لا خلاف بين المسلمين بجميع توجهاتهم في قبول ثورة الإمام الحسين(ع) وتأييدها وإدانة الحكم الأموي بسببها إلا أنهم اختلفوا في تفسيرها وتفسير أهدافها ومعرفة دوافعها الحقيقية اختلافاً بيناً وكبيراً جداً بحيث نرى التباين الكلي بينهم في تفسيرها إذ فسرها الأعداء بتفسير معين بينما فسرها محبو الحسين(ع)تفسيراً آخر وقد فسر من لم يؤمن بإمامة الحسين(ع) ولم يعاديه تفسيراً ثالثاً.
ولا يخفى أن كلاً من هذه التفاسير ومفسريها قد انطلق من خلال وجهة نظره واسعة أم ضيقة، ومن خلال فهمه للحياة الإنسانية ودور أبي عبد الله(ع) فيها.
ولا بأس بمحاولة استعراض بعض هذه التفسيرات والنظريات في محاولة للوصول لمعرفة التفسير الصحيح منها ليتضح التفسير الصحيح والنظرية الصحيحة التي قامت الثورة على أساسها فنقول:
التفسير الأول: إن ثورة الحسين(ع) عملية صراع قبلي:
يعتمد هذا التفسير على إرجاع الثورة الحسينية إلى كونها صراعاً قبلياً وقع بين عشيرتين أو قبيلتين قرشيتين ما فتأتا تتصارعان على السلطة والهيمنة على القيادة من قبل الإسلام وقد استمر هذا الصراع حتّى ما بعد الإسلام بين بني هاشم وبين أمية.
ولعل منشأ هذا التفسير وجذوره الأساسية تستفاد من خلال كلمات يزيد بن معاوية ودوافعه في بيانه لرأيه وتعبيره عنه بقوله:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهـلوا و استهلوا فـرحاً ثم قالـوا يا يزيد لا تشل
لـعبت هاشم بالملـك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
وقد جعل بعض المؤرخين الحاقدين على الحسين(ع) هذه الأهداف هي الحقيقة الواضحة التي يفسر من خلالها ثورة أبي الأحرار(ع) والعجب انتهاء هذا التفسير للمستشرقين فنراهم يحاولون إرغامنا على قبول مثل هذا التفسير مع أنهم يدعون في أنفسهم الحياد ليس إلا فهم لا يميلون لطرف دون آخر
ولا يذهب عليك عدم انسجام هذا التفسير مع الحقائق التأريخية إذ أن دراسة قضية الحسين(ع) من خلال مجموعة الظواهر الثابتة تأريخياً كظاهرة أصحابه(ع) مثلا كافية لمنع كون الصراع صراعا قبليا بين عشيرتين لأن أصحاب الحسين(ع) يمثلون نماذج وعينات مختلفة ومتعددة سواء من حيث الانتماء القبلي أو القومي أو من حيث الانتماء لمستوى الثقافة أو الوضع الاجتماعي بل حتّى من حيث الانتماء المذهبي.
فالصراع القبلي كيف يوحد بين جون العبد الأسود وبين حبيب بن مظاهر الأسدي سيد العشيرة العربي. كما أنها كيف توحد بين من كان عدوا للحسين(ع) بالأمس كزهير بن القين وغيره ممن انضم إلى الحسين(ع) أثناء المعركة وبين الموالين للحسين(ع) منذ اليوم الأول.
ثم لو قلنا بكون الصراع قبليا، ما هو الداعي لأن يتحول زهير بن القين عن عثمانيته وهو الخط الذي أسسه معاوية تعليلا لموقفه المعارض لعلي(ع) مع كون زهير أحد زعماء هذا الخط ا لذي يمثل القطب المعارض لخط أهل البيت(ع)يكون في صف الحسين(ع) مع كون الصراع قبليا وزهير في جانب بني أمية.
وبالجملة إن دراسة ظاهرة أصحاب الحسين(ع) كفيلة برفض هذا التفسير قطعا.
التفسير الثاني: إن غاية الحسين(ع) من الثورة كانت الوصول إلى السلطة:
ويبتني هذا التفسير على ملاحظة أمرين:
أولهما: إن الحسين(ع) لما كان إماما معصوما مفروض الطاعة قد نصبه الله عز وجل فهو أحق بالحكم من غيره.
ثانيهما: شخصية يزيد بن معاوية إذ أن أبا عبد الله(ع)وجد أن يزيد إنسان ضعيف في الحكم لا يملك القدرة السياسية التي كان يمتلكها والده بدهائه وخبرته مضافا إلى كون يزيد شخصا ماجنا متمردا على الإسلام فاسقا معلنا بالفسق متجاهراً به مما يعني أنه شخص معزول عن المجتمع الإسلامي ومرفوض من قبله.
وهذان الأمران حديا بالإمام الحسين(ع) أن يسعى إلى السلطة من أجل إقامة حكم الإسلام العادل وإرجاع الحق إلى نصابه.
فإذن الصراع بين الإمام الحسين(ع)ويزيد صراع على السلطة لكن لا من اجل الهيمنة والسيطرة فحسب كما صوره التفسير السابق وإنما هو من أجل إحقاق الحق وإقامة العدل الإلهي. نعم لم تؤات الحسين(ع) الظروف لخذلان أهل الكوفة له بعد ما أرسلو له الكتب ووعدوه بالنصرة والوقوف إلى جانبه فبقي(ع) وحيداً فريداً غريباً أدى به إلى تلك النهاية المأساوية.
وهذا التفسير قد ينسبق إلى أذهان كثيرين حتّى من محبي الحسين(ع) وشيعته إلا أن هذا التفسير مرفوض كسابقه بل لا يمكن الإيمان به لأن الذي نعتقده أن الحسين(ع)لم يكن هدفه من تلك الحركة المباركة الوصول إلى السلطة لا لأن السعي للخلافة أو الحكم الإسلامي وإقامة العدل والقسط بين الناس سعي غير مشروع أو أن الحسين(ع) لم يكن مسؤولاً عن ذلك، بل إن السعي كان واجبا إلهياً مشروعاً فالحسين وكل إنسان يسير على خطه عليه السير في هذا الطريق وأن يعمل من أجل إقامة حكومة الله وتحقيق العدل الإلهي ،و الحسين(ع) مسؤول عن هذا بطبيعة الحال إذا تحققت شروطه الموضوعية.
وكيف كان فمنشأ رفض هذه النظرية هو أنه لو كان الحسين يعلم أنه لن يصل إلى السلطة لجلس في بيته إذ لو كان يعلم بكونه يقتل وهو يطلب السلطة لما كان يخرج حينئذٍ فيجلس كما جلس أخوه الإمام الحسن(ع) وأبوهما علي(ع) بعد وفاة رسول الله(ص) . مع أن الثابت تاريخياً وهو ما تعتقده الشيعة أن الحسين(ع) كان على معرفة بالنتائج لعدم توفر الظروف الموضوعية للنجاح في تحقيق هذا الهدف الخاص ومع معرفته (ع) بذلك لا يمكن فرض أن هدفه هو الوصول إلى السلطة لان معنى ذلك أن الإمام (ع) كان يسعى وراء هدف غير واقعي ويكون عملها حينئذٍ مجرد عمل انتحاري وهذا لا ينسجم مع شخصيته(ع) وتجاربه ومع فرضية إمامته وأنه الأحق بالخلافة.
ويشهد لهذا الإشكال عدة أمور تتضح لمن راجع تأريخ حركة الحسين(ع) بشكل واضح:
منها: اتفاق العقلاء من خلص أصحاب أبي عبد الله(ع)أو غيرهم من أصحاب الرأي وممن لهم معرفة بالأوضاع السياسية في ذلك الزمان على عدم إمكان تحقق هذا الهدف للحسين(ع)فمثلا نرى عبد الله بن عباس ينصح الحسين(ع) بعدم التوجه إلى الكوفة لأن أهلها سوف يخذلونه في النهاية وكذلك كان موقف محمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر وأم سلمة وجماعة أخرى من المحبين للحسين(ع) المخلصين له.
والحاصل قد اتفق جميع هؤلاء على عدم وصول الحسين(ع) لهذا الهدف وحذروه من الموقف العام لأهل الكوفة وغيرهم من المسلمين الذين طلبوا منه القيام والنهوض لأنهم يخذلونه ويصنعوا به ما سبق وصنعوه بأبيه وأخيه سابقاً من تخاذل ونفاق وعدوان. وهذا هو ما حصل في النهاية حيث تطابقت توقعات هؤلاء مع الواقع.
وهذه الحقيقة التي وصل لها هؤلاء لا يمكن أن الحسين(ع) وهو هو من حيث المنصب والعلم والدراية لم يكن قد وصل إلى هذه النتائج وأنه ليس مدركاً لهذه الحقيقة التي توصل لها هؤلاء.
ومنها: إصرار الإمام(ع) على المضي في طريقه وموقفه بعد تدهور الوضع السياسي في الكوفة بعد مقتل سفيره مسلم بن عقيل ورسوله مسهر بن قيس الصيداوي وغيرهما ووصول أنباء بهذه الحقائق له وتقديم النصائح له ومع ذلك يصر على الاستمرار في الحركة ويترك للآخرين حرية اختيار صحبته أو تركهم له.
ومنها: النصوص الواردة من طريق أهل البيت (ع) التي تشير إلى أن الحسين(ع) وأهل البيت كانوا مطلعين على هذه المأساة وتفاصيلها فلاحظ قوله (ع) عند خروجه من مكة: وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء.
مضافاً للنصوص الكثيرة الواردة من النبي الأكرم (ص) وعن الإمام أمير المؤمنين والسيدة الزهراء(ع)[1].
ومع ملاحظة موقف الحسين ومسيرته يعلم أنه كان متأكداً من هذه النهاية فمن يكون كذلك كيف يخطر بباله أنه سوف يصل إلى الحكم أو يصل إلى تحقيق العدل الإلهي من وراء هذه الحركة مع معرفته بالنتيجة مسبقاً.
التفسير الثالث: أن تكون حركة الإمام الحسين(ع) ذات هدف أخلاقي:
ويعتمد هذا التفسير على كون تلك الحركة قد حصلت بدوافع أخلاقية ذاتية تنطلق من العوامل النفسية والأخلاق الإسلامية العربية التي اتصف بها أبو عبد الله (ع) فهو لما كان إنساناً شريفاً وعزيزاً وكريماً يأبى الضيم وهو ابن بنت رسول الله (ص)وابن علي بن أبي طالب (ع)من بيت مجيد لا يمكنه الخضوع لإنسان وضيع فاسق فاجر ملحد كيزيد. فباعتبار الأخلاقيات والصفات النفسية العالية لا يمكن للحسين(ع) مبايعة يزيد ووضع يده بيده وقد عبر عن ذلك في قوله (ع) : والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد. وكذا في قوله للوليد والي المدينة: إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد رجل شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة ومعلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله.
فالمسألة إذن ليست إلا مسألة أخلاق وإباء للضيم وعزة وكرامة فالإنسان عندما يكون عزيزاً أبياً لا يمكن أن يخضع للذل والهوان ولما تعرض أبو عبد الله (ع) لذلك أبت نفسه الزكية الأبية ذلك.
والحقيقة أن هذا الوجه يشكل جزءاً من النهضة الحسينية وهو أحد الأهداف الإسلامية التي تحرك الحسين(ع) من أجلها إلا أنها ليست التفسير الكامل لحركته(ع) كلها وذلك لأن الحسين(ع) من خلال منصبه القيادي وأنه إمام يتحمل مسؤوليات تجاه الأمة لا يمكن له أن ينطلق في تحركه من المشاعر الخاصة والعواطف أو الأحاسيس الأخلاقية الذاتية النبيلة فحسب بل ينطلق أيضاً من المصالح الإسلامية العليا للدين والأمة والواجبات والمسؤوليات العامة حتّى لو كانت على حساب العواطف والأحاسيس النبيلة والأخلاق الإسلامية الذاتية الخاصة.
ولذا فقد يفرض عليه (ع) أحياناً أن يقف موقفاً يبدو للوهلة الأولى أنه يتسم بالتنازل من أجل مصلحة إسلامية أكبر وأعظم كما وقف الإمام الحسن(ع) في الهدنة مع معاوية وعلى خلاف ميوله وعواطفه النبيلة. مع أن الحسن والحسين (ع) يرضعان من منبع واحد ومن هنا فلا يمكن أن نفترض اختلاف أخلاقية الإمام الحسن(ع) عن أخلاقية الإمام الحسين(ع) ومن ثم نفترض أن أحدهما يرضى بالضيم والآخر لا يرضى أو أن أحدهما يرضى بالذل والآخر لا يرضى به.
على أننا لو قبلنا بهذا التفسير لنهضة الحسين(ع) لواجهنا تساؤلاً بالنسبة للإمام الحسن(ع) الذي امتلك جميع ا لمقومات التي امتلكها الحسين لرفض الضيم والذل والهوان فلماذا لم تكن هذه الأخلاقية موجودة عنده؟!
ولقد فند أبو عبد الله (ع) يوم عاشوراء بنفسه هذه الأطروحة وردها بقوله :
الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار
إذ أن العرب ترى أن رفض الضيم والذل الشخصي أمراً ليس بعده أمراً أكبر منه بينما الإسلام لا يرى ذلك على إطلاقه بل المقياس عنده ما يرضي الله سبحانه وتعالى وينفع المجتمع الإنساني بشكل عام وهذه النكتة هي ما أشار لها مولانا أبو عبد الله (ع) حيث ترك للإنسان الخيار بين الموت وركوب العار فالموت عنده أهون من ركوب العار فإذن العار والذل والضيم مرفوض لدرجة أن الموت أهون وأقل شأناً من العار.
لكن لما كان للإنسان هدف أسمى من الموت ومن الكرامة الذاتية ألا وهو رضا الله سبحانه ودخول الجنة ففي سبيل ذلك يتحمل الإنسان شيئاً أشدّ وقعاً من الموت وهو العار طلباً لكسب رضا الله سبحانه وفي سبيل الموقف الصحيح الذي يخدم الإسلام به.
والنتيجة أن الهدف لم يكن رفضاً للظلم والضيم فقط بل هناك شئ أكبر وأعظم من ذلك وهو رضا الله سبحانه وتحقيق السعادة الأبدية لهذا الإنسان في حياته الأخروية.
التفسير الرابع: التفسير الغيبي لحركة الحسين (ع) :
ويعتمد هذا التفسير على أساس أن الحسين (ع) إمام معصوم قد كتب الله سبحانه عليه منذ أن خلق الخلق أن يموت في كربلاء بهذه الكيفية المأساوية التي فصلت في كتب التأريخ والمقاتل.
فلا يمكن للإنسان العادي معرفة حكمة هذا السر الغيبي والقرار الإلهي لكونه سراً من أسرار الله وقضية غيبية وعليه فلا يمكننا أن نسير في خط الحسين أو نتأسى به لأن هذه المسألة من المسائل الفريدة الخاصة بشخصه(ع) وهي مسألة ترتبط بالله عز وجل بشر بها الأنبياء قبل نبينا الأكرم(ص) كما بشر بها النبي محمد وأمير المؤمنين وفاطمة(ع)كما دلت على ذلك مجموعة من النصوص[2].
بل إن الحسين(ع) قد أخبر بهذه النهاية المقدرة له من الغيب في قوله لمن سأله عن حمل نسوته معه وهو يعلم أنه مقتول: شاء الله أن يراهن سبايا. وهذا منه إشارة لكونه في معرض تنفيذ أمر إلهي ثم إن النتيجة المرجوة من هذا الأمر الإلهي المخصوص هو استفادة الشيعة لأنهم سوف يجلسون المجالس ويقيمون العزاء ويحييون الشعائر النافعة ويبكون فيحصل لهم بذلك الأجر والثواب كما أنهم يبذلون الطعام والشراب لفائدة الفقراء والمساكين ويتحدث الخطباء من على المنابر عن قضية الحسين وأهل بيته (ع)وعقائدهم وأخلاقهم ويثيرون العواطف ويستدرون الدموع.
ولذا يتداول على ألسنة الناس العاديين عبارات مثل: سفرة الحسين واسعة ينتفع الناس منها. وكذا ينتفع منها الخطباء أيضاً.
وهذا يعني أن هذا العطاء حصل من خلال قضية خاصة ومضمونها محصور في أن الباكي على الحسين يحصل على الثواب ويكون جزاؤه الجنة.
وهنا لا نريد التشكيك في حقيقة الأجر والثواب المترتب على التفاعل مع قضية الحسين(ع) وخصوصاً في مجالس البكاء والزيارة والإطعام إلا أن الذي نوّد الإشارة له أن هذا التفسير يحوّل قضية الحسين بأكملها إلى الأمور المستحبة وترجع قضية الحسين “ع” إلى أمر غيبي مجهول ولا صلة لها بحياتنا البشرية والعملية.
إلا أننا لا يمكننا قبول هذه النظرية أيضاً لأن هذه الشعائر وإن كانت في نفسها صحيحة وتشكل جزءاً من قضية الحسين(ع) إلا أنها لا تمثل كل شيء منه، مع أن لها أهمية في تحقيق أهداف قضيته المباركة ولها دور عظيم في النتائج والآثار.
والسبب في رفض هذا التفسير يعود إلى أن مؤداها عدم كون الحسين وأهل البيت(ع)قدوة حسنة ينبغي أن تتبع ويقتدى بها في أقوالها وأفعالها. بينما الذي نجده من الأئمة الهداة (ع) أنهم وجهوا الأنظار نحو قضية الحسين وأكدوا عليها في مختلف المناسبات وذلك لتكون قاعدة مركزية في أوساط أتباعهم ليؤشروا بها على طريقهم ومنهجهم لأن قول وعمل أولهم هو قول وعمل آخرهم وبالعكس.
ثم إن رفضنا هذا التفسير لا يعني أن حركة الحسين(ع) لم تكن مورداً للعناية الإلهية بل إنها موضوعة من قبله سبحانه وتعالى مصممة على يد رسوله (ص)وقام أبو عبد الله (ع) بتنفيذها وهو من الأئمة الذين لا يعرفون إلا حكم الله سبحانه.
بل رفضنا لها لكي لا تُمنع الاستفادة منها من خلال الإقتداء بقائدها الأعلى لمنع كونها حالة خاصة
التفسير الخامس: حركة الحسين هزة ضمير وحياة رسالة:
إن ثورة الحسين(ع) كانت تهدف إلى تثبيت الموقف الشرعي والحكم الإسلامي تجاه ظاهرة الطغيان المتمثل في شخص يزيد المستهتر بالقيم والشعائر الإسلامية ومن أجل المحافظة على وجود الرسالة الإسلامية واستمرارها من خلال تثبيت هذا الموقف وما يمكن أن ينجم عنه من تفاعلات في الأمة و أيضاً من أجل إيقاظ ضمير الأمة وهز مشاعرها وأحاسيسها وتحريك وجدانها من أجل العمل على مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة في حياتها.
والحاصل كانت لثورة الحسين(ع) دوافع ثلاثة حقيقية ترتبط بها وهي أهدافها:
1 ـ ما يرتبط بفهم الرسالة الإسلامية من خلال توضيح الموقف الشرعي تجاه الظاهرة الجديدة.
2 ـ ما يرتبط بحركة رسالة الإسلام المسقبلية.
3 ـ ما يرتبط بالحركة الفعلية للأمة وأوضاعها السياسية والاجتماعية والنفسية وقد حقق الإمام الحسين “ع” بتخطيطه الرائع وتضحيته وتصميمه القوي ذلك.
فالحسين كان يمثل الضمير الحي للأمة وعقلها الواعي المدرك للأخطار التي تتهددها وطبيعة المشاكل والظروف التي تحيط بها. وقد كان “ع” يدرك خطر موت الضمير والوجدان لديها.
ولا بأس بالإشارة لكل واحد من هذه الأهداف بشئ من التفصيل فنقول:
الهدف الأول: تثبيت الموقف الشرعي:
لقد كان الحسين “ع” يدرك معرفة الناس لحقيقة يزيد وطغيانه واستهتاره بالقيم الإسلامية وإعلانه برفضها من خلال مجونه وفسقه إلا أن الناس لم يكونوا على معرفة بما ينبغي فعله أمام هذه المأساة خصوصاً وأن هناك عدة عوامل تتجاذبهم.
فهذا خائف على نفسه أو جماعته من النتائج. وذاك واقع تحت تأثير الشهوات والملذات والإغراءات والأموال، وآخرون كانوا قد اعتادوا الظلم والذل والخضوع واستسلموا للأمر الواقع. وبعض آخر قد تعرض إلى عمليات التضليل وغسل الدماغ تحت شعار حرمة الخروج على السلطان مهما بغى وانحرف وتجبّر لكونه شقاً لعصا المسلمين وخروج على الجماعة.
وقسم آخر كان يترقب الأحداث ليستفيد منها وينتهز الفرصة المناسبة للوصول إلى الحاكم والسلطة. وهناك الكثير من أبناء الأمة كان يدرك الحكم الشرعي ولكنه يعتقد ضرورة توفر القدرة على الحركة بحيث تنتهي إلى الإطاحة بالحكم وتغييره وبدون ذلك تصبح الحركة بدون هدف إلى غير ذلك من العوامل الأخرى التي يطول ذكرها.
وقد أراد الحسين “ع” تحويل الفهم النظري لحكومة يزيد الذي كان يدركه الناس إلى موقف عملي ووظيفة شرعية واضحة يسوغ لهم التحرك والعمل ويفك الحصار عن إرادتهم ويلغي حالة التردد والحيرة في موقفهم.
ولما كان يتمتع به الحسين “ع” من مواصفات فريدة عند المسلمين وتأريخهم ووجدانهم ومشاعرهم فهو الإنسان الأصلح للقيام بهذه المهمة مضافاً لإدراكه ظروف الأمة وأوضاعها وقد أشار لذلك في وصيته لأخيه بن الحنفية: وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي “ص” أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.
ومن الواضح أن تثبيت الموقف الشرعي عملياً وواقعياً لا يكفي فيه إعلان الثورة أو بيان الحكم الشرعي ونشره بين الناس بل يحتاج إلى موقف عملي يتسم بالبذل والعطاء والتضحية والفداء ليكون بيناً واضحاً لا تستره الشبهات أو تشوهه الشكوك والإحتمالات، قوياً لا تقف في وجهه محاولات التضليل والرغبات والشهوات.
الهدف الثاني: تحويل الموقف النظري إلى موقف عملي:
وقد أهتم بهذا الجانب الحسين “ع” بشكل خاص من خلال نقل الصورة من العقل والذهن إلى الوجدان والقلب وذلك من خلال إيقاظ ضمائر الناس وهز وجدانهم وتحريك مشاعرهم وأحاسيسهم لأن ضمائر هؤلاء الناس كانت مخدرة أو تكاد تموت تدريجاً.
وقد يدرك الإنسان أشياء كثيرة وصحيحة بعقله لكن موقفه ووجدانه وحركته قد يقصر عن الإدراك الصحيح وهذا ما كان يعيشه الناس في زمن الحسين “ع” إرادة مفقودة وذل واستسلام يؤدي للفساد في الأرض.
وقد أراد الحسين أن يبين للناس أن الموقف العملي هو البذل والتضحية حتّى الموت ولو كان الأنصار قليلين طلباً لتحطيم الطاغوت وخلاصاً منه وإحياء للحكم الإسلامي وتحقيقاً للعدل الإلهي.
ولذا لم تكن للحسين رغبة إلا تحريك الناس وهز ضمائرهم وإيقاظ وجدانهم ولم يكن هناك ثمن لهذا الشيء إلا تقديم أبي عبد الله “ع” دمه الغالي لتتحرك تلك الضمائر.
ولو بقي الحسين “ع” محترماً في مقامه الإجتماعي مكرماً بعيداً عن الناس لم يتحركوا بمجرد الكلام والنداء والبلاغ بعد أن تخدرت ضمائرهم وفقدوا إرادتهم.
ثم إن ما ينبغي التأكيد عليه أن هذا البذل والتضحية الحسينية لم تكن بنحو عشوائي انتحاري وإلا لم يؤت ثماره ونتائجه بل قد مهد وخطط له تخطيطاً عظيماً منظماً يصب في هذا الهدف الكبير كما يتضح ذلك في كل خطواته حتّى النفس الأخير لحياته.
الهدف الثالث: بقاء الإسلام بالتضحيات الحسينية:
وهذا هو أسمى الأهداف وأعظمها وقد كان للحسين “ع” أكبر الأثر في ذلك كما يستفاد ذلك من خلال التأكيدات الواردة عن أهل البيت “ع” على قضية الحسين “ع” إدراكاً منهم لدورها وهذا يلحظه المتتبع في كثير من الأحداث والقضايا التاريخية أيضاً كالثورات التي حصلت من بعد استشهاده “ع” والشعارات التي كانت تحملها مما يكشف ما لدم الحسين “ع” من الأثر العظيم في حفظ الإسلام.
——————————————————————————–
[1] بحار الأنوار ج 44 ب 30 و 31 ص 223.
[2] بحار الأنوار ج 44 ص 322.