قال تعالى:- ( وعباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً)[1].
قلنا في البحث السابق بأن حديثنا حول صفات عباد الرحمن، وأشرنا إلى معنى وصفهم بالعبودية، لما في ذلك الوصف من سمة مميزة، وأشرنا إلى أنه لو كان هناك وصف أفضل منه وأميز لوصف الله تعالى به عبده، في قوله:-(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)[2].
كما أشرنا إلى أن هناك احتمالين في قوله سبحانه:_ (يمشون على الأرض هوناً)، أحدهما وهو المعروف بين أهل التفسير من إبقاء الآية الشريفة على ظاهرها، والآخر ما عليه السيد الطباطبائي(قده)، من كونها كناية عن الأسلوب المعيشي في التعامل مع أبناء المجتمع.
التواضع:
هذا ولا يخفى أنه سواء قبلنا بالتفسير الأول للآية الشريفة، وهو ما ألتـزم به أكثر المفسرين من أن المراد قوله تعالى:-(يمشون على الأرض هوناً)، أي حركتهم على الأرض أثناء تنقلاتهم، أم التزمنا بما قاله العلامة الطباطبائي(ره)، من كونه كناية عن منهجيتهم في المعاشرة مع الناس، فإن كليهما يقرران أسلوباً من الآداب والسنن الدينية والاجتماعية، وهو التواضع، وهو من الأخلاق الحسنة التي ينبغي أن يتسم بها الإنسان المؤمن، كما يستفاد من خلال تأكيد الشارع المقدس على ذلك، سواء في الآيات القرآنية أم النصوص المعصومية، قال تعالى:- (ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً)[3]. وقال سبحانه:- (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)[4]، وجاء ضمن وصايا لقمان الحكيم لولده، قوله:- (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)[5].
وجاء عنه(ص) قوله: ما تواضع أحد إلا رفعه الله[6]. وقال(ص): ثلاث لا يزيد الله فيهن إلا خيراً: التواضع لا يزيد الله به إلا ارتفاعاً، وذل النفس لا يزيد به الله إلا عزاً، والتعفف لا يزيد الله به إلا غناً[7].
ومما أوصى به أمير المؤمنين(ع) عند وفاته قوله: عليك بالتواضع، فإنه من أعظم العبادة[8].
وبالجملة، فأحدى الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها عباد الرحمن، أنهم متواضعون.
وهذا يستوجب أن نتحدث شيئاً ما حول هذه الصفة، حتى يتضح لنا مدى أهميتها بحيث تعدّ شيئاً مميزاً يمتاز به هؤلاء مما أوجب استحقاقهم لهذه المكانة.
علائم التواضع:
لا يخفى أن حقيقة التواضع من الأمور الواضحة التي لا تحتاج بياناً، فإنها تلك الصفة التي يتنازل الإنسان من خلالها عن مكانته الاجتماعية، ويواسي الآخرين الذي ربما كانوا أقل منه مرتبة ومنـزلة.
ولا ريب أن لهذه الملكة والسجية علامات يمكن من خلاها تميـيز ما كان متصفاً بها حقاً وحقيقة، ومن كان يدعي الانتساب إلي ذلك بالادعاء فقط ليس إلا. ضرورة أن هناك من يدعي التواضع لكنهم ليسوا كذلك، بل هم بعيدون كل البعد عن ذلك.
إفشاء السلام:
وعلى أي حال، فأول العلامات التي يتعرف من خلالها على المتواضعين فعلاً، هي امتلاكهم لصفة إفشاء السلام، فعن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، أنه قال: من التواضع أن تسلم على من لقيت[9].
وعن الإمام أبي محمد العسكري(ع) أنه قال: من التواضع السلام على كل من تمر به[10].
والمستفاد من هذين النصين أن إفشاء السلام، علامة من علامات التواضع.
ومن الواضح أن الداعي لجعل إفشاء السلام علامة من علامات التواضع التي تكشف عنه، يعود إلى علاج شيء من الأمراض الأخلاقية المتفشية في الأوساط الاجتماعية، حيث أن كثيرين، لا يعمدون إلى إلقاء السلام إلا مع الذين يرتبطون بهم بعلاقة، ويكون بينهم وبينهم معرفة، أو يكون بينهم مصلحة، أو لهم عندهم حاجة، فهم لا يـبدأون الآخرين بالسلام قربة لله تعالى.
أما عباد الرحمن المتواضعون، فإنهم إنما يلقون التحية والسلام رغبة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وسعياً لإحراز رضاه، وهذا يشرح لنا النصوص الكثيرة التي وردت في الدعوة إلى إفشاء السلام، والحث على ذلك.
بل ربما قيل بظهور النصين السابقين وأضرابهما من النصوص أيضاً في أن علامة التواضع هي الابتداء بالسلام، فضلاً عن إفشائه، ضرورة أن في ذلك كسراً لثورة النفس واعتقادها الأفضلية، إذ أن كثيرين ينظرون للناس نظرة دونية، تستوجب أن يأتي الآخرون للسلام عليهم، ويـبتدأوهم بذلك، لا أن يـبدأوا هم الناس بالسلام.
ترك المراء والجدال:
ومن علامات التواضع التي تكشف عن وجوده عند الإنسان حقيقة، وأنه غير مدعٍ لوجود هذه الصفة عنده، تركه للجدال والمراء، فعن أبي عبد الله(ع) –في حديث-قال: التواضع…وأن تترك المراء وإن كنت محقاً[11].
أقسام التواضع:
ثم إنه يمكن تقسيم التواضع إلى قسمين:
الأول: وهو التواضع المحمود الذي دعت له النصوص الدينية، ويراد منه ترك التطاول على عباد الله سبحانه، والإزراء بهم.
الثاني: التواضع المذموم، وهو ما كان تواضع الإنسان لأجل مصلحة، كالتواضع رغبة في الدنيا، أو التواضع لكون المتواضع له غنياً أو وجيهاً أو ما شابه ذلك.
ويمكن عدّ القسم الثاني استثناءات من التواضع، وليس قسماً مستقلاً، بحيث يقال ليس للتواضع إلا قسم واحد، لكن بعض التواضع مستـثنى.
وعلى أي حال، ذكر أهل السير والسلوك عدة مصاديق للتواضع المذموم نشير إلى بعض منها:
التواضع للمتكبر:
لما كان التواضع يحمل الحب والعاطفة، فلا يصح أن يعطى ذلك للمتكبر، لأن مقابلة المتكبر بذلك تعني تأيـيداً له على تكبره وغروره، ولعل هذا يفسر لنا ما ورد من النصوص من محبوبية التكبر على المتكبر، وكون التكبر عليه عبادة، فعن رسول الله(ص) أنه قال: إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم، وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم، فإن ذلك لهم مذلة وصغار.
التواضع لأجل الجاه والثروة:
قد يحصل أن يتواضع بعض الناس للأغنياء وأهل المال، من أجل غناهم وثروتهم، ومن الواضح أن هذا قد أساء الظن بالله، إذ جعل تواضعه لهؤلاء سبيلاً لاستفادته منهم، وتحصيل العطاء، ولم يتوكل على الله سبحانه في تحصيل رزقه وعطاه.
وقد ذم أهل البيت(ع) هذا التواضع، فعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: من أتى غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه[12].
التواضع للمتجاهر بالفسق:
إما بتركه الصلاة مثلاً، أو بتركه واجباً من الواجبات الشرعية متجاهراً بذلك، أو بارتكابه لمحرم من المحرمات وكبيرة من الكبائر، متجاهراً بذلك، فإن التواضع لجميع هؤلاء في غير محله، لما ذكرناه قبل قليل في الحديث عن التواضع للمتكبر، إذ أشرنا هناك أن في التواضع نوع تأيـيد للمتواضع له، ولا ريب في أن المتجاهر بالفسق، أو المرتكب للحرام متى ما وجد المؤمنين يتواضعون له، أعتقد أن ذلك تأيـيداً له في طغيانه وفسقه، وتشجيعاً له على الاستمرار، فيستمر على ما هو عليه، بل ربما زاد ، بخلاف ما لو قوبل بالمقاطعة الاجتماعية ابتداءً من ترك التواضع له، فإنه ربما كان باعثاً له على مراجعة نفسه، ودراسة حاله فيتراجع عما هو عليه من المعصية، ويشهد لما ذكرنا النصوص التي وردت في النهي حتى من السلام عليه.
عدم نشر الفساد:
ثم إنه ينبغي أن نشير إلى أن هناك احتمالاً آخر ذكرهم بعضهم في بيان هذه الصفة، وأن المراد منها ليس التواضع، وإنما المراد منها عدم نشر الفساد في المجتمع[13].
ولا يخفى أن هذا المعنى ينسجم مع كلا المعنيـين اللذين ذكرناهما في تفسير الآية، أعني سواء بنينا على ما ذهب إليه جمهور المفسرين، أم بنينا على ما أختاره السيد الطباطبائي(ره).
بل الظاهر أن هذا التفسير لا يتنافى وتفسير الآية الشريفة بالتواضع، ضرورة أن التواضع من أجلى المصاديق التي تنسجم مع عدم نشر الفساد، لما عرفت قبل قليل من أن التواضع من الصفات الحسنة، ومكارم الأخلاق.
والإنصاف حسن هذا التفسير، خصوصاً بعدما كان شاملاً لتفسير الآية الشريفة بالتواضع، لكن الذي يمنع من قبوله أنه لا يوجد في البين ما يشهد ويساعد عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور.
منهجية التعامل مع السفهاء والحمقى:
ثم تعرضت الآية الشريفة إلى الصفة الثانية من الصفات التي يتحلى بها عباد الرحمن، وهي كيفية التعامل مع السفهاء والحمقى، ضرورة أنه دائماً ما يـبتلى الرساليون والصلحاء بمجموعة من السفهاء والحمقى، يعمدون إلى الإساءة إليهم، ولهم في ذلك أساليب متعددة، فتارة يكون ذلك من كيل التهم والأباطيل عليهم، وثانية يكون ذلك من خلال إيذائهم في أنفسهم أو أهليهم، أو من يلوذ بهم، وثالثة، يعمدون إلى الإساءة إليهم، برسم صورة سيئة عنهم في الأوساط الاجتماعية، أو السعي إلى تشويه صورتهم، ومحاولة إبرازها بصورة سلبية، وهكذا.
كيف نستوعب اتهامات الآخرين:
في الآية الشريفة المنهجية التي ينبغي إتباعها عندما تتوزع الاتهامات من الجهلاء والسفهاء إلى الصالحين والرساليـين من أبناء المجتمع، وهي قول سلام.
ولا يخفى أن التعبير بكلمة سلام، لا تنحصر في خصوص قول هذه الكلمة، بل الظاهر-والله أعلم-أنها تشير إلى الطريقة المتبعة، فيعمد المؤمن إلى مقابلة الإساءة الواقعة عليه بإحسان، فلا يقابل الإساءة بنفس الإساءة، لأن ذلك مدعاة إلى تحول المجتمع إلى مجتمع سباب وشتم، ومن ثمّ ينهار وتتداعى أركانه. فالطريقة المثلى على هذا في مقابلة الإساءة هي اتخاذ منهجية السلام المشار إليها في الآية.
ومن جميل ما ينقل في هذه الآية الشريفة ما جرى بين المأمون العباسي وأحد أعمامه، وهو إبراهيم بن شكلة، أخو الرشيد، فقد كان مغنياً معروفاً يعيش في بيئة معروفة من الخمر والجواري والمفاسد، فلما بايعوا الإمام الرضا(ع) بولاية العهد، ورفض العباسيون ذلك جاءوا بإبراهيم هذا لكونه عباسياً وبايعوه خليفة.
وعلى أي حال، دخل هذا يوماً على المأمون بعدما استرد الخلافة، فقال له: أنتم تقولون أن علياً سيد الفصحاء والبلغاء، فقال المأمون: نعم هو كذلك، فقال إبراهيم: لقد رأيته في المنام فحاولت أن أحاجه، فكلما حاولت ذلك لم يجبني إلا بقوله سلاماً.
فقال المأمون: والله لقد أجابك بأبلغ الجواب. قال: كيف؟ قال: أما تقرأ قوله تعالى:- (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) فهذا أبلغ جواب، فقد اعتبرك جاهلاً لا تستحق أن يجيـبك.
وكذا لو كانت الإساءة والإيذاء في النفس أو في الأهل كما كان يصنع مشركو مكة مع النبي الأكرم محمد(ص) من خلال وضع الأشواك والأوساخ والقاذورات في طريقه، ومع أن النبي(ص) كان قادراً على الدعوة عليهم وإنزال العذاب، إلا أنه(ص) قابل تلك الإساءة لشخصه الكريم، بالإحسان وبمنهجية السلام التي تشير إليها الآية الشريفة.
ومن خلال ما ذكرنا يتضح أيضاً أن هذه الطريقة هي الطريقة المثلى في مقابلة الإساءة من النوع الثالث، بل كل إساءة كانت ما تكون.
——————————————————————————–
[1] سورة الفرقان الآية رقم
[2] سورة الإسراء الآية رقم 1.
[3] سورة الإسراء الآية رقم 37.
[4] سورة الشعراء الآية رقم 215.
[5] سورة لقمان الآيتان رقم 18-19.
[6] بحار الأنوار ج 72 ص 120.
[7] المصدر السابق ص 123.
[8] المصدر السابق ص 119.
[9] أصول الكافي ج 2 ص 646 ح 12.
[10] تحف العقول ص 366.
[11] بحار الأنوار ج 72 ص 123.
[12] نهج البلاغة الحكمة رقم 219.
[13] تفسير الكبير ج ص