قال تعالى:- (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين)[1].
مدخل:
لا زال كلامنا مستمراً في بيان المقومات للعمل الصالح من وجهة النظر الإسلامية، والرسالة المحمدية.
مداراة الناس:
الشرط الثالث من شرائط العمل الصالح ومقوماته، مداراة الناس كما أشار لذلك الحديث النبوي الشريف المتقدم.
وقبل حديثنا عن هذا الشرط، ومدى أهميته في انطباق عنوان العمل الصالح على العمل الصادر من المكلف، يجدر بنا إلفات نظر القارئ إلى أن هناك فرقاً بين هذا الشرط وبين النفاق، فليسا شيئاً واحداً كما ربما يتخيل البعض ويتبادر إلى الأذهان بمجرد سماع هذا العنوان، ذلك أن النفاق مرض من الأمراض النفسية الخبيثة التي تبتلى بها نفوس بعيدة عن الأجواء الإيمانية، تعيش حالة من الخديعة والمكر والاحتيال، تظهر شيئاً وتبطن آخر، فهي لا تظهر ما تبطن إذن، وإنما لها صورتان، ظاهرية وباطنية، وفرق ما بين كلتا الصورتين، وما أظهرته إنما أرادت منه أشياء وأغراض خاصة، تسعى لتحقيقها ونيلها.
ومن الواضح أن هذا خلاف ما نحن بصدد الحديث عنه، وهو صفة المداراة، إذ أن هذه الصفة تستهدف ضبط الإنسان وحركته وكافة ممارساته عن أجواء الانفعال والتأزم والمواجهة العنيفة مع الآخرين.
أهمية المداراة:
وتظهر أهمية هذه الصفة من خلال ما يـبديه الإنسان من قدرة على الابتعاد عن العوامل والظروف المساعدة على الإثارة والتأزم في العلاقة مع الآخرين، لأن من السهل أن يجرّ الإنسان إلى مواقف متشنجة في حياته اليومية، مع أن العديد من هذه المواقف يمكن تلافيها من خلال شيء قليل من الصبر والحكمة، يـبديهما الإنسان حين تعامله مع تلك المواقف، ويكون بذلك قد حفظ شخصيته، كما أنه قد أعطى الطرف الآخر مجالاً كي ما يفكر ويراجع نفسه في محاولة منه لتصحيح مواقفه.
المداراة خلق القرآن:
وقد حث القرآن الكريم على المداراة ومعاشرة الآخرين بالتي هي أحسن قال تعالى:- (وقولوا للناس حسناً)[2]، وقال سبحانه:- (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)[3].
وقد تضمنت النصوص أيضاً الإشارة لهذا الخلق، وحثت على لزوم التخلق به، وأنه صفة من صفات المؤمنين، فقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: أعقل الناس أشدّهم مداراة للناس، وأذلّ الناس من أهان الناس[4].
وجاء عنه(ص) قوله: إنّا أمرنا معاشر الأنبياء بمداراة الناس كما أمرنا بأداء الفرائض[5].
وقال(ص): مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش[6].
مقومية المداراة للعمل الصالح:
ويمكننا أن نفهم وجه جعل المداراة مقومة للعمل الصالح وركناً من أركانه وشرطاً من شروطه، متى عرفنا أن القاعدة الأخلاقية في النظرية الإسلامية للعلاقات الاجتماعية تقوم على مبدأ الحب والود، فهي ليست علاقة شكلية مجردة وفارغة عن أي معنى أو مضمون، كما أنها ليست آلية تقوم على مصالح ومنافع متبادلة.
بل هي علاقة قائمة على العاطفة والشعور والحب والود والولاء بين الأطراف، وواضح أن مثل هذا يهيئ لها سبل التكامل.
وخير طريق يمكن من خلاله إبراز هذا الحب وإظهار هذا الود، هو حسن الخلق والتودد إلى الناس، والمداراة والمجاملة لهم، فإن هذا العمل يعدّ أول الخطوات التي يتم من خلالها إزالة كافة الحواجز ورفع جميع المؤثرات السلبية.
ونستفيد هذا المعنى من خلال النصوص التي أشارت إلى اتخاذ هذا الخلق منهجاً وسبيلاً يمكن للإنسان الوصول من خلاله إلى قلوب الآخرين، فعن أبي جعفر الباقر(ع) قال: إن إعرابياً من بني تميم أتى النبي(ص) فقال له: أوصني، فكان فيما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك[7].
ولا ريب في أننا نجد هذا المعنى واضحاً في سيرة رسول الإنسانية(ص)، والأئمة المعصومين(ع) من بعده، حيث أنهم على ما لاقوه من مصاعب، إلا أنهم واجهوا جميع ذلك بمداراة واضحة منهم للمجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، والأمثلة عديدة يجدها المتتبع لسيرتهم.
التقية المداراتية:
ومما يشهد للاهتمام الصادر من المعصومين بهذه الناحية، ومقدار ما تتركه على جلب الطرف الآخر، ما ورد من النصوص المشيرة إلى استخدام منهج التقية المداراتية في التعايش مع الآخرين من المذاهب الأخرى، فإنها خير شاهد على ما للمداراة من قيمة فعالة تـترك أثرها على الطرف الآخر.
ونعني بالتقية المداراتية، حسن المعاشرة مع المذاهب الأخرى من المسلمين، من خلال عيادة مرضاهم، وتشيـيع جنائزهم، وما شاكل ذلك، سعياً للحفاظ على الوحدة الإسلامية، وتأيـيداً للدين وإعلاء كلمة الإسلام وأهله، في مقابل الكفار والمشركين وأعداء الإسلام.
وهذا القسم تشهد له مجموعة من الآيات القرآنية والنصوص الواردة عن المعصومين(ع)، مثل قوله تعالى:- (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)[8]. ، وعن معاوية بن وهب، قال، قلت له: كيف نصنع فيما بيننا وبين خلطائنا مما ليسوا على أمرنا؟ فقال: تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودوا مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الأمانة إليهم[9].
وكذا أيضاً يشهد لهذا القسم، مشاركة الإمامين الحسنين(ع) في بعض الفتوحات الإسلامية، مضافاً إلى مشاركة بعض أصحاب الإمام أمير المؤمنين(ع) في تلك الفتوحات، فضلاً عن أن أغلب تلك الفتوحات قد حصلت بمشورة من أمير المؤمنين(ع).
كما أن هذا المعنى يمكن استفادته من خلال الصحيفة السجادية، وبالتحديد من دعائه(ع) لأهل الثغور، لأنه كما لا يخفى كان ذلك الوقت الحكم بيد بني أمية، والفتوحات كانت تجري بواسطتهم، فدعاؤه(ع) لهم يشير إلى مبدأ الوحدة الإسلامية ما دامت الحركات الجهادية ساعية من أجل الدفاع عن الإسلام، أو ساعية من أجل إعلاء كلمة الإسلام، ودحض دعوة الكفر والباطل.
الحلم عن الجاهلين:
الركن الرابع والأخير من أركان العمل الصالح ومقوماته، هو الحلم عن الجاهلين، ولا يخفى أن صفة الحلم من الصفات التي تعكس الصفاء النفسي لشخصية من يكون متصفاً به.
كما أنها تعدّ ضرورة من ضرورات العمل الإنساني، خصوصاً وأنها تستجمع كل معاني الرفق والحكمة، والتأني.
وهي صفة تعتبر مقومة لكل عمل، ذلك أن أي عمل يصدر من العامل، مع كونه مستنداً إلى الحلم، يكشف عن قدرة على التغلب على مصاعب الحياة، والتعامل مع ظروفها الصعبة بتفكر وتعقل وروية.
ومن المعلوم أن مثل هذه المنهجية تعطي الإنسان مجالاً لاستثمار الظروف المعاكسة دائماً لصالحه.
مقومية الحلم عن الجاهلين للعمل الصالح:
وربما يتساءل البعض، كيف يتصور أن الحلم عن الجاهلين يكون مقوماً للعمل الصالح؟… لا يخفى أن منشأ هذا التساؤل وأمثاله يعود لعدم الرؤية الواضحة عند كثيرين لجملة من المفاهيم الإسلامية، ولنأخذ على سبيل المثال ما نحن بصدد الحديث عنه، حيث أن هناك عدة حتى من الإسلاميـين ينظرون لجملة من المفاهيم الإسلامية نظرة سطحية، مع أنها في الحقيقة تنطوي على العديد من المضامين العالية، والأبعاد الهامة جداً، فالحلم عن الجاهلين، لو نظرنا له في واقعه لوجدنا أنه يكشف عن مدى ما تركه الإيمان بالله سبحانه وتعالى في قلب الإنسان، لأن من الواضح أن للإيمان بالله سبحانه مجموعة من المردودات والآثار التي تترتب على كيانه، ومن تلك الآثار التي يطبعها الإيمان في قلب الإنسان، ترسيخ معنى المحبة والرأفة والتسامح.
ومن الواضح أنه متى امتلك الإنسان المؤمن هذه الصفات كان لذلك أثرها عليه في الحياة الاجتماعية، فيكون عنصراً فعالاً في مجتمعه، من خلال ما يملكه من خلق حسن، وخصال جميلة.
منافيات العمل الصالح:
وكما تحدثنا عن مقومات العمل الصالح، يجدر بنا الحديث عن منافيات العمل الصالح، لأنه كما لكل عمل من الأعمال مجموعة من الأعمال توجب حصوله وتحققه خارجاً، كذلك هناك مجموعة من الأمور توجب انتفائه متى تحققت في الخارج.
هناك عدة أمور توجب انتفاء العمل الصالح، وتجعله بمثابة العدم، إلا أنها كلها يمكن جمعها في خصوص أمر واحد وهو النية.
ولا يخفى ما للنية من أهمية عظمى بالنسبة للإنسان، سواء كان ذلك في مجال العمل الصالح، أم كان في العمل السيئ. بل قد ورد في بعض النصوص أنه إنما خلد أهل الجنة في الجنة بسبب نياتهم، كما أنه قد خلد أهل النار في بسبب نياتهم أيضاً.
ومما يشير لما ذكرناه النصوص التي تضمنت بيان أهمية النية، فقد روي عن رسول الله(ص) أنه قال: إن المؤمن لينوي الذنب، فيحرم الرزق[10].
وهذا جابر بن عبد الله الأنصاري(رض) صاحب رسول الله(ص) يوم جاء لزيارة الإمام الحسين(ع) في الأربعين من شهادته، يشير إلى أهمية النية، فيذكر في جوابه على عطية الذي كان معه: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله(ص) يقول: من أحب قوماً حشر معهم، ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم، والذي بعث محمداً بالحق نبياً، إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين(ع) وأصحابه.
هذا ومنشأ جعل النية العنوان الجامع لمنافيات العمل الصالح، يتضح من خلال أنها تكشف أنها تكشف عن باطن الإنسان وسريرته، خصوصاً وأنه لا يـبعد جعلها الأساس في كل عمل يصدر من الإنسان، مضافاً لكونها النقطة التي تحدد قيمة أي عمل يصدر منه.
ولعل هذا يفسر لنا جعل نية المؤمن خير من عمله، ذلك لأن النية من الأمور التي لا يتصور أن يتطرق لها إشراك غير الله سبحانه وتعالى فيها، لكونها من الأمور الباطنية التي لا يطلع عليها إلا المطلع على القلوب، ومن هنا تكون خالصة لمن قصدت به، سواء كان المقصود به هو الله سبحانه، أم كان المقصود به شخص آخر غيره.
الرياء يحرق العمل:
ومن خلال ما ذكرنا يتضح لنا مدى ما للرياء من أثر سلبي على أي عمل يصدر من الإنسان، بمعنى أن كل عمل يصدر من الإنسان ما لم يكن منطوياً على قصد خالص لوجه الله سبحانه وتعالى، لن يكون هذا العمل الصادر مقبولاً.
ولا أظن أن الحديث عن الحديث يحتاج مزيد بيان، ذلك لأنه من الأمور الواضح، كما أنه يعلم عند كل أحد ما يمثل هذا المرض الخطير في النفس الإنسانية، وما هي الأبعاد التي يتركها على الإنسان.
————————————————–
[1] سورة التوبة الآية رقم 19.
[2] سورة البقرة الآية رقم 83.
[3] سورة فصلت الآية رقم 34.
[4] بحار الأنوار ج 75 ص 52 ح 5.
[5] المصدر السابق ص 53 ح 13.
[6] المصدر السابق ج 77 ص 147 ح 48.
[7] وسائل الشيعة ب 29 من أبواب أحكام العشرة ح 1.
[8] سورة آل عمران الآية رقم 104.
[9] وسائل الشيعة ب 1 من أبواب أحكام العشرة ح 1.
[10] بحار الأنوار ج 73 ص 358.