ثنائية الدين(4)
ثنائية الدين:
ومن الآيات التي يتمسك بها الداعون لحرية الانسان في انتخاب الدين الذي يتعبد به، والعقيدة التي يعتقدها ما جاء في ذيل سورة(الكافرون)، وهو قوله تعالى:- (لكم دينكم ولي دين)[1]، بدعوى دلالتها على القبول بتعدد الأديان، لأن المستفاد من ظاهرها قبوله(ص) ببقاء الكفار في مكة على ما هم عليه من عبادة الأصنام، والتـزامه هو بالتعبد بالدين الاسلامي، وهذه النتيجة تشير إلى استحالة توحيد العقائد والمذاهب والأديان، فيثبت الحرية لكل فرد في ما يشاء التعبد به، وانتخاب ما يرغب الاعتقاد.
وتمنع دلالة الآية الشريفة على المدعى بملاحظة أمور:
الأول: سبب نزول الآية الشريفة:
فإن الرجوع للمصادر التفسيرية والروائية وملاحظة ما تضمنته بياناً لسبب نزولهها، يمنع من حملها على المعنى المتصور عند هؤلاء، فقد جاء فيها أن قريشاً عرضت على النبي(ص) أن يعبد آلهتها سنة ويعبدون إلهه سنة، قالوا: هلم يا محمد فاتبع ديننا نتبع دينك، ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد آلهتك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه. فقال(ص): معاذ الله أن أشرك به غيره. قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد آلهتك، فقال(ص): حتى انظر ما يأتي من عند ربي، فنـزلت السورة[2].
ويستكشف من خلال سبب النـزول المذكور عدم دلالة الآية الشريفة على ما يروم هؤلاء الوصول إليه، لأنه لو كان النبي الأكرم محمد(ص) مقراً هؤلاء على ما هم عليه ديناً وعقيدة، ويرى حقانيتها لقبل التعبد بها.
وما رفض النبي(ص) ذلك إلا بياناً واضحاً على بطلانها، وعدم صحة التعبد والتدين بها، وهذا يدل على عدم تمامية الدعوى المذكورة.
الثاني: تحديد المقصود من الدين في الآية:
ذلك أن دلالتها على مختارهم تتم لو كان المقصود من الدين في الآية الشريفة بمعنى الديانة والعقيدة التي يتعبد بها. أما لو بني على أن المقصود منه شيء آخر كالجزاء فسوف تكون الآية المباركة أجنبية تماماً عن الموضوع.
وعلى أي حال، فهنا احتمالان:
الأول: أن يكون المقصود من الدين في الآية الشريفة هو الديانة والعقيدة.
الثاني: أن يكون المقصود منه هو الجزاء.
وأختار صاحب الميزان العلامة الطباطبائي(ره) الثاني منهما[3]، ويمكن ذكر قرينتين على ذلك:
الأولى: إن الاحتمال الأول يخالف الحال القطعي لرسول الله(ص)، وعقيدته ودعوته وحروبه وتكسيره للأصنام، وهذه الآية نظير قوله تعالى:- (أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون)[4].
الثانية: وجود مانع يمنع من حمل الدين في الآية الشريفة على الاحتمال الأول، لأن المفروض أن المخاطب في الآية المباركة هم الكفار الذين لا دين لهم، أي لا مبدأ ولا عقيدة، وكل فكرهم خراب لا أهمية له، فيكون المقصود من الدين فيها هو الجزاء، وليس شيئاً آخر. وهذا يجعل المقصود من الدين في الآية هو الجزاء[5].
لا دين للكفار:
ويمكن تقريب عدم ثبوت دين للكفار بأحد تقريبين:
الأول: إن الدين ينحصر في خصوص ما يكون نازلاً من الله سبحانه وتعالى من السماء، فلا يطلق الدين على المخترعات الأرضية الدنيوية كالماركسية وغيرها، لأنها مجرد أسماء سموها ما يجعل الدين بالنسبة إليهم سالبة بانتفاء الموضوع.
الثاني: إن الدين منحصر في أمور معينة، وهي الأصول والفروع والعقيدة، والتشريع، والفقه، وكل ما قابل ذلك من الآراء لا يعتبر ديناً، فيكون أيضاً سالبة بانتفاء الموضوع[6].
الثالث: كون اللام الواردة في الآية للاختصاص:
كما أن التقريب المذكور لدلالة الآية المباركة يعتمد على أن تكون اللام الواردة فيها للإقرار، لتكون دالة على إقرار النبي(ص) لكفار مكة بالبقاء على دينهم، والاستمرار على ما يعبدون.
والصحيح أن اللام الواردة فيها للاختصاص، وليست للإقرار، ويشهد لذلك أمران:
أحدهما: قرينة عامة، وهو هدف السورة، وهو التفريق بين الحق والباطل، ويساعد على ذلك السياق اللغوي من أن أهل الباطل مختصون بكفرهم، لا أنهم مقرون عليه.
ثانيهما: قرينة خاصة، وهي ظهور اللام لغة في الاختصاص[7].
إن قلت: إن كلمة(دين) في الآية الشريفة يصعب حملها على الجزاء، فإنها مكسورة، وهذا الكسر يدل على أن هناك ياء محذوفة، وعليه، تكون الآية المباركة هكذا: ولي ديني.
قلت: هناك جوابان:
الأول: أن يكون هناك مقدر محذوف، وهو كلمة(جزاء)، فيكون المعنى: ولكم جزاء دينكم، ولي جزاء ديني.
الثاني: إن التعبير المذكور فيه نوع من التحقير والتهديد، أي دعكم ودينكم فسترون قريباً عاقبة أمركم، ويساعد على ذلك العديد من الآيات المتضمنة لرفض الشرك بكل ألوانه وتعتبره عملاً لا شيء أبغض منه وأنه ذنب لا يغفر.
آيات أخرى:
وقد تحصل مما تقدم أن الدعوى المطروحة في حرية العقيدة والدين ليست تامة، لعدم تمامية الدليل عليها، وأن القرآن الكريم لا يدعو إلا إلى دين وعقيدة واحدة، وهي الإسلام، ومنه يتضح عدم تمامية الاستناد للدعوى المذكورة بآيات أخرى غير ما ذكرنا، مثل قوله تعالى:- (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، فإن الجواب عنها يظهر من خلال التأمل في ما تقدم ذكره من الإجابة.
————————–
[1] سورة الكافرون الآية رقم 6.
[2] نور الثقلين ج 8 ح 21 ص 340.
[3] الميزان في تفسير القرآن ج 20 ص 374.
[4] سورة يونس الآية رقم 41.
[5] منة المنان في تفسير القرآن ج 1 ص 201-202(بتصرف).
[6] المصدر السابق ص 202.
[7] المصدر السابق.