وتعالى.

ومن الواضح أن هذا التأيـيد لا يتحصل عليه كل أحد، بل لابد من وجود مقدمات ودواعي تستوجب تحصل الإنسان عليه، بأن يكون الإنسان ممن زكى نفسه من أدران المحرمات.

ولعل هذا يفسر لنا في أننا نجد أن القائمين في الليل قليل، مع أن الراغبين في التهجد وإحياء الليل كثير، كما أن الكثيرين من أصحاب الذنوب والمعاصي، والظلمة ربما وفقوا لجملة من المندوبات والمستحبات، بدفع الصدقات، وغير ذلك من الأعمال المستحبة، إلا أنهم لا يوفقون لقيام الليل وإحيائه بالتهجد، ومثل ذلك أصحاب الكبائر.

ثم إنه قد ذكرت جملة من الأمور المساعدة للتوفيق لقيام الليل، وقد قسموها إلى أمور ظاهرية، وأخرى باطنية، أما الظاهرية فنشير إلى جملة منها:

منها: قلة الأكل والشرب، وتخفيف المعدة عن ثقل الطعام، ضرورة أن كثرة الأكل والشرب وثقل المعدة توجب غلبة النوم، وثقل القيام.

ومنها: المداومة على قيلولة النهار، فإنها سنة للاستعانة بها على قيام الليل والتهجد فيه.

ومنها: ترك أكل الحرام، وعدم الانهماك في الشهوات، وتجنب ارتكاب المحرمات، فإنها أمور توجب قسوة القلب، وتحول بين الإنسان وبين الرحمة الإلهية، فيمنع من قيام الليل.

ومنها: ترك الإرهاق بالأعمال الزائدة أثناء النهار، فلا يعمد إلى العمل أكثر من طاقته ما يوجب أن يجعله ذلك تعباً فلا يقوى على قيام الليل.

وأما الباطنية:

فمنها: تزكية النفس عن أرجاس المعاصي، وحب الشهوات وإتباع الأهواء، وتطهير القلب من وساوس الشيطان، وعدم الحقد على المؤمنين، وتجريده من حب الدنيا.

ومنها: معرفة فضل قيام الليل والتهجد فيه، وتأثير ذلك على النفوس البشرية، والمجتمع، وما لذلك من آثار في شئون الحياة الدنيوية والأخروية.

ومنها: الخوف منا لله سبحانه وتعالى، ورجائه بالتفكر في الكون، وفي الآخرة.

——————————————————————————–

[1] سورة الفرقان الآية رقم

[2] سورة المزمل الآيات رقم 1- 4.

[3] سورة الإسراء الآية رقم 79.

[4] سورة السجدة الآية رقم 16.

[5] سورة الذاريات الآيتان رقم 17-18.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة