الحياة البرزخية
بدايتها، أدلتها، خصائصها(2)
أهل البرزخ:
ثم إنه بعد الوقوف على وجود عالم البرزخ، والإحاطة إجمالاً بحقيقته، وبشيء مما يرتبط به، لابد من الوقوف على أهله، خصوصاً وأن المستفاد من النصوص، أنه ليس كل من يموت يكون في عالم البرزخ، وإنما يفرق الحال، فإن الناس صنفان، صنف يدخل هذا العالم، وصنف لا، ومن يدخله من الناس نوعان: من محض الإيمان قلبه محضاً، ومن محض الكفر قلبه محضاً.
والحاصل، إن المستفاد من النصوص، أن الناس بالنسبة لعالم البرزخ على ثلاثة أنواع:
الأول: من محض الإيمان قلبه محضاً.
الثاني: من محض الكفر قلبه محضاً.
وهذان الصنفان كما عرفت يدخلان عالم البرزخ، ويعيشان ما يجري فيه مما تقدمت الإشارة إليه.
الثالث: المستضعفون، وهم الذين عبرت عنهم النصوص بالملهى عنهم، ولهم مصاديق عديدة، فمنهم البله، والذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئ، فلم تترجح كفة أحد الجانبين، والقاصر الذي لم تصله الحجة البالغة، ولو بسبب الظلمة.
وبالجملة، يجمع من ذكرنا وغيرهم، أنهم من لم يمحضوا الإيمان محضاً، ولم يمحضوا الكفر محضاً.
ففي رواية أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر(ع) قال: لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً، فقلت له: فسائر الناس؟ فقال: يلهى عنهم[1]. وهي مروية عن الكافي أيضاً عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)[2].
وقد يتأمل في تعددهما، بل يستبعد ذلك أن يروي راوي واحد عن إمامين مختلفين نفس الحديث بنفس الألفاظ، وتحقيق ذلك ليس مهماً كثيراً خصوصاً وأن في البين اطمئناناً بصدور أحدهما عن المعصوم(ع)، على أقل التقادير.
ومنها: رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(ع) قال: إنما يسأل في قبره من محض الإيمان والكفر محضاً، وأما ما سوى ذلك فيلهى عنه[3].
ومنها: ما رواه محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله(ع): لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً[4].
ومنها: ما رواه زرارة، قال: سألت أبا جعفر(ع) عن المستضعف، فقال(ع): هو الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر، ولا يهتدي سبيلاً إلى الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر، فهم الصبيان، ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع القلم عنهم[5].
ومع أن المقصود من الذين محضوا الإيمان والكفر محضاً، قد اتضح من خلال بيان مصاديق القسم الثالث من الناس، وهم الملهى عنهم، إلا أنه يحسن بيان ذلك زيادة في الإيضاح، ورفعاً للالتباس.
محض الإيمان ومحض الكفر:
المحض بحسب معناه لغة عبارة عن الشيء الخالص، والمقصود منه في النصوص هو كل من كان متمحضاً في عقيدته، فمعنى محض المؤمن الإيمان، يعني قد تمحض في عقيدته، وقد عرفوا الإيمان المحض بأنه: معرفة الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، والنبي محمد(ص) بالرسالة، والإمام بالولاية، والاعتقاد ببطلان العقائد المخالفة لذلك[6].
ويستفاد هذا التعريف من النصوص، ففي رواية أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله(ع): من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف[7]. ومع أن لفظ المستضعف يشمل مصاديق متعددة، فقد يكون مستضعفاً سياسياً، وقد يكون اقتصادياً، وقد يكون غير ذلك، إلا أنه بمناسبة الحكم والموضوع يقصد منه المستضعف العقدي، وهذا يشكل قرينة على أن المقصود باختلاف الناس، اختلافهم في العقائد. قال العلامة المجلسي(ره): ثم اعلم أن المستضعف عند أكثر الأصحاب من لا يعرف الإمام، ولا ينكره، ولا يوالي أحداً بعينه كما ذكره الشهيد(ره) في الذكرى، وحكى عن المفيد في الغرية أنه عرفه بأنه الذي يعرف بالولاء ويتوقف عن البراءة، وقال ابن إدريس: هو من لا يعرف اختلاف الناس في المذاهب، ولا يبغض أهل الحق على اعتقادهم، وهذا أوفق بأخبار هذا الباب[8].
وما حكاه(ره) عن ابن إدريس(قده)، دلت عليه بعض النصوص، فعن عمر بن أبان، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن المستضعفين فقال: هم أهل الولاية، فقلت: أي ولاية؟ فقال: أما إنها ليست بالولاية في الدين ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ووهم ليسوا بالمؤمنين لا بالكفار، ومنهم المرجون لأمر الله عز وجل[9].
واختلاف الناس في العقائد لا يخرج عن أحد اثنين:
الأول: أن يكون الإنسان جاهلاً لا يقدر على معرفة الحق من الأراء.
الثاني: أن يكون الإنسان عالماً يعرف ما هو الحق منها.
ولا ريب في حكم العقل بدفع الضرر المحتمل من خلال الفحص لمعرفة الحق، والصحيح منها، ويؤيد ذلك النصوص التي تضمنت أمر المكلفين بمعرفة التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد.
وعلى أي حال، يلزم الجاهل مراجعة العالم حتى يوقفه على الحق، ويعرفه الصواب. وأما العالم بالحقائق، فمطلوب منه التحري والفحص ليقف على الحق.
وعلى أي حال، فإن الصنفين المذكورين في اختلاف الناس، لا ينطبق عليهما عنوان المستضعف، بل هما إما ممن محض الإيمان محضاً، إذا سلكا طريق العلم الصحيح واتبعا الكتاب والسنة، ولهما الجنة. أو ممن محض الكفر محضاً متى سلكا طريق التعصب وقلدا الأباء والأمهات. ويشير لهذا المعنى رواية أيوب بن الحر، قال: قال رجل لأبي عبد الله(ع) ونحن عنده: جعلت فداك إنا نخاف أن ننـزل بذنوبنا منازل المستضعفين. قال: فقال: لا والله لا يفعل الله ذلك بكم أبداً[10]. ومقتضى الاطلاق هو الشمول لكافة الشيعة، وقد دلت الرواية على أن المناط في محض الإيمان ليس على الذنوب والمعاصي، بل على المعرفة والاعتقاد.
وهذا ربما يبرر ما تضمنته بعض النصوص من ضرورة تلقين الميت حين دفنه بما يذّكره ما كان يعتقد من التوحيد، والنبوة، والإمامة من خلال ذكر أسماء الأئمة(ع) بالتفصيل والبراءة من أعدائهم الغاصبين مناصبهم التي نصبهم الله فيها.
ووفقاً لما تقدم، سوف يكون الباقين تحت عنوان المستضعف هو خصوص من لم يعرف الاختلاف، أو الذي لم تصل إليه حجة أبداً، ويدل على ذلك رواية علي بن سويد،
ووفقاً لما تقدم، يمكن القول أن من محض الكفر محضاً له مصاديق ثلاثة:
أحدها: الكفار الذين جحدوا بالله سبحانه وتعالى، وهم الوثنيون وأمثالهم.
ثانيها: الذين جحدوا برسول الله(ص)، ولم يؤمنوا بنبوته، ويدخل في ذلك أهل الأديان الذين تعمدوا في ترك الفحص عن حقانية الإسلام، أو قصروا في الإيمان به.
ثالثها: من جحد ولاية أمير المؤمنين علي والأئمة الأطهار(ع) من ولده بعده، الذين نصبهم الله سبحانه ورسوله الكريم(ص) أئمة على الخلق.
وعلى أي حال، أما المستضعف فلا يكون مورداً لشيء في القبر ولا البرزخ، فلا يسأل ولا ينعم ولا يعذب[11].
وقد برر بعضهم ذلك بلحاظ أن الله سبحانه وتعالى قد أوعد المؤمنين بالتنعيم، وأوعد الكافرين بالعذاب، فالوعد والوعيد يشمل العالمين الملتفتين الذين يفهمون الحقائق ويدركونها، والمستضعف لما لم يكن ملتفتاً لشيء من ذلك، فلا يعبأ به.
ولا يعني هذا عدم وجود حياة برزخية للمستضعفين، بل هي موجودة، لكنها في أدنى درجاتها، ومراتبها، في بمنـزلة النوم في عالم الدنيا[12].
وأما أطفال الأصناف الثلاثة ففيهم كلام طويل، أعرضنا عن ذكره حذراً من إطالة البحث، ويمكن للقارئ العزيز الرجوع لما حررته يراع غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره) في موسوعته مرآة العقول[13].
حال أهل البرزخ:
وقد تضمنت النصوص وصفاً لما عليه أهل البرزخ، وبيان حالهم، ففي رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن أرواح المؤمنين؟ فقال: في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها، ويقولون ربنا أقم الساعة لنا، وأنجز لنا ما وعدتنا وألحق آخرنا بأولنا[14].
وفي رواية أبي ولاد الحناط قال: وسألته عن أرواح المشركين، فقال: في النار يعذبون، يقولون: ربنا لا تقم لنا الساعة، ولا تنجز لنا ما وعدتنا، ولا تلحق آخرنا بأولنا[15].
ومن هنا أكدت النصوص على أن الميت ينتفع بما يعمل له من أعمال بعد موته، فعن أبي عبد الله(ع)، قال: من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً أضعف الله له أجره، ونفع الله به الميت[16].
وفي حديث آخر: يدخل على الميت في قبره الصلاة والصوم والحج والصدقة والبر والدعاء ويكتب أجره للذي يفعله وللميت[17]. ومقتضى اطلاقهما استفادة مطلق الميت مما يعمل له من الأعمال، نعم بعضهم تكون فائدته بزيادة حسناته، بل رفع درجته، وبعضهم تكون منفعته بتخفيف العذاب عنه، وهذا ما تضمنته بعض النصوص[18].
وهذا يؤكد أن البرزخ ليس موتاً، بل حياة كاملة، فيها الشعور والعلم والفهم والارتباط الانساني في الخير والشر، ويساعد على ذلك نصوص، مثل: ما تضمن أن الميت يزور أهله، وقد سبقت الإشارة إليها في ما تقدم، وقد عرفت أن ما تضمنه بعضها من زيارته لأهله، كل جمعة، أو كل شهر مرة، أو غير ذلك، مرجعه إلى عمله الصادر منه، ومعرفته. بل في بعض النصوص أن المؤمن يحجب عنه ما يسؤوه، والكافر يرى ما يكره، ففي رواية حفص بن البختري، عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، ويستر عنه ما يكره، وإن الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحب[19].
ومثل ذلك ما ورد أن رسول الله(ص) وقف على قليب بدر، فقال للمشركين الذين قتلوا يومئذٍ، وقد ألقوا في القليب: لقد كنتم جيران سوء لرسول الله(ص)، أخرجتموه من منزله، وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً. فقال له عمر: يا رسول الله، ما خطابك لهام قد صديت؟ فقال له: مه يا ابن الخطاب! فوالله ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم[20].
العلاقة بين عالم البرزخ وعالم الدنيا:
قد عرفت في ما تقدم، أن حياة البرزخ حياة وسطية بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، فهي تشمل شيئاً من حياة الدنيا، وشيئاً من حياة الآخرة، وهي مثل الرؤيا الصادقة، فلا ريب أن الروح تبقى حية مع انفصالها عن الجسد، تدرك الأمور وتعلم بها، وترى الأشياء على حقائقها، نعم قد تحجب عن عالم الآخرة، فلا ترى شيئاً منه، لعدم أهليتها[21].
ويحصل في عالم البرزخ تكامل واستكمال للإنسان، فكما أن الإنسان يتكامل في عالم الدنيا، يحصل ذلك في عالم البرزخ. نعم يتكامل الإنسان في عالم الدنيا بأعماله التي تصدر عنه غالباً، وأما في عالم البرزخ يكون تكامل الإنسان من خلال الأعمال التي تهدى إليه، من الصدقات والمبرات بل من السنن الحسنة التي قد سنها أيضاً في عالم الدنيا، ويصله أثرها في عالم البرزخ.
والحاصل، إن الذي يجري في البرزخ في الحقيقة استكمال للعمل، وليس عملاً جديداً ابتدائياً، بمعنى أن ما يصل الإنسان في ذلك العالم هو نتائج ما قد عمله في عالم الدنيا، وإليه يشير الحديث المعروف: من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء.
ومثل ذلك آثار الأعمال التي يعملها أهله له، فيتغير حاله، فبعدما كان معذباً، يصبح منعماً، لأنه قد أدرك له ولد صالح وصدرت منه أعمال حسنة وصالحة مثلاً، فتصل آثارها إليه، وهكذا، وقد تضمنت النصوص أن ما يتبع الرجل بعد موته إلى يوم القيامة خصال ثلاث، صدقة أجراها في حياته، وهي تجري إلى يوم القيامة، وسنة هدى سنها ومان يعمل بها وعمل بها من بعده غيره، وولد صالح يستغفر له[22]، فعن أبي عبد الله(ع) قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته إلى يوم القيامة، وصدقة موقوفة لا تورث، أو سنة هدى سنها، وكان يعمل بها، وعمل بها من بعده غيره، أو ولد صالح يستغفر له[23].
وقد جعلت بعض النصوص الأمور خصالاً ستاً، فعن أبي عبد الله(ع) قال: ست خصال ينتفع بها المؤمن من بعد موته: ولد صالح يستغفر له، ومصحف يقرأ فيه، وقليب يحفره، وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده[24].
والظاهر أنه لا معارضة ولا منافاة بينها، لأنه يمكن الجمع بينها من خلال الحصر الإضافي، لو بني على ظهور الطائفة الأولى من النصوص في الحصر.
ويمكن أن يبنى على عدم خصوصية لشيء من العناوين التي تضمنتها النصوص، وأن يجعل المعيار، أعمال البر والخير، والسنة الحسنة، فكل ما انطبق عليه شيء مما ذكر، كان سبباً لاستمرار الأجر والثواب.
———————————
[1] بحار الأنوار ج 6 كتاب العدل والمعاد باب أحوال البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله ح 52 ص 235.
[2] المصدر السابق ح 97 ص 260.
[3] المصدر السابق ح 98 ص 260.
[4] المصدر السابق ح 100 ص 260.
[5] الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب المستضعف ح 1 ص 404.
[6] الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج 7 ص 238.
[7] الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب المستضعف ح 10 ص 406.
[8] مرآة العقول ج 11 ص 210.
[9] الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب المستضعف ح 5 ص 405.
[10] الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب المستضعف ح 9 ص 406.
[11] الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج 7 ص 238-240(بتصرف).
[12] المصدر السابق ص 241-242.
[13] مرآة العقول ج 11 ص 202-208.
[14] الكافي ج 3 كتاب الجنائز باب آخر في أرواح المؤمنين ح 4 ص 244.
[15] الكافي ج 3 كتاب الجنائز باب آخر في أرواح المؤمنين ح 1 ص 244.
[16] وسائل الشيعة ج 2 باب 28 من أبواب الاحتضار وما يناسبه ح 4 ص 442.
[17] المصدر السابق ح 3 ص 444.
[18] وسائل الشيعة ج 8 ب 12 من أبواب قضاء الصلات ح 8 ص 278.
[19] الكافي ج 3 كتاب الجنائز باب إن الميت يزور أهله ح 4 ص 246.
[20] بحار الأنوار ج 6 كتاب العدل والمعاد باب البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله ح 87 ص 254.
[21] الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج 7 ص 300.
[22] المعاد ج 1 ص 225.
[23] الخصال ح 184 ص 151.
[24] المصدر السابق الباب 6 ح 9 ص 323.