مدخل:
عشنا هذه الأيام الذكرى الأليمة لرحيل السبط الأول لرسول الله(ص) الإمام الحسن الزكي مسموماً على يد جعيدة بنت الأشعث.
وقد تضمنت سيرة هذا الإمام العظيم العديد من الظلامات التي تعرض لها، بحيث أنه تعرض لقسم منها في حياته، وبعض أخر أصابته بعد رحيله عن هذه الدنيا الفانية، إذ رشقت جنازته بالسهام، حتى استخرج منها أربعون سمهاً، وهدم قبره.
وطالعتنا بعد هذا كله بعض الأقلام المأجورة لتسئ للإمام الحسن السبط(ع)، باستغلال مسألة الهدنة التي عقدها مع معاوية بن أبي سفيان، لكي تستغلها بحسب ما تشتهي وتهوى، حيث تم استغلالها لإثبات بطلان ما تقوله الشيعة الإمامية(أعلى الله كلمتهم، وأنار برهانهم) من أن الإمامة نص إلهي، ليس لأحدٍ فيه مدخلية من قريب أو بعيد، بل هو كالنبوة، لا يفرق عنها، إلا بالوحي، وتصحيح أن الخلافة والإمامة بعد النبي(ص) إنما هي بالشورى التي تكون بين المسلمين.
ونحن لا نود هنا أن نـتحدث عن بطلان هذه الدعوى، ببيان أن جميع الخلفاء الذين تقدموا أمير المؤمنين(ع) ومن جاءوا بعد ولده الإمام الحسن الزكي(ع)، لم يصلوا إلى هذا المنصب من خلال الشورى، بل نود الحديث عن مسألة تنازل الإمام الحسن(ع) عن الحكم، وهل أن ذلك يثبت دعوى هذا المدعي، في ما أرد أن يصل إليه، أو لا.
مقامات النبي:
لكي نـتمكن من الإجابة عن هذا الإشكال، لابد أن نحيط بما للنبي(ص) من مقامات، وهي ثلاثة، قد ثبتت له(ص) من خلال النصوص القرآنية:
الأول: مقام النبوة والرسالة.
الثاني: مقام الحكومة والسياسة، والسلطنة على الأمة، لكونه رئيسهم، ومدبر أمورهم وسائس بلادهم، وهم رعيته.
الثالث: القضاء وفصل الخصومة، فإن حكمه بموازين القضاء نافذ، لا يجوز التخلف عنه.
منصب النبوة والرسالة:
قد أشارت لهذا المنصب العديد من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى:- ( الذين يـبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيـباً).
ولا يخفى أن الرسول ليس له في هذا المقام والمنصب أمر ولا نهي، وإنما هو مذكر، ليس عليهم بمسيطر، وظيفته الإبلاغ والبيان، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
وبما أنه نبي(ص) ورسول، يـبلغ أحكام الله سبحانه وتعالى حقيرها، وجليلها، حتى أرش الخدش.
منصب الحكومة والسياسة:
أشارت لهذا المنصب الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى:- ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً).
ومن الواضح أن المراد من القضاء والأمر والنهي، في هذه الآية هو ما يناسب مقام الإمارة والسلطنة الموهوب له من الله تعالى، فبعد تنصيـبه في هذا المقام، يصدر أمره ونهيه حسب المصالح، ويجب على الأمة طاعته.
ومن الواضح أنه بناءً على هذا سوف تكون الأوامر الصادرة منه بلحاظ هذا المنصب، أوامر مولوية، لا أوامر إرشادية كما في الأحكام التي يـبلغها عن الله سبحانه وتعالى، فإن إطاعتها إطاعة لله سبحانه وتعالى، وليست إطاعة للرسول(ص) بما هو مبلغ عن الأحكام، بخلاف أوامره السلطانية، فإنها مولوية، وامتـثالها إطاعة للرسول(ص) كما إذا جعل الإمارة لشخص على الجيش، فإنه تجب إطاعته لكونه رئيساً على الأمة، فمثلاً تأمير النبي(ص) أسامة بن زيد على الجيش في حرب الروم، يستلزم الإطاعة من قبل الأمة والتنفيذ لهذا الأمر، فكل من أمتنع عن قبول هذا التأمير، فإنه من الذين يعصون الله ورسوله، بنص الآية الشريفة.
هذا والسابر للروايات يرى نماذج وافرة من أحكام الرسول(ص) السلطانية وأقضيته مبثوثة في مختلف الأبواب الفقهية.
منصب القضاء وفصل الخصومة:
وقد أشير إلى هذا المنصب في القرآن الكريم، في قوله تعالى:- ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).
وبالجملة بمقتضى هذه الآيات القرآنية الشريفة، وغيرها يتضح ثبوت هذه المناصب الثلاثة للنبي(ص).
ثبوت الحكومة والسياسة والقضاء للأئمة:
ولا يخفى أن هذه المناصب كما هي ثابتة للنبي(ص) فهي ثابتة أيضاً للأئمة المعصومين(ع)، ما عدا منصب النبوة والرسالة، وهذا يعني أن المنصب الثاني، والمنصب الثالث ثابتان لأئمتنا(ع) بالبراهين الواضحة، التي ليس هذا محل ذكرها.
نعم لم يتمكن أحد من أئمتنا(ع) من ممارسة هذين المنصبين في الخارج، ما عدا الإمام أمير المؤمنين(ع)، والإمام الحسن السبط(ع) لفترة من الزمن، وذلك لبعض الموانع الخارجية، وليس لعدم ثبوتها لهم.
فالظروف لم تسمح لهم باعتلاء منصة الحكم وسدة القضاء، فانحصرت وظيفتهم(ع) في التبليغ والبيان، دون القضاء والحكم.
ثبوت السلطنة لطالوت:
ولا يخفى أن المنصبين الثاني، والثالث، قد يجتمعان في غير المعصوم، وقد تفترق، بمعنى أنه قد يكون له أحدهما دون الآخر، كما ورد ذلك في قضية طالوت، قال تعالى:- ( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم).
فقد كان لطالوت الحكم والسلطة، لمصلحة وقـتية، اقتضت ذلك، دون النبوة والرسالة، حيث أنه لم يكن نبياً.
عن ماذا تنازل الإمام الحسن:
بعدما عرفنا أن هناك مناصب تكون للمعصوم(ع)، كما أن بعضها ربما أعطي لغيره، نجيب الآن عن أصل الشبهة التي تمسك بها القائل، لإثبات دعواه، في بطلان مسألة النص كما عليه الشيعة الإمامية، فنقول:
إنما يتم كلام هذا المدعي، لو كان الذي تنازل عنه الإمام الحسن(ع) هو مسألة الإمامة والخلافة، بمعنى أن الإمام(ع) تخلى عن هذا المنصب، بحيث تنازل عن كونه إماماً منصوباً من الله سبحانه وتعالى.
فعندها نقول: بأن هذا التنازل الصادر منه(ع) يتنافى مع كون مسألة الإمامة، من المسائل المنصوص عليها، وأن الإمام يعين بنص إلهي على لسان النبي(ص) أو المعصوم الذي قبله، وهكذا.
ولا يخفى أن المتأمل في سيرة الإمام الحسن الزكي(ع) يرى بوضوح، أن التنازل الذي صدر منه، ليس من هذا القبيل، حيث كان(ع) يمارس عملية تبليغ الأحكام، وهداية الأمة، والسعي بها لبلوغ درجات الكمال، وغير ذلك، فضلاً عن أنه كان المرجع العلمي للأمة، الذي يفزع إليه لعلاج كل معضلة، وحل كل مشكلة.
أما إذا كان التنازل الصادر من الإمام الحسن السبط(ع)، هو التنازل عن الحكومة والسلطنة، وهو المنصب الذي أعطاه الله لغير المعصوم كما أشرنا لذلك في قضية طالوت، فإن هذا لا يثبت دعوى المدعي.
ذلك لأن التنازل هنا يعد في الحقيقة خسارة للأمة، نتيجة تنحي القيادة المعصومية التي تستطيع الوصول بها إلى بر الأمان، وتوليها شخصية مجردة عن القيم الإنسانية، فضلاً عن القيم الدينية.
وعلى أي حال، هذا التنازل لو تم، لا ربط له من قريب أو بعيد بمسألة الخلافة، لما عرفت أنه تنازل عن منصب السلطة والحكومة، ليس إلا.
الإمام الحسن والنص على الإمامة:
ويشهد لما ذكرنا النصوص الصادرة عن الإمام الحسن(ع)، والمصرحة بمسألة النص على الإمامة، وأنه الإمام المفترض الطاعة.
يقول(ع): والله ما فيها وما بينها حجة لله على خلقه غيري وغير أخي الحسين.
ونراه(ع) يخاطب الناس فيقول: ألا تعلمون إنني إمامكم، مفترض الطاعة عليكم.
كما أننا نجده(ع) يخاطب الناس بمصطلح (أهل البيت) وهو مصطلح لا يشك أحد في أن لمن انطبق عليه من الأفراد خصوصية وعناية خاصة، كما لهم امتيازات خلفها الرسول الكريم(ص)، قال(ع): أيها الناس، أنا ابن البشير، وأنا ابن النـذير، وأنا ابن السراج المنير،….وأنا من أهل البيت.
ونراه(ع) يأبن الإمام أمير المؤمنين(ع)، ويتعرض لمسألة الخلافة والوصاية، قال(ع) في خطبته للناس: إن الله عز وجل بمنه ورحمته لما فرض عليكم الفرائض، لم يفرض عليكم لحاجة منه إليه، بل رحمة منه، لا إله إلا هو ……ففرض عليكم الحج والعمرة، وإقام الصلاة…..والولاية لنا أهل البيت، وجعلها لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمد(ص) وأوصياؤه كنـتم حيارى، لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل تدخلون داراً إلا من بابها.
حيث نلاحظ أنه(ع) قد جعل مسألة الإمامة والولاية والخلافة، مفتاحاً لشرائع دين الله تعالى، وباباً لقبول فرائضه وطاعاته، وبعد هذا كله، يقال: أنه(ع) تنازل عن السلطة، إيماناً منه بأن الخلافة شورى، وأنه لا نص على الإمامة كما إدعاه المستشكل، بشبهته الواهية!!!.
هذا وهناك ما يؤكد ما عليه الشيعة الإمامية من مسألة النص، ويدعم ما سبق وذكرناه، من أن التنازل الصادر من الإمام(ع)، إنما هو تنازل عن السلطة والحكم، وليس تنازلاً عن منصب الخلافة والإمامة، ما نقله شيخنا المفيد في كتابه الإرشاد، من قول ابن عباس بعد رحيل أمير المؤمنين(ع): معاشر الناس هذا ابن نبيكم، ووصي إمامكم فبايعوه، فاستجاب له الناس، وقالوا: ما أحبه إلينا، وأوجب طاعته علينا. وتبادروا إلى البيعة بالخلافة.
فلاحظ كلمة( ووصي إمامكم) تـثبت أن المسألة ليست مسألة شورى، وإنما هي قضية نص من الله سبحانه وتعالى.
خاتمة:
ويـبقى عندنا بعد معرفة أن الإمام الحسن(ع) كان يؤكد ويشير دائماً إلى مسألة النص والخلافة والإمامة، وأنه لم يكن في شيء مما صدر منه(ع) من قول أو فعل، ما يشير إلى مبدأ الشورى، بل حتى التنازل الذي صدر منه للسلطة لمعاوية، ما هو إلا تنازل عن الحكومة والسلطة، كما عرفت، سؤال، مفاده:
لماذا قبل الإمام الحسن الزكي(ع) بهذا التنازل، ولماذا رضي بأن يتولى سلطة الأمة شخصية كشخصية معاوية، وهو الذي يعرف من هو معاوية؟…
وعندما نقرأ كلمات الكتاب والمحللين وتوجيهاتهم، نجدهم قد تناولوا هذه المسألة، بحيث ذكروا لها عدة إجابات، إذ ذكر بعضهم قضية ملل عسكر الإمام(ع) من الحرب، خصوصاً وقد خاضوا مع أمير المؤمنين(ع) حروبه الثلاثة.
وهذا الوجه وإن كان له وجه، لكن التأمل يجعلنا لا نقنع به، ذلك لأن الأمة التي تخضع لقيادة المعصوم، وقد امتلكت الإيمان التام به، لن تـتملل من شيء، يصدر به الأمر من قبله، وكفانا نموذجاً تلك الشخصيات العظيمة التي رسمت يوم كربلاء أجمل وأعظم صور التضحية، والبطولة على ترابها الطاهر، مع قلة العدد، وكثرة العدو.
وعلل بعضهم ذلك، بطبيعة المجتمع الكوفي، حيث كان المجتمع الكوفي تركيـبة سكانية غريـبة، إذ كانت الكوفة مقراً لبعض الشخصيات عثمانية الهوى، وأصحاب عقيدة التربيع، الذين كانوا يروا أن علياً رابع أربعة، فهؤلاء لا يفرقون بين من يتولى الخلافة، الحسن، أو معاوية.
بل كان الطابور الخامس لمعاوية، موجوداً ضمن عسكر الإمام(ع) مما دعى، إلى زعزعة نفوس الجيش وحلحلة قواه، وجعله يرفض الحرب، ويسعى للصلح.
وهذا الوجه، كسابقه من جهة الحسن والمقبولية في الجملة، لكنه يصعب علينا فعلاً، أن نجعله السبب الأساس الذي دعى الإمام(ع) للإقدام على المهادنة مع معاوية.
نعم الذي نـتصوره، أن هذين الوجهين السابقين، وبإضافة أمر ربما يكون متمماً لهما، يمكن أن يكون السبب الذي دعى الإمام(ع) للمهادنة، وبالتالي التنازل عن السلطة والحكومة لمعاوية، وذلك الأمر هو:
إن المعصوم لا يجب عليه أن يجبر الأمة في تقرير مصيرها، وتعيـين من يسوس أمرها، بمعنى أنه لابد من التفكيك بين نقطتين أساسيتين:
الأولى: مسألة الإمامة، والتنصيب الإلهي، فهذا ليس للأمة فيه مدخلية من قريب أو بعيد في عملية القبول، والرفض.
الثانية: المنهج السياسي المتبع، بما في ذلك الشخصية التي تقوم بعملية تنفيذ المنهج المقترح.
وهذه النقطة أمرها بيد الأمة، فهي التي تقرر المقبولية، أو تقرر الرفض، ولها كامل الخيار والحرية، في انتخاب من تريد، وتعيـين من تشاء.
من هنا نقول، بأن التنازل الذي صدر من الإمام(ع) كان أحد أبرز عوامله الأساسية، هو إرادة الأمة ذلك، حيث أن الأمة بنفسها كانت مريدة لهذا الجانب، وعليه أقدم الإمام(ع) على ما أقدم عليه.