حقوق الإنسان بين الشرع والوضع

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
102
0

من كلام للإمام زين العابدين(ع): اعلم أن لله عز وجل عليك حقوقاً محيطة بك في كل حركة تحرّكتها أو سكنة سكنـتها، أو حال حلتها، أو منـزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرّفت فيها، فأكبر حقوق الله تبارك وتعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق، ثم ما أوجب الله عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك، فجعل للسانك عليك حقاً، ولسمعك عليك حقاً، ولبصرك عليك حقاً، وليدك عليك حقاً، ولرجلك عليك حقاً، ولبطنك عليك حقاً، ولفرجك عليك حقاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال، ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقاً، فجعل لصلاتك عليك حقاً، ولصومك عليك حقاً، ولصدقتك عليك حقاً، ولهديك عليك حقاً، ولأفعالك عليك حقاً.

ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، فأوجبها عليك، حقوق أئمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك، فهذه حقوق تتشعب منها حقوق.

مدخل:

عندما يذكر الإمام زين العابدين(ع) يذكر التراث الذي تركه للأمة، والذي عمد من خلاله إلى تربية الأمة والقيام بإصلاح وضعها في جوانبه المتعددة، إذ من المعلوم أنه(ع) قد انتهج منهجاً يغاير المنهج الذي اتبعه والده الإمام الحسين(ع)، فهو لم يقم بثورة السيف، وإنما قام بثورة الفكر، فعمد إلى إصلاح وضع الأمة من خلال ثورة فكرية، سعى فيها إلى تربية الأمة، تربية فكرية، فكان ذلك هو السبيل لإصلاح شأنها، وتغيـير الوضع المتأزم الذي كانت تعيشه، فحول حالة موت الضمير، وفقدان الوعي بالمسؤولية، والإحساس بالبعد الديني، إلى واقع معاش، ومطلوب، من خلال ما عمد فيه إلى تعليم الأمة عليه.

وقد نجم عن ذلك ترك تراث ضخم، تستفيد منه الأمة، إلى قيام الساعة، وهو يمثل الخط التكاملي الذي ينبغي للإنسان المؤمن الاستفادة منه.

وعلى رأس ذلك التراث الضخم، والزاخر بالروح الإيمانية، والتربوية رسالة الحقوق.

حقوق الإنسان:

وقد عالج الإمام(ع) في هذه الرسالة، مسألة حقوق الإنسان، بما يرتبط به من حيث علاقته مع الله سبحانه، وعلاقة الإنسان مع نفسه وجوارحه، وعلاقة الإنسان مع الآخرين.

هذا ولا يخفى أن من القضايا التي شغلت فكر الباحثين والكتاب من قرون عديدة، مسألة حقوق الإنسان، حيث تمت دراستها بأساليب مخـتلفة ومن جهات متعددة.

وقد تناولتها مدارس فكرية، كل بحسب مرأياته للموضوع، فدرستها المدرسة الليبرالية، والمدرسة الماركسية، وكذا المدرسة الإسلامية، وهناك أطروحة المدرسة الإسلامية.

المجتمع والفرد:

هذا ولكي يتضح الفرق بين المدارس الفكرية الثلاث التي أشرنا لها، نحتاج بداية إلى تمهيد نتعرض فيه إلى بيان أن الأصل هل هو الفرد أم المجتمع، أم هما معاً؟…

هناك احتمالات ثلاثة:

الأول: أن يكون الفرد هو الأصل، وأن جميع ما هو موجود في هذا العالم مخلوق من أجله، فهو غاية، ينبغي أن تكون جميع الحقوق منصبة في مصلحته، وعلى هذا سوف يكون هو محور جميع الحقوق. وقد تبنت هذه الرأي المدرسة الليبرالية.

وتـتلخص حقوق الإنسان في هذه المدرسة الفكرية، ضمن الحريات الأربع[1] التي تطرحها، وهي:

الحرية السياسية: بحيث يكون لكل فرد من الأفراد كلاماً مسموعاً، ورأياً محترماً في تقرير مصير الأمة، ووضع خططها، ورسم قوانينها.

الحرية الاقتصادية: بحيث يفتح مجال التملك الحر أمام المواطن، فيـباح له التملك للاستهلاك وللإنتاج معاً، ولا يقيد حد الإنتاج أو التملك بالنسبة إليه. بل لكل فرد مطلق الحرية في إنتاج أي أسلوب، وسلوك أي طريق لكسب الثروة، وتضخيمها ومضاعفتها على ضوء مصالحه الشخصية ومنافعه.

الحرية الفكرية: وهي تعني أن يعيش الناس أحراراً في معتقداتهم وأفكارهم، فكل يعتقد حسب ما يصل له اجتهاده، أو ما توحيه مشتهياته، وهواه، من دون تدخل من أحد.

الحرية الشخصية: وهي التي تشير إلى تحرر الإنسان في سلوكه الخاص من أي ضغط، أو تحديد يمارس عليه، إذ هو يملك إرادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصة.

فالفرد إذاً وفقاً لهذه المدرسة يعدّ هو الأصيل.

الثاني: أن يكون الأصل، هو المجتمع، وليس الفرد، لأن الإنسان لم يخلق ليكون بمعزل عن بقية الأفراد، إذ لو كان كذلك، لكان مثله مثل الحيوان، بل خلق ليكون في ضمن نطاق المجتمع، وهذا يعني أنه قد اكتسب إنسانيته من خلال قيامه بالحضارة، لا من خلال أنه إنسان. ومقتضى ثبوت هذا العنصر الإنساني عنده، أن لا يعيش حياة الأنانية المتمثلة في الحرية المطلقة بالصورة المذكورة في المدرسة الليبرالية الرأسمالية.

وعلى أي حال، يـبتني قول هذه المدرسة على إلغاء ملكية الفرد، وتحويل الملكية كلها للجميع، بحيث تكون بيد الدولة، وقد علل الداعي لهذه الأطروحة السعي لإلغاء الطبقية المتصورة في المجتمعات، لأن إباحة التملك الفردي سبب إلى وجود طبقة كادحة وطبقة غنية، فمن أجل عدم ضياع حق الطبقة الكادحة، تكون الملكية للمجموع، وليست لخصوص فئة واحدة.

الثالث: أن يكون الأصل كلا الأمرين، الفرد والمجتمع، وينشأ الداعي لمثل هذا الطرح بداية من وجود الخلل في كلا الرأيـين السابقين.

وعلى هذا سوف يلتـزم بوجود مستقل للفرد، كما يلتـزم بوجوده ضمن المجموعة التي تمثل المجتمع، ويتحقق ذلك من خلال اندماج الأفراد مع بعضهم البعض بما يحمله كل واحد منهم من مجموعة من المواهب الفطرية، والثروة المكتسبة من الطبيعة، وبعدما يندمجون مع بعضهم البعض، تـتكون عندها الجماعة.

وعلى هذا يتضح أن تأسيس المجتمع متوقف على وجود الأفراد إذ لا يتصور وجوده ما لم يكن هناك أفراد.

وهذا هو ما تؤكده الآيات القرآنية الشريفة، إذ أنها تشير إلى أصالة الفرد والمجتمع معاً، إذ يستفاد من جملة من الآيات الشريفة أن للأمة مصيراً مشتركاً، وصحيفة أعمال مشتركة، كما يرى أن لها إدراكاً وشعوراً، وعملاً وإطاعة وعصياناً، فلاحظ قوله تعالى:- (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)[2].

وقال سبحانه:- (كل أمة تدعى إلى كتابها)[3]، وقال عز من قائل:- (زينّا لكل أمة عملهم)[4].

بل نجد أن القرآن الكريم قد أشار إلى أن هناك وظائف خاصة للمجتمع، قال تعالى:- (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[5].

ولا يخفى أنه وفقاً لهذه المدارس الثلاث سوف تخـتلف الحقوق بالنسبة للأفراد، إذ أن المدرسة الليـبرالية، لن تهتم إلا بالفرد، وبالتالي سوف تكون الحقوق منصبة على مصالحه الشخصية، وإن أدى ذلك إلى ضياع القيم والأخلاق، حيث أنها هذه المدرسة ترى الحرية المطلقة في الملكية، بل تعدّ الملكية الفردية أقدس شيء عندها، فيـباح وفقاً لها كل عمل من أجل تحصيل المال، ولو كان على حساب القيم، والدين، والأخلاق وغير ذلك.

أما المدرسة الماركسية، فإنها تسخر الفرد وتجعله آلة تعمل من أجل المصلحة العامة، ولو كان ذلك على حساب نفسه، وضياع حقوقه.

وهذا كله بخلاف المدرسة الإسلامية، فإنها تحفظ للأمرين حقهما، إذ قد عرفت أنها ترى أصالة الفرد، كما ترى أصالة المجتمع، وهذا يعني ثبوت الحق لكل منهما.

فالمدرسة الإسلامية ترى أهمية تربية الفرد، وتهذيـبه، وذلك لكونه العنصر الأساس في بناء المجتمع الناجح، وهذا يعني أن غاية المدرسة الإسلامية هي بناء مجتمع مثالي قائم على القيم والأخلاق، وحفظ الحقوق لكافة الأفراد.

مصدر الحقوق:

من خلال ما قدمنا يتضح أن المدارس الثلاث تخـتلف في مصدر الحقوق والمثبت لها في الخارج، إذ أن المدرسة الليبرالية ترى أن المصدر للحقوق هو الطبيعة، لأنها الأصل الموجد للإنسان، بينما ترى المدرسة الماركسية أن الأصل في ذلك يعود للمجتمع، رغبة منها في المساواة بين أفراده.

أما المدرسة الإسلامية، فإنها لما كانت تنطلق من عقيدة التوحيد، وأنها المرتكز الأساس عندها، فهذا يعني أن المصدر الأساس لهذه الحقوق هو الله سبحانه وتعالى.

ومتى جعلنا المرجعية لله سبحانه وتعالى، فذلك يعني أن الإنسان يعترف للباري سبحانه وتعالى بكونه مملوكاً له وعبداً مخلوقاً لا يملك من أمر نفسه شيئاً.

ومتى كانت المرجعية لله سبحانه وتعالى، وأنه المصدر للحقوق، فذلك يعني أنه لابد وأن تنسجم هذه الحقوق مع هذه العقيدة، لأن الإنسان مخلوق من أجل الكمال.

من يضمن الحق:

بعد التعرف على المدارس الفكرية في الحقوق، يطرح سؤال مؤداه: من الذي يضمن الحقوق، إذ لا ريب في وجوده، فمن هو الذي يقوم بحفظها؟…

أما القوانين الوضعية، فإنها أقرت أن الضامن للحقوق، هي الدول، أو القانون الدولي، فهما المسؤلان عن ضمان الحقوق.

ولا يخفى أن هذا من المشاكل الكبيرة جداً، إذ إننا نجد كل يوم كيف يتعدى على حقوق الأفراد، سواء من الدول، خصوصاً الدول المستبدة، أو الديكتاتورية. فضلاً عن القانون الدولي، إذ أن المحاباة موجودة، كما أن هناك قوة فوق هذا القانون تمنعه من التطبيق.

أما في الإسلام، فإن الضامن هو الله سبحانه وتعالى، ويتم ذلك من خلال تقسيم التكاليف الشرعية الإلزامية في جانب الفعل إلى واجبات شرعية، وواجبات أخلاقية، يثاب على الأول منها، ويعاقب على تركه، أما الثاني، فإن فعله كان ذلك طريق للثواب له، ولا يعقاب على تركه إياه.

مع رسالة الحقوق:

وهذا المعنى نراه واضحاً في رسالة الحقوق، إذ نجد أن الإمام(ع) قد عمد إلى تقسيم الأمور وفقاً لهذه الأطروحة، فجعل أموراً مرتبطاً بالجانب الشرعي، فيثاب على الفعل، ويعاقب على الترك، وذكر جملة من الأمور تمثل آداباً متى فعلها الإنسان كان ذلك سبيلاً لنيله الثواب، ومتى تركها لم يضره شيء، إلا فقدانه الثواب.

وعلى أي حال، يمكن تقسيم الحقوق التي تضمنتها رسالة الحقوق إلى ثلاثة أقسام:

الأول: حق الإنسان في بلوغ التكامل، وذلك من خلال طاعته لخالقه، وعبادته إياه، وفعله لأوامره، واجتنابه نواهيه.

الثاني: حق الوجود، من أصل الحياة، وما يستتبعها من المأكل والمشرب، ابتداء من تكون الإنسان جنيناً في بطن أمه، ومروراً بما بعد الولادة من حق النفقة والحضانة، وحتى يصبح رجلاً يحتاج جملة من الأمور التي تحفظ وجوده، وحياته.

الثالث: حقوق الآخرين، سواء الحقوق الاجتماعية، أم الحقوق التبادلية، أو حق التعايش.

بين رسالة الحقوق والحقوق الوضعية:

هذا وما ينبغي الإشارة له في البين التميز الذي تمتاز به رسالة الحقوق على الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان التي تعلن ما بين فترة وأخرى، حيث نجد أن تلك الإعلانات تركز بشكل أساسي على الجانب المادي للإنسان من دون إشارة من قريب أو بعيد للجانب المعنوي، وهذا بخلاف ما تحفل به رسالة الحقوق من تربية البعد المعنوي عند الإنسان والتركيز عليه، وهي بهذا تشير إلى مبدأ الإسلام في الحقوق المنطلق من خلال كرامة الإنسان، وسموه الروحي، وهذا لا يعني أنها أغفلت الجانب المادي، بل قد عمدت إلى معالجته، كما عالجت الجانب المعنوي أيضاً.

كما أن الإعلانات العالمية أفتقرت إلى الشمولية والاستيعاب بالنسبة لمبادئ الحياة العامة، فلم تـتعرض لبيان حقوق الآباء على الأبناء، أو العكس، كما لم تذكر الحقوق الزوجية، أو الحقوق الاجتماعية، من حق الجوار، وصلة الأرحام، وما شابه ذلك.

وهذا بخلاف رسالة الحقوق التي تضمنت الإشارة إلى ذلك كله، بل تعرضت أيضاً إلى حقوق الاكتساب من تجارة وما شابه، وحقوق الجوارح، وغير ذلك.

——————————————————————————–

[1] المدرسة الإسلامية ص 37.

[2] سورة الأعراف الآية رقم 34.

[3] سورة الجاثية الآية رقم 28.

[4] سورة الأنعام الآية رقم 108.

[5] سورة آل عمران الآية رقم 104.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة