النبي الأمي

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
163
0

قال تعالى:- (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)[1].

مدخل:

تعتبر هذه الآية من أبرز الآيات القرآنية المتعرضة لحقانية دعوة النبي الأكرم محمد(ص)،حيث تضمنت عدة أدلة على صحة دعوته،وأنه رسول مبعوث من قبل الله سبحانه وتعالى.

ولم ترد هذه الأدلة التي تضمنتها هذه الآية مجتمعة كلها في آية واحدة، في غير هذه الآية من الآيات القرآنية.

وعلى أي حال فقد تضمنت هذه الآية سبع صفات،بل عشر تصلح كل واحدة منها أن تكون دليلاً على صحة الدعوة وصدقها فهو رسول،ونبي،وأمي،وقد ورد ذكره في التوراة والإنجيل،ويأمر بالمعروف،وينهى عن المنكر،ويحل الطيبات،ويحرم الخبائث،ويضع الإصر،ويضع الأغلال التي كانت على الأمة.

فهذه الدعوة التي جاء بها تنسجم مع العقل انسجاماً كاملاً،من خلال ما تضمنته من أمور يحسنها العقل،ويرى قبح ما هو مخالف لها.

النبي والرسول:

هذا وقد تضمنت الآية الشريفة تعبيري النبي والرسول،فوصفت المصطفى محمد(ص)بهما،فهو نبي ورسول.

وهذا يسترعي الانتباه،فنحتاج إلى بيان معنى كل منهما،ثم توضيح هل أنه يوجد فارق بينهما أو لا،فنقول ومنه تعالى التوفيق:

النبي:هو الذي ينبئ لكنه لا يعتبر فيه أن يرسل للملأ،بمعنى أنه يمكن أن تكون نبوته مقصورة عليه،فلا يؤمر بتبليغ رسالة للناس،فإن أمر صار رسولاً.

وأما الرسول:فهو المبعوث من قبل الله سبحانه وتعالى لهداية الإنسان وتكميله.

ويمكن التفريق بينهما من جهات:

الأولى:أن كل رسول نبي ،وليس كل نبي رسول.

الثانية:إن طريقة الإفاضة والوحي تختلف عند كل منهما،فإن الرسول يوحى إليه من الله تعالى بغير واسطة بشر،كما أنه له القدرة على رؤية الملك.

الثالثة:أن الرسول قد يكون من الملائكة،كما يمكن أن يكون من البشر،بخلاف النبي فإنه لا يكون إلا من البشر.

هذا وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة وعشرون ألفاً،وأما عدد المرسلين منهم فثلاثمائة وثلاثة عشر فقط.

والرسالة فضيلة إلهية وسفارة ربانية تشتمل على جميع الخيرات والفضائل،وهي ترجع إلى كمال الإنسان غير المحدود بحد،المؤيد بعالم الغيب.

وللرسول شأن عظيم في ربط عالم الشهادة بعالم الغيب،وهو السفير الخاص من العالم الربوبي،اختاره الله سبحانه لتبليغ الرسالة وهداية العباد إلى ما فيه السعادة.

طبقات الأنبياء والمرسلين:

ثم إنه لما كان هناك اختلاف بين الأنبياء والمرسلين من جهة الإفاضة عليهم،وكيفية الوحي إليهم،قسموا إلى أربع طبقات:

1-نبي منبأ لا يعدو غيره،فليس مرسلاً إلى أحد،بل تختص نبوته به نفسه.

2-نبي يرى في النوم ويسمع الصوت،لكنه لا يعاين الملك في اليقظة،ولم يبعث إلى أحد،وعليه إمام.

3-رسول يرى في النوم ويسمع الصوت،ويعاين الملك،وقد أرسل إلى طائفة من الناس،لكنه ليس صاحب شريعة،بل وظيفته تبليغ شريعة النبي الذي كان قبله،ويقال له صاحب نبوة تبليغية.

وهذا النبي يكون عليه إمام،وهو الرسول الذي يقوم هو بتبليغ شريعته،كالأنبياء الذين كانوا بين موسى وعيسى فإنهم أنبياء،لكن أنبياء تبليغيـين،وفوقهم إمام.

4-رسول يرى في النوم ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام كأولي العزم الخمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد(ع).

وقد أشار لهذا المعنى ما ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع)قال:الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات:فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها،ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة،ولم يبعث إلى أحد وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط(ع)،ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد أرسل إلى طائفة قلوا أو كثروا،كيونس قال الله ليونس:- (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)قال:يزيدون:ثلاثين ألفاً،وعليه إمام،والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم وقد كان إبراهيم(ع)نبياً وليس بإمام حتى قال الله:- (إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي)فقال الله:- (لا ينال عهدي الظالمين)من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً[2].

تفاوت درجات الرسل:

ذكر القرآن تفاوت درجات المرسلين،بحيث يتفاضل بعضهم على البعض،وتوجد أمور لهذا التفاضل:

1-اختلاف الاستعدادات التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

2-الاختلاف في العلوم والأمور المفاضة عليهم من عالم الغيب.

3-الاختلاف في مراتب الانقطاع إليه عز وجل التي لا نهاية لها.

4-الاختلاف في مراتب تحمل الأذى في إبلاغ الرسالة الإلهية.

5-الاختلاف من جهة أنه صاحب شريعة فيكون رسولاً تشريعياً،أو رسولاً تبليغياً ليس له شريعة،بل يقوم بتبليغ رسالة من سبقه.

6-الاختلاف في التصرف في هذا العالم،وهم في عالم البرزخ،في كونهم واسطة الفيض والبركات التي تنـزل عليهم،ثم منهم إلى غيرهم.

7-الاختلاف في الغرض،وهو مراتب الجنان فإنهم يختلفون فيها،فبعضهم في جنة الرضا وبعضهم في جنة الرضوان.

والحاصل،لقد اجتمعت هذه الأمور وغيرها مما يذكر عادة في مثل المقام في نبينا الأكرم محمد(ص)،الذي جعله الله خاتماً لما سبق وفاتحاً لأبواب المعارف على اللاحقين وهو صاحب المعجزة الخالدة.

الأمي:

لا يختلف اثنان من المسلمين،في أن الرسول محمد(ص)كان أمياً قبل بزوغ دعوته،ولعل ذلك لمصلحة يمكن استفادتها من قوله تعالى:- (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)[3].

فلو كان(ص)قبل البعثة الشريفة تالياً للكتاب لأتهمه بسطاء الناس وشككوا في رسالته،لكن لكونه لا يقرأ ولا يكتب ويأتي بمثل هذا الكلام الذي وقف له أهل البلاغة والفصاحة موقف المعجب،يستدعي التصديق لقوله وصحة مدعاه.

وهذا لعله السر في ذكر صفة الأمية في عداد الصفات الدالة على كونه نبياً وجعلها أحد الأدلة التي يمكن من خلالها الاستدلال على صدق دعواه.

معنى الأمي:

ذكرت عدة تفاسير وأقوال من العلماء في معنى كلمة الأمي التي وصف بها رسول الله(ص)،ولنقتصر على ذكر ثلاثة منها:

1-الأمي هو المنسوب لأم القرى،وهي علم من أعلام مكة وعليه يكون الأمي هو المكي.

ويؤكد هذا التفسير ما جاء في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن جعفر بن محمد الصوفي قال:سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا(ع)فقلت:يا ابن رسول الله لم سمي النبي الأمي؟فقال:ما يقول الناس؟فقلت:يزعمون أنه سمي الأمي لأنه لا يحسن أن يكتب،فقال:كذبوا عليهم لعنة الله في ذلك،والله يقول في محكم كتابه:- (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن،والله لقد كان رسول(ص)يقرأ ويكتب باثنين وسبعين،أو قال:بثلاثة وسبعين لساناً،وإنما سمي الأمي لأنه كان من أهل مكة ومكة من أمهات القرى،وذلك قوله تعالى:- (لتنذر أم القرى ومن حولها)[4].

وهناك رواية أخرى نقلها الشيخ الصدوق(ره)أيضاً في علل الشرائع ومعاني الأخبار وهي مرفوعة علي بن أسباط إلى أبي جعفر(ع)قال:قلت:إن الناس يزعمون أن رسول الله(ص)لم يكتب ولم يقرأ،فقال:كذبوا لعنهم الله أنى يكون ذلك وقال الله عز وجل:- (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)فيكون يعلمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به؟قال:قلت:فلم سمي النبي الأمي؟قال:نسب إلى مكة وذلك قول الله عز وجل:- (ولتنذر أم القرى ومن حولها)فأم القرى مكة فقيل أمي لذلك[5].

لكن هذا التفسير والتوجيه لمعنى الأمي مردود،لأن النسبة إلى أم القرى كما هو مذكور في النحو تكون بالنسبة إلى الكلمة الثانية فيقال:قروي،لا أن النسبة تكون للكلمة الأولى،ليقال أمي.

كما أن الآية الواردة في سورة العنكبوت ترفض هذا التفسير،لكونها تصرح بأنه لم يكن(ص)قارئاً للكتاب ولا كاتباً له من قبل أن يوحى إليه،وإلا لكان ذلك سبباً في تكذيبه ورفض دعوته،قال تعال:- (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لأرتاب المبطلون)[6].

وأما بالنسبة للروايتين،فإنهما تعانيان مشكلة من ناحية السند،إذا أن الرواية الأولى تشتمل على الصوفي وهو ممن أهمله أصحاب المعاجم،ولم يتعرضوا لذكره،وأما الرواية الثانية فضعيفة السند أيضاً لكونها مرفوعة،مما يمنع عن الاستدلال بهما لثبوت الدعوى المذكورة.

وأما من ناحية الدلالة،فقد ذكرت الرواية الأولى أنه(ص)كان يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً،وهذا المعنى خلاف المتواتر من حياته(ص)إذ لو كان كذلك لذاع صيته واشتهر بين الناس،ولم يخف أمره على أحد.

نعم كون ما ذكر في الخبر من باب الإمكان والتعليق بمعنى أنه(ص)كان قادراً على القراءة والكتابة بذلك المقدار لو شاء وأراد،أمر حسن،لكنه(ص)لم يشأ فلم يقرأ ولم يكتب.

ومع ذلك فإن هذا التوجيه خلاف ظاهر الرواية إذ أن المستفاد منها أن ذلك كان بنحو الفعلية،بمعنى أنه كان يقرأ ويكتب بذلك العدد فعلاً.

ثم لو سلمنا ورفعنا اليد عن التأمل الذي ذكرناه،فإننا نجد نصوصاً أخرى تثبت أنه(ص)لم يكن يقرأ ولا يكتب وهو معنى الأمي،فقد ذكر الصدوق في العلل بسند صحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله(ع)قال:كان النبي يقرأ الكتاب ولا يكتب[7].

وذكر(ره)خبراً آخر لكنه ضعيف، عن الحسن الصيقل قال:سمعت أبا عبد الله(ع)يقول:كان مما من الله على نبيه(ص)أنه كان أمياً لا يكتب ويقرأ الكتاب[8].

وهناك روايات أخرى نقلها شيخنا المجلسي غواص بحار الأنوار في كتابه البحار فمن أراد فليراجع[9].

وهذه النصوص تدل على أنه(ص)كان أمياً قبل البعثة بمعنى أنه لا يقرأ ولا يكتب،لكنه بعد البعثة صار يقرأ ولا يكتب.

وعليه تكون هذه النصوص معارضة للنصوص الأخرى،ولقد قدم العلماء النصوص الدالة على أنه كان بعد البعثة يقرأ ويكتب على الخبرين الذين نقلناهما.

ثم إنه من المحتمل أن يكون الخبران اللذان نقلهما شيخنا الصدوق(قده)وهما يثبتان أنه(ص)كان يقرأ ويكتب بألسنة متعددة ناظرين لمرحلة ما بعد البعثة الشريفة،لا ما قبلها،ويمكننا تأكيد هذا التوجيه من خلال النصوص التي تشير إلى أنه(ص)صار قارئاً بعد البعثة الشريفة.

2-الأمي هو الذي لا يقرأ الكتب القديمة،ولا يعرف متونها،ولم ينتمِ إلى ملة أو كتاب من الكتب السماوية.

ويشهد لهذا القول أن الله تعالى وصفه بالأمية مقابل أهل الكتاب،مما يعني استظهار أن المراد منه هي الأمة العربية الجاهلة بما في زبر الأولين من التوراة والإنجيل،غير منتمية إلى دين أو ملة،فليس الأمي هو الذي لا يقدر على القراءة والكتابة.

أقول:الظاهر أن إطلاق لفظ الأميين على العرب،ليس محصوراً بكونهم لا يتمكنون من قراءة الكتب السماوية من التوراة والإنجيل،مع كونهم عارفين بلسان قومهم ولهم القابلية على القراءة والكتابة،بل الظاهر أن ذلك يعود لكونهم لا يملكون القدرة على القراءة والكتابة.

وهذا ما يشهد له التاريخ،حيث يحدثنا أن الأمية هي التي كانت سائدة في ذلك الوقت،بل يذكر غير واحد من المؤرخين أن الذين كانوا يقرؤون ويكتبون لم تكن أعدادهم تتجاوز السبعة عشر رجلاً،وكانوا معروفين بأسمائهم.

3-الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب،وهذا هو الصحيح،ويشهد له الآية التي نقلناها قبل قليل من سورة العنكبوت،وهي قوله تعالى:- (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)[10].

لأن دخول النكرة في سياق النفي تفيد انتفاء الحكم عن كل أفراد الموضوع وتعطي شمول السلب،وهنا نجد أن النفي قد دخل على النكرة وجعلها في سياقه،فيكون المراد من التلاوة المنفية،تلاوة مطلق الكتاب،كما أن المراد من الخط المنفي عنه،أي تسطير أو ترسيم لصحيفة يتصورها ذهن السامع.

وهذا هو الصحيح الذي تؤيده كلمات اللغويـين في معنى الأمي،كما يشهد له الوضع العام الذي كانت عليه الأمة التي بعث فيها النبي(ص)،مضافاً للقرآن الكريم.

ولعل هذا هو السبب في ذكر صفة الأمي في عداد الصفات والأدلة الدالة على نبوته(ص)في غير آية من القرآن الكريم،لأنه لو كان الرسول الكريم(ص)في بعض عمره تالياً للكتب،وممارساً للكتابة لساغ للسذج من الناس أن يرتابوا في رسالته وقرآنه.

أمية الرسول بعد البعثة الشريفة:

ثم إن الأمية التي كان عليها رسول الله(ص)قبل أن يبعث منقذاً للبشرية،أما بعدما أرسل لهداية الناس،فقد وقع ذلك مورداً للخلاف:

فقال جماعة من المحققين من علمائنا كالشيخ المفيد(ره) أنه تمكن بإذن من الله تعالى اسمه أن يقرأ ويكتب بعدما نـزل عليه الوحي.

وأيدوا كلامهم ببعض الأدلة،نشير لبعض منها،ونترك البقية اتكالاً على متابعة القارئ العزيز ذلك:

قال الشيخ المفيد(ره)في كتابه أوائل المقالات:

1-إن الله تعالى لما جعل نبيه(ص)جامعاً لخصال الكمال كلها،وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منـزلة بتمامها،ليصح له الكمال،ويجتمع فيه الفضل ،والكتابة فضيلة من منحها فضل،ومن حرمها نقص.

2-إن الله تعالى جعل النبي(ص)حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه،فلابد أن يعلمه الحكم في ذلك،وقد ثبت أن أمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتـثبت بها الحقوق،وتبرأ بها الذمم،وتقوم بها البينات،وتحفظ بها الديون،وتحاط بها الأنساب،وأنها فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه،وإذا صح أن الله جل اسمه قد جعل نبيه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنه كان عالماً بالكتابة،محسناً لها.

3-أن النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته،ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلفه الحكم فيه إلى سواه،وذلك منافٍ لصفاته ومضاد لحكمة باعثه،فثبت أنه(ص)كان يحسن الكتابة.

4-إن الله سبحانه يقول:- (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[11].

ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه،كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما،ولا معنى لقول من قال أن الكتاب هو القرآن خاصة،إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلا بدليل،لا سيما على قول المعتـزلة وأكثر أصحاب الحديث.

5-يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى:- (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)[12].

فنفى عنه إحسان الكتابة وخطه قبل النبوة خاصة،فأوجب إحسانه بذلك لها بعد البنوة،ولولا أن ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل،ولو كان حاله(ص)في فقد العلم بالكتابة بعد النبوة،كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده،لا يتضمن خلافه فيقول له وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذ ذاك،ولا في الحال.

ثم قال بعد ذلك:وإذا كان الأمر على ما بيناه ثبت أنه(ص)كان يحسن الكتابة بعد أن نبأه الله تعالى ما وصفناه،وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه[13].

لكن ما ذكره شيخنا المفيد(قده)يمكن أن يناقش بعدة مناقشات:

أولاً:إن كون الكتابة كمالاً إنما هو للإنسان العادي الذي ينحصر طريق اكتسابه المعارف من خلالها،فلا يوجد له طريق إلى المعارف سواها.

أما من لا يحتاجها،بأن كان له طريق آخر لدرك الحقائق ومعرفتها كما هو الحال بالنسبة لنبينا(ص)فلا تعد الكتابة له كمالاً،كما لا يعد فقدها منه نقصاً.

كيف وقد عرف(ص)حقائق الكون ودقائقه من طريق الوحي وهو أوثق الطرق وأسدها،لا يخطئ ولا يشتبه،فلا يحتاج بعد ذلك إلى أي من الطرق العادية غير المصونة عن الاشتباه والخطأ.

بل قد يقال أن بقاء أمية النبي(ص)حتى بعد البعثة فيه نوع تحقيق للغاية التي بعث من أجلها لأن كونه كذلك يوجب تصديق الناس البسطاء به وقبولهم لدعوته.

وبناء على هذا التوجيه لا معنى لما ذكره(ره)من أن الله تعالى قد جعل نبيه بحيث وصفناه من الحكم والفضل الخ…

وأما التمسك بقوله تعالى:- (ويعلمهم الكتاب والحكمة)فلا ينفع في إثبات المدعى،لأنه إذا قيل أن المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر والمتبادر إلى الذهن،فإن تلاوة آياته لا تحتاج إلى الإحاطة بالكتابة ومعرفتها،لأنه يتلقاه من خلال الوحي ثم يحفظه للناس.

أما لو قيل أن المراد من الكتاب هو الكتابة وهو وإن كان بعيداً وخلاف الظاهر،فلا يعني أنه(ص)يعلم قومه الكتابة،حيث لم يعهد ذلك منه، ولم نجد ما يشير إلى ذلك،من أنه(ص)جلس إلى أفراد وقام بتعليمهم الكتابة.

نعم الوارد أنه(ص)أمر بعضهم بتعليم بعض أولاد المسلمين الكتابة مقابل فك أسره.

وأما التمسك بقوله تعالى:- (وما كنت تلوا من قبله من كتاب)فغير مقبول لأن الغاية من ذكر القيد الوارد فيها هو إثبات أنه(ص)كان أمياً قبل نزول الوحي عليه،وهذا يساعد على صدق مقاله ودعوته فإن الأمي إذا جاء بكتاب أسكت بفصاحته فرسان البلاغة،كان شاهداً على أنه وحي إلهي.

هذا وتوجد وجوه أخرى تعرضها أعلامنا لإثبات أنه(ص)كان كاتباً بعد بعثته الشريفة،فلاحظ ما ذكره الشيخ المجلسي(قده)في كتابه البحار[14].

ومقابل هذا القول القول الآخر الذي ييدعي أنه(ص)كان بعد البعثة الشريفة قارئاً فقط لكنه لا يحسن الكتابة.

وهذا القول يمكن التمسك له ببعض الأخبار التي وردت عن طريق الأئمة(ع)التي تشير إلى أنه(ص)كان بعد البعثة الشريفة قارئاً،ولكنه لا يكتب،وقد قدمنا ذكر بعضها وأحلنا من أراد الزيادة إلى مراجعة كتاب البحار.

وهذا الوجه يكون حينئذٍ قوياً،خصوصاً وأن بعض هذه النصوص التي يتمسك بها له معتبرة من ناحية السند،ودالة بشكل واضح على أنه(ص)كان بعد البعثة الشريفة يقرأ ولا يكتب.

إلا أن يقال أن هذه النصوص لما كانت أخبار آحاد،فيصعب الاعتماد عليها في إثبات مثل هذه القضية.

وعليه يمكن القول بأنه(ص)كان باقياً على الأمية التي كان عليها قبل البعثة المباركة،والله سبحانه وتعالى العالم العاصم والهادي إلى سواء السبيل.

والحمد لله رب العالمين

——————————————————————————–

[1] سورة الأعراف الآية 157.

[2] أصول الكافي ج 1 ص 175 ح 1.

[3] سورة العنكبوت الآية رقم 48.

[4] علل الشرائع ص 53،معاني الأخبار ص 20.

[5] علل الشرائع ص 542.

[6] سورة العنكبوت الآية رقم 48.

[7] علل الشرائع ص 53.

[8] المصدر السابق ص 53.

[9] بحار الأنوار ج 16 ص 131-135.

[10] سورة العنكبوت الآية رقم 48.

[11] سورة الجمعة الآية رقم 2.

[12] سورة العنكبوت الآية رقم 48.

[13] أوائل المقالات ص 111-113.

[14] بحار الأنوار ج 16 ص 136.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة