لازلنا نعيش في رحاب علي(ع)وفي شهر الله تعالى الذي مضى فيه علي،وأيتم الأمة برحيله.
وكنا نتحدث في الحديث عن استخلاف النبي(ص)إياه على المدينة المنورة،وذكرنا بعض الأمور المتعلقة بذلك،ولا زال لدينا بعضاً آخر نتحدث عنه في هذا الموضوع.
اخلفني في أهلي،المسؤولية الدينية:
ولو سألنا سائل:ماذا تحمل جملة:اخلفني في أهلي،هل هي تعني فكرة أمر من أوامر الخلافة أو النيابة،أو تعني فكرة المشابهة والمناظرة بين النائب والأصيل،أو أنها تعني فكرة تحمل المسؤولية الدينية والأخلاقية في إدارة الأمة؟…
النيابة وأقسامها:
حتى نستطيع الإجابة على هذا السؤال نحتاج إلى تقسيم النيابة أو الخلافة إلى ثلاثة أقسام:
الأول:الانتداب،وهو يحمل فكرة المندوب الذي يمنح تفويضاً أو يستلم أوامر من المنـتدِب وينفذها حرفاً بحرف،وهي فكرة قضائية قانونية بالدرجة الأولى،فالقاضي ينـتدب من يراه صالحاً لحل الخصومات بين أفراد في قضية معينة.
وقد انـتدب رسول الله(ص)علياً عند فتح مكة وأرسله على بني جذيمة بن عامر ليوادّهم على ما فعله خالد بن الوليد من قتل.
ومن الواضح أن جملة:اخلفني في أهلي وأهلك،لا تعطي معنى تلك المهمة المحدودة الخاصة بطرف معين وظرف مقيد.
الثاني:المناظرة والمشابهة،وهذه تحمل فكرة أن الخلافة جاءت بسبب النسب والعلاقة الرحمية بينهما،فالملك مثلاً يستخلف ابنه على المملكة،وقد يقال أن علياً،ابن عم الرسول(ص)وزوج ابنـته فاطمة(ع)ولذلك منحه شرف الخلافة على المدينة خلال غزوة تبوك.
وهذا الأمر إذا كان سليماً على المستوى الأسري،فإنه لا يصح على المستوى
الاجتماعي،ذلك أن إدارة المجتمع تحتاج إلى مؤهلات ولياقات غير متوفرة حتى في أعمام رسول الله(ص)كحمزة والعباس فضلاً عن أبناء عمه جعفر وعقيل،ولذلك فهو(ص)لم يكلفهم في حياته بما كلف به علياً(ع).
الثالث:المسؤولية الدينية:وتعني هنا أن الخلافة أو النيابة كانت تمثل إرادة الدين في إدارة مجتمع دار الإسلام،فما يريده الدين هو إرادة الشريعة والملاكات التي تمثله أحكامها.
وليس هناك أدنى شك بأن رؤية الدين تجاه الذين تنـتخبهم السماء يتطابق مع رؤيته لملاكات الأحكام ومقتضياتها.
ولذلك كان علياً(ع)في نظر السماء حارساً لأحكام الشريعة وملاكاتها في غياب النبي(ص)،وهذا المعنى مطابق تماماً لفكرة:اخلفني في أهلي.
ومما لا شك فيه أن المسلم الذي يعيش في المدينة ذلك الوقت كان يطمئن عندما يعلم بوجود من يقوم مقام الرسول(ص)في الإدارة الدينية والاجتماعية،فكان الإمام علي(ع)مرآة الشريعة عند غياب رسول الله(ص)عن الساحة.
ذلك أن غياب رسول الله(ص)دون وجود نائب ينوبه في عاصمة الإسلام يعني إحداث فجوة كبيرة بين المسلمين وقيادتهم الشرعية.
والنـتيجة التي نصل إليها كجواب عن السؤال الذي طرحناه في بداية الحديث هو أن فكرة:اخلفني في أهلي،تعني تحمل المسؤولية الدينية والأخلاقية في إدارة الأمة الإسلامية خلال فترة غياب رسول الله(ص).
المسؤولية الأخلاقية في الخلافة:
وفي ضوء تلك القاعدة نؤمن بأن المسؤولية الأخلاقية في خلافة المدينة خلال غزوة تبوك كانت على طرفين:
1-الإلزام الأخلاقي تجاه الله عز وجل ورسوله(ص)والدين،وهو إلزام نشأ معه علي(ع)وتربى عليه،وهو في أحضان رسول الله(ص)صبياً وتلك مسؤولية مستقلة تعلمها علي(ع)من النبي(ص).
2-الإلزام الأخلاقي تجاه المجتمع عموماً والطبقة المحرومة بالخصوص كالقاصرين والعاجزين والفقراء،وتلك مسؤولية دينية تابعة لطبيعة المجتمع وظروفه وشروط معيشته.
اخلفني في أهلي،خلافة على الدولة الإسلامية وأفرادها:
هذا ويستدعي الحديث عن الخلافة على المدينة خلال غزوة تبوك التعرض بإيجاز لوضع النظام الاجتماعي والسياسي الذي خُلف على إدارته،ووضع الأفراد الذين خُلف على تأمين شؤونهم.
وضع الدولة التي خُلف(ع)على إدارتها:
وهو وضع جغرافي سكاني خاص،فقد كانت المدينة قبل الإسلام مقسمة بشرياً إلى ثلاثة أقسام:
1-الأوس.
2-الخزرج.
3-اليهود.
وبعد الإسلام ضمت المدينة بين جنابتها مجموعة من الناس،وهم بشكل رئيسي:
1-المسلمون المؤمنون من مهاجرين وأنصار.
2-المنافقون.
3-اليهود.
هذا وبالنسبة إلى المؤسسات الخاصة التي كانت موجودة في غزوة تبوك،فيمكن ترتيـبها كالتالي:
1-بيت المال،وهو من أهم المؤسسات التي كان يرعاها رسول(ص)وخليفته(ع)لأنها كانت توزع الحقوق على الفقراء من صدقات وأخماس وزكوات واجبة أو مندوبة،وكانت توزع الغنائم على المقاتلين.
2-السوق التجاري،حيث كانت تعرض فيه المواد الغذائية من طعام ذلك الزمان كالقمح والشعير والتمر والزبيب،والأنعام كالغنم والبقر والجمال والأقمشة المنسوجة بالطريقة البدائية،والصناعات الخزفية والصناعات اليدوية المعمولة بخوص النخيل.
وقد كان السوق يمثل الشريان الحيوي للناس في المدينة لأنه كان يزودهم بما يحتاجونه من أمور معاشية في حياتهم الاجتماعية.
3-الجيش:حيث كان الناس ينفقون على مؤسستهم العسكرية ثم يسترجعونه بما يحصلون عليه من غنائم.
ولذلك كان الفقراء غير قادرين على الخروج لأنهم لا يملكون عدة ما يخرجون به ويحاربون فيه كالراحلة أو السيف أو الزاد،وقد ذهب الجيش خلال خلافته(ع)المؤقتة إلى تبوك بقيادة الرسول الأكرم(ص).
4-المسجد:وهو دار الدولة ومركزها وفيه تـتم الخطط الحربية والتبليغية،ويتم فيه تعليم القرآن والأحكام الشرعية،وتقام فيه العبادات من صلاة الجمعة والجماعة والعيدين،ويضم المسجد عدة مؤسسات اجتماعية:
منها:نظام الإدارة وتوزيع الحقوق.
ومنها:النظام التعليمي.
ومنها:النظام القضائي.
ومنها:الضمان الاجتماعي.
ومنها:الإدارة العسكرية.
5-القضاء:وهي المؤسسة التي تهتم بحل النـزاعات بين المتخاصمين من الأفراد على صعيد الحقوق والملكية.
6-الزراعة والصناعة:وكانت المدينة تشتهر بالزراعة والصناعة،وتلك تدّر وارداً على الدولة فيما يتعلق بالخراج والزكاة وتسد حاجة الناس للمواد
الغذائية والمصنوعات الخاصة بالمنازل.
ومن الواضح أن تلك المؤسسات التي تركها رسول الله(ص)في أطول غزوة له بلغت مدتها عدة اشهر كانت بحاجة إلى إدارة اجتماعية وتنظيم ديني للأولويات.
وإدارة الدولة بإطارها الخارجي يحتاج إلى كفاءة إدارية ودينية كان يملكها الإمام(ع)دون بقية المسلمين،ولذلك كانت خلافة الإمام(ع)على مجتمع مؤسسات لا مجتمع أفراد.
وضع الأفراد الذين خُلف على إدراتهم:
ومما ينبغي الالتفات إليه ن الإمام(ع)كان يولي الإلزامات الدينية كالقضايا التعبدية وإشباع الفقراء أولوية على النشاطات الثانوية كحضور منـتدياتهم واجتماعاتهم ونحوها.
فكان(ع)يقدم الواجبات الأخلاقية التي جاء بها الدين مثل رعاية اليتيم وإشباع المسكين والاهتمام بالرعية على الكماليات التي احبها الناس كطيب الطعام،والبرودة في وسط هجير الصيف،والتحلل من المسؤوليات الاجتماعية ونحوها.
ودراسة اجتماعية للشرائح التي بقيت في المدينة خلال غزوة تبوك تكشف لنا التركيبة السكانية لعاصمة الإسلام في تلك الفترة الزمنية الحساسة.
المنافقون:
الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام ولكنهم كانوا يضمرون العداء والمكيدة ولا يخرجون مع رسول الله(ص)في حروبه،وفي مقدمتهم رأس النفاق عبد الله بن أبيّ بن سلول.
وهؤلاء كانوا يحبون الراحة والدعة والأجواء المسترخية على الجد والجهاد،فكانوا بحاجة إلى قائد ديني زاهد متعفف يذكرهم الله سبحانه وتعالى دوماً،فإدارة هذا النمط من الأفراد يحتاج إلى زهد وإيمان وقوة ويقين كما يحتاج إلى كفاءة إدارية صارمة.
المسلمون المؤمنون:
من فقراء الرجال،وقد بقي هؤلاء في المدينة لأنهم لم يتمكنوا من تحصيل عدة السفر والجهاد.
والقاصرون من نساء والذراري،من عوائل المقاتلين الذين ذهبوا إلى تبوك مع رسول الله(ص)،والعاجزون عن القتال لأسباب صحية وجسمية كالمرض وكبر السن،وكان هؤلاء بحاجة إلى قائد ديني ينظر في حاجاتهم الشرعية والمعاشية.
وإدارة تلك الشريحة من الناس تحتاج إلى علم ودين وتقوى واحساس بالعدالة ودوافع عملية لتطبيقها.
أهل الذمة:
من يهود ونصارى،وهؤلاء بحاجة إلى مدير يدير أمورهم الاجتماعية ويستلم جزيتهم لوضعها في بيت المال.
بقية الأفراد:
الذين كانوا يأتون إلى المدينة،كالأعراب من البوادي لشراء مستلزمات معيشتهم وبيع الفاضل من دوابهم والتجار الذين كانوا يمرون بالمدينة وهم في طريقهم إلى العراق أو الشام أو اليمن،ومجموعة من المحاربين مع الإمام(ع)لحماية المدينة وأهلها من هجوم الأعداء.
ولا شك أن ذلك الاستخلاف على المدينة كان تجربة فريدة للإمام(ع)في الإدارة الاجتماعية،خصوصاً أنه كان متوقعاً للنبي(ص)أن يرجع ويرى عمل علي(ع)خلال غيابه،وكان إمضاؤه(ص)لإدارة علي(ع)شهادة عظمى على كفاءته(ع)وقدرته على تنظيم أمور المجتمع الإسلامي بعد رحيله(ص)أيضاً.
وهنا جمع علي(ع)بكل كفاءة بين طرفي الإدارة الدينية للمجتمع،وبالخصوص فيما يتعلق بالحقوق والواجبات والتعبديات