الصديقون والشهداء

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
64
0

قال تعالى:- (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآيتنا أولئك أصحاب الجحيم)[1].

مدخل:

من الأساليب الواضحة في القرآن الكريم، أسلوب المقابلة، بمعنى أن القرآن يستعرض نموذجين متغايرين، في المنهج تارة، أو في الأسلوب أخرى، وثالثة في الجزاء والنـتيجة.

والآية محل البحث مصداق ونموذج لذلك، حيث نجد أنها تستعرض نموذجين للجنس البشري، فتذكر أن هناك نموذجين من الناس، أحدهما الذين آمنوا والثاني الذين كفروا، وقد ميز القرآن بينهما من خلال ما يتصفان به من انتماء ومنهج يتبعانه، فنراه قد وصف أحدهما بالمؤمنين بالله، ووصف الآخر بالكافرين بالله، المكذبين بآياته.

الصديقون والشهداء:

هذا وقد تضمنت الآية الشريفة وصف الصديقين والشهداء، كما أنها تضمنت وصف أصحاب الجحيم، لكن متى يوصف الإنسان بكونه صديقاً، وشهيداً، ومتى يكون الإنسان من أصحاب الجحيم.

هذا السؤال، نحتاج أن نجيب عليه من خلال الآية الشريفة، ومن خلال ما حوته من معنى وتضمنـته من بيان.

من الواضح أن هاتين المنـزلتين، منـزلة الصديقين والشهداء، ومنـزلة أصحاب الجحيم، لا ينالها الإنسان إلا بعد طيه لمراحل ومقدمات، ومن دونها لن يـبلغ هذه المنـزلة ولن يوصف بها.

فما هي المقدمات والمراحل التي يتطلب على الإنسان طيها ليصل إلى ذلك؟…

المستفاد من الآية الشريفة أن الوصف بالصدّيق وبالشهيد، موقوف على الإيمان بالله وبرسوله(ص)، لكن ما هو المراد بالإيمان في الآية، هل هو إيمان خاص، أم أنه الإيمان العام المعروف بين كافة الناس، والذي يتحقق بالإقرار اللساني الصادر من الإنسان.

لا ريب في أنه يصعب الالتـزام بكون المراد من الإيمان في الآية الشريفة هو الإيمان اللساني وإن احتمله بعض المفسرين، ووجه الصعوبة يعود لكون الآية بصدد إعطاء جنبة تميز، وإبراز ناحية امتياز لبعض الناس، فوسمتهم بكونهم صديقين وشهداء، نتيجة امتلاكهم أمراً يميزهم عن الآخرين، فجعل الإيمان هنا بالمعنى العام يحرم هؤلاء من التميز بلا ريب.

ومنه يتضح أن الإيمان هنا إيمان من نوع خاص، وأنه ليس مطلق الإيمان كما هو واضح لا يخفى.

فما هو هذا الإيمان الخاص الذي ورد في الآية الشريفة، إذن؟…

أقسام الإيمان:

المتابع للآيات القرآنية الشريفة، وكذا روايات أهل البيت(ع)، يجد أن الإيمان الوارد فيها ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الإيمان اللساني: ويسمى أيضاً بالإيمان الحرفي، وهو الإيمان الذي لم يرسخ في القلب والعقل، قال تعالى:- ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين)[2].

الثاني: الإيمان العقلي: وهو ما رسخ في العقل بواسطة البرهان، فأيقن به العقل ودفع عنه الشك والترديد، ومتى حصل هذا الإيمان لم يكن للشيطان مجال للدخول للإنسان، إذ متى امتنع العقل ورسخ الإيمان فيه، أمكنه الوقوف أمام الشيطان وإقناعه، ولا أقل رده وردعه.

الثالث: الإيمان القلبي: وهو ما يكون راسخاً في القلب، بحيث يعتقد القلب ويوقن بوجود الله دائماً، وأنه سبحانه مطلع عليه ويراه، قال تعالى:- ( ألم يعلم بأن الله يرى)[3]، ووصل إلى مرحلة أيقن معها القلب بأن الله سبحانه وتعالى:- ( أقرب إليه من حبل الوريد)[4].

في رحاب الآية الشريفة:

فلا ريب في أن المراد من الإيمان في الآية الشريفة ليس القسم الأول، ولا القسم الثاني من الإيمان، بل المراد به هو القسم الثالث منه، وعلى هذا فالإيمان المراد في الآية المباركة هو الإيمان الواقعي، أو قل الإيمان القلبي، وليس الإيمان اللساني الظاهري.

ومن المعلوم أن الإيمان القلبي هو الإيمان الذي يصاحبه خشوع القلب، وهو الذي لا يحصل من دون حصول الانقياد والتسليم.

وعلى هذا ترك واجب من الواجبات يوجب نقصاً في الإيمان، كما أن ارتكاب محرم من المحرمات يؤدي إلى ذلك أيضاً.

والسرّ في ذلك يعود إلى أن الإيمان الكامل تصديق بالجنان وعمل بالأركان، فالإيمان بهذا المعنى لا يتحقق دون تجسده في العمل، ومتى لم يكن كذلك كان إيماناً كاذباً.

فمن أدعى الإيمان بالله سبحانه والاعتقاد باليوم الآخر والحساب فيه، لكنه ترك واجباً كالصلاة مثلاً، كان ما صدر منه خلاف الإيمان، لأن مقتضى الإيمان والاعتقاد بالله ورسوله واليوم الآخر، هو امتـثال جميع الأوامر الموجهة إليه.

فالمؤمن بالإيمان القلبي، هو الذي رسخ الإيمان في قلبه رسوخاً عاطفياً.

مراتب الإيمان القلبي:

هذا وقد ذكروا أن للإيمان القلبي مراتب ثلاث:

الأولى: علم اليقين:

وهي تعني الإيمان الراسخ في قلب العبد، بحيث بلغ مرتبة ومقاماً رفيعاً، فصار يرى الله تعالى ببصيرته، أي أنه يدرك ويشعر بوجوده، قال تعالى:- ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين فلما نجاهم إلى البر إذا هم مشركون)[5].

الثانية: عين اليقين:

وهي المرتبة التي تـتم فيها التخلية والتحلية، بحيث يشعر المؤمن أنه مجاور للنار فيخشاها، ويخاف منها، لأنه قد حصلت عنده ملكة العدالة، فصار قلبه يسطع بنور الله سبحانه، ويكون دليله وهاديه.

الثالثة: حق اليقين:

وهي أعلى المراتب، ولا يصل الإنسان إليها إلا نتيجة الارتباط بالله سبحانه، ووجود الولاية لديه.

طرق حصول الإيمان القلبي:

لكن ما هي الوسائل التي يمكن للإنسان من خلالها الوصول للإيمان القلبي حتى يـبلغ مرتبة الصديقين والشهداء؟…

هناك ثلاثة أمور يتم بواسطتها حصول الإنسان على الإيمان القلبي، وبلوغه هذه النعمة، وتلك الأمور هي:

التقيد بظواهر الشرع:

بحيث يتم الالتـزام بظواهر الشرع، من خلال الاهتمام بالواجبات وامتثال القوانين الإسلامية، وتنفيذ الأوامر الصادرة من الله سبحانه ورسوله(ص) والأئمة المعصومين(ع)، من دون فرق بين تكليف وآخر، سواء كان ذلك في جانب الواجبات التكليفية، أم كان ذلك في الواجبات الوضعية.

ولا يخفى أنه يدخل في ضمن هذا الأمر الارتباط بأهل البيت(ع)، ومعرفتهم معرفة حقة، وجعلهم الوسائل التي يـبتغى من خلالها إلى الله سبحانه، ويتوسل بهم لكشف الكربات وقضاء الحوائج وتنفيس الهموم.

اجتناب الذنوب:

فإن الذنب يحرق شجرة الإيمان مهما بلغ رسوخها وتقادمها في القلب البشري، كما أن تكرار الذنوب سبب من أسباب قسوة القلب.

على أن للذنوب تأثيراً في كثير من الأمور، بمعنى أن هناك ارتباطاً تكوينياً بين الذنوب وبين مجموعة من الأعمال التي تحصل، وهذا ما يشير له أمير المؤمنين(ع) في دعاء كميل، في قوله: اللهم اغفر لي الذنوب التي تنـزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر الذنوب التي تحبس الدعاء, وغير ذلك فإنه(ع) يقرر أن الذنوب تشكل حاجباً وحاجزاً بين الأشياء والآثار المرجوة منها، بحيث يحصل عكس ما يراد حصوله.

وقد روي أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين(ع) وقال له: أنه قد حرم صلاة الليل، فبين له أمير المؤمنين(ع)، أن منشأ الحرمان يعود لأفعاله الصادرة منه، فقال له(ع): أنت رجل قد قيدتك ذنوبك.

أداء المستحبات:

فيعمد الإنسان إلى الاعتناء بها، والسعي إلى أدائها والمداومة على ذلك، فإن هذا مما يرسخ شجرة الإيمان ويثبتها في القلب.

فيداوم الإنسان على تلاوة القرآن الكريم، وعلى صلاة الليل، والمناجاة لله سبحانه، وخدمة الناس وقضاء حوائجهم.

نعم ما ينبغي الالتفات إليه أن المداومة على المستحبات، ينبغي أن لا تكون على حساب أداء الواجبات، أو على حساب ترك بعض الضرورات.

الصديقون:

هذا ومتى تحصل الإنسان على الإيمان القلبي، أعطاه الله سبحانه منـزلة الصديقين، ونعني بالصديقين، الأشخاص الذين يشمل الصدق وجودهم، حيث يصدقون في القول والعمل، فيكون الصدق طابعاً عاماً لهم في كافة شؤونهم وأمور حياتهم، فهم والصدق بمثابة الأمرين اللذين يسيران جنباً إلى جنب، لا يتصور في أحدهما التخلف عن الآخر أو الانفكاك.

الشهداء:

وأما الوصف الثاني في الآية، وهم الشهداء، فقد اختلف المفسرون في المراد منه، حيث أنه يحتمل معنيـين:

الأول: أن يكون المراد منه من قتل في سبيل الله، وفارقت روحه جسده. وهذا المعنى قد أشارت له بعض النصوص الواردة عن أئمتنا(ع).

الثاني: أن يكون المراد منه الشهيد، بمعنى الرقيب الذي يشهد على الإنسان يوم القيامة، في ضمن الشهود التي تشهد على الإنسان.

والأكثر من أعلام التفسير على المعنى الثاني.

—————————————————

[1] سورة الحديد الآية رقم 19.

[2] سورة الحج الآية رقم 11.

[3] سورة المعارج الآية رقم 21.

[4] سورة ق الآية رقم 16.

[5] سورة العنكبوت الآية رقم 65.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة