الحياة البرزخية
بدايتها، أدلتها، خصائصها
إن الأصل في المفاهيم القرآنية حملها على معانيها الظاهرة منها عرفاً وفق ما تضمنته كتب أهل اللغة، ورفع اليد عن ذلك يحتاج قرينة موجبة لذلك، فلفظة اليد الواردة في قوله تعالى:- (يد الله فوق أيديهم)[1]، لولا منع التجسيم عن الذات المقدسة، لم يكن هناك موجب لحملها على غير ما هو الظاهر منها.
ومن المفاهيم التي تضمنها القرآن الكريم مفهوم البرزخ، ويقصد منه الفاصل والحاجب والحاجز بين الشيئين، كما تضمنته كلمات أهل اللغة، وقد استعمله القرآن الكريم في ذلك، كما في قوله تعالى:- (بينهما برزخ لا يبغيان)[2]، يعني فاصل وحاجب. وهذا ينطبق أيضاً على قوله تعالى:- (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)[3]، لأن الحياة البرزخية تمثل فاصلاً بين عالمين، عالم الدنيا وعالم الآخرة.
أقسام البرزخ:
وقد تضمنت كلمات الفلاسفة والحكماء أن البرزخ قسمان:
الأول: البرزخ النـزولي:
ويعبر عنه أيضاً بقوس النـزول، والمقصود من هذا القسم، هو النشأة التي سبقت النشأة الدنيوية للإنسان قبل مجيئه إلى عالم الدنيا، ويعبر عنها بعالم المثال، وإليه يشير قوله تعالى:- (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)[4]، فإنها تتحدث عن الإنسان في مرحلة ما قبل النشأة الدنيوية والتي يعبر عنها بعالم الذر، وفقاً لمختار المشهور.
وفي ثبوت هذا القسم من البرزخ خلاف شديد بين الفلاسفة أنفسهم والمتكلمين، فإنهم منقسمون بين ما يبني على ثبوته يلتـزم بوجوده، وبين من ينفي وجوده، ولا يثبته.
الثاني: البرزخ الصعودي:
وهو المعبر عنه بقوس الصعود، ويقصد منه الحياة التي تفصل الحياة الدنيوية عن الحياة الأخروية.
ولكل واحد من القسمين المذكورين مميزات يختلف بها عن الآخر، فالبرزخ النـزولي لا يتضمن تكليفاً، فلا ينقسم الناس فيه إلى منعمين ومعذبين، ومن هنا منع بعضهم أن يكون الصادر من آدم(ع)، تركاً للأولى، فضلاً عن أن يكون معصية وجرماً، لأن ما صدر منه(ع) لم يصدر في عالم التكليف، وإنما صدر في عالم المثال والبرزخ.
وهذا بخلاف البرزخ الصعودي، فإن الناس فيه يقسمون إلى قسمين، فقسم منهم منعم، وآخر معذب، وذلك نتيجة ما صدر منهم من أعمال في عالم الدنيا.
وبكلمة ثانية، إن ما يجده الإنسان في البرزخ الصعودي، هو صورة مجسمة لما صدر عنه من أفعال في عالم الدنيا، وليست شيئاً آخر[5].
بداية الحياة البرزخية:
وقع الخلاف بين الأعلام في تحديد مبدأ الحياة البرزخية، ومنشأ الخلاف المذكور، يعود إلى نقطتين:
الأولى: تحديد الجسد الذي يكون مورداً للسؤال في القبر، فإن فيه احتمالين:
أحدهما: أن يكون الجسد هو الجسد العنصري المادي الذي كان يحيى به الإنسان في عالم الدنيا، فتعود الروح إليه من جديد بعد وضعه في القبر.
ثانيهما: أنه جسد مثالي آخر يغاير الجسد العنصري الذي كانت الروح فيه قبل موت الإنسان.
الثانية: أن القبر الذي يكون مورداً للسؤال، هو القبر الكلامي، وهو الموضع الذي يعيش فيه الإنسان حياته الأخرى بعد خروجه من الحياة الدنيا في عالم ما وراء هذا العالم. أو القبر الفقهي، ونقصد بالقبر الفقهي الحفرة التي تحفر للميت ويوضع فيها.
وقد تم تحديد مبدأ الحياة البرزخية اعتماداً على الجواب المذكور حول النقطتين السابقتين، فمن أختار أن المسؤول في القبر هو الجسد العنصري المادي، وأنه مورد السؤال هو القبر الفقهي، بنى على أن الحياة البرزخية، تبدأ بعد الانتهاء من السؤال في القبر، ومن أختار أن المسؤول هو الجسد المثالي الجديد، وأن مورد السؤال هو القبر الكلامي، بنى على أن بداية الحياة البرزخية تكون بمجرد وضع الإنسان في قبره، لأن آخر محطة من محطات الدنيا، هي أول ساعات الاحتضار، وأما ما يتبع ذلك من أمور، فإنها من عالم الآخرة، وليست من عالم الدنيا.
وكيف ما كان، فهناك قولان في المقام:
الأول: ما يظهر من جملة كبيرة من الأعلام، بل لعله المشهور بين علماء المسلمين، من عدّ القبر وما يتبعه من عوالم الدنيا، وليس من عوالم البرزخ، وحياة الآخرة، وأن الجسد الذي يسأل في القبر هو الجسد العنصري، وليس الجسد المثالي، وعليه لا يبدأ عالم البرزخ إلا بعد الانتهاء من مسائلة القبر. وطبقاً لهذا الرأي سوف يكون المقصود من القبر في النصوص التي تحدثت عنه، القبر الفقهي[6].
الثاني: ما أختاره جماعة من الفلاسفة، كشيخ الإشراقيـين، وصدر المتألهين، والفيض الكاشاني، والسيد العلامة الطباطبائي، وبعض الأعيان(ره)، من أن أول منازل الآخرة هو القبر، وآخر علاقة الإنسان بالدنيا هي ساعات الاحتضار، وأول علاقته بالآخرة، وعليه سوف تكون حياة القبر والمساءلة فيه لجسم مثالي، وليس للجسم المادي العنصري[7].
ومن الطبيعي أن يكون المقصود للقبر عندها في النصوص، هو القبر الكلامي، وليس القبر الفقهي. ومن هنا ألتـزموا بوجود قبر لكل ميت ولو لم يكن له قبر فقهي، كمن أكله السبع، أو ألقي في البحر، أو مات حرقاً، أو غير ذلك.
وقبل العمد إلى عرض أدلة كلا القولين، يحسن الإشارة إلى شبهة تذكر حول مسألة حياة البرزخ، ووجود سؤال في القبر، وما يتبع ذلك، وهي تصلح أيضاً أن تكون مستنداً لأصحاب القول الثاني، كما سنشير، وحاصلها، أن يقال: إنه لو تمت عملية نبش قبر من القبور بعد وضع الميت فيه بمدة كليلة أو ليلتين، فإنه لن يجد النابشون شيئاً متغيراً، وإنما سيرون الميت الذي وضعوه كما هو خشبة هامدة لم يطرأ عليها أي تغيـير.
بل إنه لو تم تـزويد القبر ببعض الوسائل الحديثة الإلكترونية، والتي يمكن بواسطتها رصد الصوت والصورة، فيمكن من خلالها نقل الوقائع للخارج، فإن المتابعين لما يجري في القبر بعد وضع الميت فيه، لن يجدوا شيئاً خلال فترة الرصد في الليلة الأولى التي تمر على الميت فيه، بل حتى لو طالت مدة الرصد، فإنهم لن يجدوا شيئاً أيضاً. مع أن المفروض أنه لو كانت الحوادث المذكورة من سنخ المادة، وأنها مرتبطة بالجسد العنصري المادي، كما يدعيه أصحاب القول الأول، لرآها الإنسان، وسجلتها الأجهزة الخاصة.
ومع عدم ثبوت ذلك، يلزم أن يكون القبر وما فيه من محطات عالم الآخرة، وليس من محطات عالم الدنيا، وأن السؤال فيه يكون للجسم المثالي، وليس للجسم العنصري.
نعم لا ريب أنهم سيرون حالة التغير التي تطرأ على الإنسان نتيجة وضعه في التراب، وهذا بحث آخر.
على أنه يضاف لذلك أيضاً من لا يكون له قبر فقهي، كالغريق، والمصلوب، والمحروق، وغيرهم، فإن عدم وجود قبر فقهي لهم، يوجب التساؤل عن كيفية سؤالهم في القبر، وكيف سيكون عذابه بالنسبة إليهم.
وبالجملة، إن هذا يمنع من وجود حياة في القبر، فضلاً عن وجود سؤال فيه، كما لا توجد حياة برزخية أيضاً.
أدلة القول الأول:
وعلى أي حال، فقد استدل القائلون بالقول الأول بالنصوص الواردة في سؤال القبر وعذابه، من خلال حملها على ظاهرها، وعدم التصرف في ظهورها، وهي نصوص عديدة، جمع أكثرها غواص بحار الأنوار(ره):
منها: رواية سليمان بن مقبل، عن موسى بن جعفر، عن أبيه(ع)، قال: إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألف ملك إلى قبره، فإذا ادخل قبره أتاه منكر ونكير فيقعدانه ويقولان له: من ربك؟ وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، ومحمد نبي، والإسلام ديني، فيفسحان له في قبره مدّ بصره، ويأتيانه بالطعام من الجنة، ويدخلان عليه الروح والريحان، وذلك قوله عز وجل:- (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان)، يعني في قبره(وجنة نعيم)، يعني في الآخرة، ثم قال(ع): إذا مات الكافر شيعة سبعون ألفاً من الزبانية إلى قبره، وإنه ليناشد حامليه بصوت يسمعه كل شيء إلا الثقلان، ويقول: لو أن لي كرة فأكون من المؤمنين، ويقول: ارجعون لي أعمل صالحاً فيما تركت، فتجيبه الزبانية: كلا إنها كلمة أنت قائلها، ويناديهم ملك: لو رد لعاد لما نهي عنه، فإذا ادخل قبره وفارقه الناس أتاه منكر ونكير في أهول صورة فيقيمانه، ثم يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيتلجلج لسانه، ولا يقدر على الجواب، فيضربانه ضربة من عذاب الله يذعر لها كل شيء، ثم يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت ولا هديت، ولا أفلحت، ثم يفتحان له باباً إلى النار، ويتـزلان إليه من الحميم من جهنم، وذلك قول الله عز وجل:- (وأما إن كان من المكذبين الضالين فنـزل من حميم)، يعني في القبر(وتصلية جحيم)، يعني في الآخرة[8].
ومنها: ما رواه سويد بن غفلة، عن أمير المؤمنين(ع)، قال: إن ابن آدم إذا كان آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة مثل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك لحريصاً شحيحاً، فما لي عندك-إلى أن قال-فإذا ادخل قبره أتاه ملكان وهما فتانا القبر يجران أشعارهما، ويبحثان الأرض بأنيابهما، وأصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك، ومن نبيك، وما دينك فيقول: الله ربي، ومحمد نبي، والاسلام ديني[9].
ومنها: ما رواه أبو بصير، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: إذا وضع الرجل في قبره أتاه ملكان: ملك عن يمينه، وملك عن يساره، وأقيم الشيطان بين عينيه، عيناه من نحاس، فيقال له: كيف تقول في الرجل الذي كان بين ظهرانيكم؟ قال: فيفزع له فزعة، فيقول إذا كان مؤمناً: أعن محمد رسول الله(ص) تسألاني؟ فيقولان له: نم نومة لا حلم فيها، ويفسح له في قبره تسعة أذرع، ويرى مقعده من الجنة، وهو قول الله عز وجل:- (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، فإذا كان كافراً قالا له: من هذا الرجل الذي خرج بين ظهرانيكم؟ فيقول: لا أدري، فيخليان بينه وبين الشيطان[10].
ومنها: روايته الأخرى، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن المؤمن إذا أخرج من بيته شيعته الملائكة إلى قبره يزدحمون عليه حتى إذا انتهي به إلى قبره قالت له الأرض: مرحباً بك وأهلاً، أما والله لقد كنت أحب أن يمشي علي مثلك، لترين ما أصنع بك، فيوسع له مدّ بصره، ويدخل عليه في قبره ملكا القبر وهما قعيدا القبر: منكر ونكير فيلقيان فيه الروح إلى حقويه فيقعدانه ويسألانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان: من نبيك؟ فيقول: محمد(ص)، فيقولان: ومن إمامك؟ فيقول: فلان، قال: فينادي مناد من السماء: صدق عبدي، افرشوا له في قبره من الجنة، وافتحوا له في قبره باباً إلى الجنة، وألبسوه من ثياب الجنة حتى يأتينا، وما عندنا خير له، ثم يقال له: نم نومة العروس نم نومة لا حلم فيها، الحديث[11].
فإن المستفاد من هذه النصوص، هو عودة الروح إلى الجسد العنصري، وليس الجسد المثالي، فتكون المساءلة في القبر للجسد العنصري.
وقد تضمنت بعض النصوص عودة الروح إلى بعض الجسد وليس كله، وأنه تعود إلى نصفه حتى حقويه دون رجليه، بينما سكتت النصوص الأخرى عن تحديد ما ترجع إليه الروح، وهو ظاهر في رجوعها إلى الجسد بأكمله، ولا منافاة بينها، لأن الجميع منها مثبت، وإنما تكون المعارضة بين النصوص المثبتة، والنصوص النافية.
وقد علل بعضهم عودة الروح إلى بعض الجسد دون الجميع، بلحاظ ما له حاجة في عملية الاستجواب والمساءلة، فلا تعود إلى ما ليس له دخالة في ذلك، فتعود للعقل والبصر والسمع، واللسان، والقلب، لأن المسؤول يدرك السؤال بعقله، ويشاهد الملكين ببصره، ويتبادل الحديث والحوار معهما من خلال اللسان، والسمع، كما أن قلبه مستودع المعرفة والإيمان[12].
ويمكن الاستدلال لذلك أيضاً بالنصوص التي تضمنت ضغطة القبر، وهي بألسنة مختلفة، حتى أن بعضها تضمن أن المصلوب يضغط في الهواء، فإن هذا كله يساعد على أن الضغط للجسد العنصري الترابي، وليس الجسد المثالي، لأنه لو كان المقصود به المثالي، فلا حاجة لأن يأمر الله سبحانه وتعالى الهواء ليقوم بضغطه[13].
أدلة القول الثاني:
ولا يتوهم أحد أن أصحاب القول الثاني قد تركوا هذه النصوص ولم يعملوا بها اجتهاداً منهم في مقابل النص، وإنما هم ملتفتون إليها، عمدة ما كان، قد عمدوا إلى تأويلها وحملها على خلاف ظاهرها، وموجب ذلك، ما سمعته من الشبهة المذكورة حول وجود حياة في القبر، وعالم برزخ، من أنه لو تمكن أحد من فتح قبر بعد وضع ميت فيه، لن يجده قد تغير عن الحالة التي كان عليها قبل دفنه، بل حتى لو أستعين ببعض الوسائل الحديثة لنقل ما يجري داخل القبر بعد وضعه، لن يجد المشاهد شيئاً غير جثة هامدة ملقاة في وسطه. وبناءاً على هذا حملوا النصوص المذكورة والتي تضمنت مساءلة والقبر والحياة البرزخية، وعودة الروح للجسد، على الجسد المثالي، وليس العنصري.
وعلى أي حال، يمكن أن يستدل للقول المذكور أيضاً، بالإضافة لما سمعت، ببعض النصوص:
منها: ما رواه أبو ولاد الحناط، عن أبي عبد الله(ع)، قال: قلت له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش، فقال: لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، لكن في أبدان كأبدانهم[14]. فإنها لم تحدد وقت حلول أرواح المؤمنين في تلك الأبدان، ومقتضى الاطلاق أن ذلك يكون من أول محطات عالم الآخرة، فإذا ضمننا إليها أن القبر أول محطات الآخرة، لما ورد من أنه إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، ثبت المطلوب.
كما يمكن الاستدلال بما ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع)-في حديث-قال: البرزخ: القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة[15]. وهو نص في المطلوب، لتصريحه(ع) بأن القبر برزخ، وهو يشير لكونه فاصلاً بين عالم الدنيا والآخرة، فيكون مبدأ حياة الآخرة، ونهاية حياة الدنيا، وهذا يجعل أن أول محطات الآخرة هو القبر، فيكون السؤال فيه للجسد المثالي، وليس العنصري، فتأمل.
كما يمكن الاستدلال لذلك بما ورد عنه(ص)، من أن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار[16]، وهو صريح في أنه ليس مرتبطاً بعالم الدنيا، وإنما هو مرتبط بعالم الآخرة، ولذا وصف بما ذكر، فيكون المسؤول فيه هو الجسد المثالي، وليس العنصري.
كما يمكن الاستدلال لذلك بما جعل قرينة لتأويل النصوص الظاهرة في السؤال للجسد العنصري، من أنه لو فتح القبر، لن يجد الناظر فيه تغيـيراً عما عليه الميت بعد وضعه، ولن يجد المتابع له بواسطة الأجهزة الحديثة شيئاً مغايراً لما يراه منذ وضعه، كما سمعت ذلك قبل قليل.
الإجابة عن الاستدلال:
وقد عمد للإجابة عما تمسك به القائلون بالقول الثاني، فأجيب عن حمل النصوص على خلاف معناها، وتأويلها، بغير ما يظهر منها، بأنه حمل للنص على خلاف ظاهره، وهذا إنما يصار إليه حال وجود قرينة موجبة لذلك، أو وجود مانع يمنع من حمل النص على ظاهره، وكلا الأمرين غير متوفر في المقام، فإنه لا محذور في حمل النصوص على ظاهره، ولا يوجد ما يوجب ذلك.
نعم لو أن أصحاب القول الثاني، منعوا دلالة النصوص المذكورة على المطلوب، لعدم ظهورها في ذلك، فإنه كما يحتمل ظهورها في الجسد العنصري، يمكن حملها على الجسد المثالي، ولا موجب لترجيح أحدهما على الآخر، نعم في خصوص خبر أبي بصير والذي تضمن رجوع الروح إلى الحقوين، يمكن البناء على ظهورها، بل نصها على أنها في الجسد العنصري، وليس المثالي، ولكنها بالإضافة لضعف سندها، رواية واحدة، لا يوجد غيرها في الدلالة على المطلوب.
شبهة إنكار حياة القبر وعالم البرزخ:
وأجيب عن مراقبة القبر، وعدم وجود تغيـير فيه، بعد فتحه، بأمرين يؤلان لأمر واحد، وهو القدرة الإلهية:
أولهما: لا ريب في أن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، ومن قدرته تعالى أن يمنع الآخرين رؤية ما يجري في القبر، سواء بعد نبشه، أم حال مراقبته، وليس هذا أمراً مستحيلاً عليه تعالى، بل له نظائر في الدنيا، كالعذاب الذي يعاني منه النائم في عالم الرؤيا، وقد يرافق ذلك صراخ شديد، من دون أن يحس به من ينام قربه، أو إلى جواره، مع أن الشخص المعذب يستيقظ من نومه خائفاً مذعوراً مستوحشاً. وكذلك المريض الذي يعاني الألم الشديد، فإنه لا يحس أحد من أهله وذويه بشيء من آلامه وأوجاعه. ومثل ذلك أيضاً، مشاهدة النبي الأكرم محمد(ص) لجبرئيل(ع)، وسماعه لصوته دون أن يراه أحد من الصحابة، أو يسمعوا صوته.
ثانيهما: إن الله سبحانه وتعالى يصرف رؤية ما يجري في القبر على الميت عن أعين الناس وآذانهم، لئلا يروا عذاب الميت، ولا يسمعوا صراخه[17].
ما يسأل عنه في القبر:
وليس محور السؤال في القبر ما تناوله الإنسان من الطعام والشراب بصورة أساسية، فإنه لو سأل عن ذلك، فإنه يكون أمراً جانبياً، بل هناك أمر أساس يسأل عنه فيه، وهو المعارف الحقة، والعقيدة التي تحدد مصير الإنسان في الخير والشر، فقد روى زر بن حبيش الأسدي الكوفي، قال: سمعت علياً(ع) يقول: إن العبد إذا أدخل حفرته أتاه ملكان اسمهما منكر ونكير، فأول ما يسألانه عن ربه، ثم عن نبيه، ثم عن وليه، فإن أجاب نجا، وإن عجز عذباه. فقال له رجل: ما لمن عرف ربه ونبيه ولم يعرف وليه؟ فقال: مذبذب، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل فلن تجد له سبيلاً، ذلك لا سبيل له[18].
ومثلها ما رواه يونس قال: دخلت على الرضا(ع) فقال لي: مات علي بن أبي حمزة؟ قلت: نعم. قال: قد دخل النار. قال: ففزعت من ذلك. قال: أما إنه سئل عن الإمام بعد موسى أبي فقال: لا أعرف إماماً بعده، فقيل: لا، فضرب في قبره ضربة اشتعل قبره ناراً[19].
وجاء في رواية أخرى، أنه أقعد في قبره فسئل عن الأئمة(ع) بأسمائهم حتى انتهى إلي فسئل فوقف، فضرب على رأسه ضربة امتلأ قبره ناراً[20].
موجبات عذاب القبر:
ومع أن الحديث عن ذلك خارج عن صميم البحث، لأن الحديث ليس عن القبر وما يتعلق به، إلا أنه لما كان في الحديث عن عالم البرزخ جهة اشتراك بلحاظ أنه في القبر، فلنختم الحديث بما تضمنته بعض النصوص من الإشارة لبعض موجبات عذاب القبر، ويحسن بالقارئ العزيز الرجوع لكتاب منازل الآخرة للشيخ عباس القمي(ره)، فإنه كتاب جليل الشأن في هذا المجال، وقد تعرض للأسباب المؤدية لحصول عذاب القبر، كما ذكر أموراً توجب النجاة من ذلك. وليس ما تضمنته النصوص من ذكر سبب لعذاب القبر ينحصر في خصوص ما تضمنته، بل الظاهر أنها تشير لأبرز الأفراد وأجلى المصاديق وأوضحها، وإلا فيمكن أن تكون هناك أسباب أخرى موجبة لذلك.
وكيف ما كان، فقد ورد عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: من أتم ركوعه لم تدخل عليه وحشة القبر[21]. فإن المستفاد منه بمقتضى مفهوم الشرط أن من لم يتم ركوعه يصيبه عذاب القبر ووحشته.
وجاء عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: عذاب القبر يكون من النميمة والبول وعزب الرجل عن أهله[22]. وقد وقع الكلام في تحديد المقصود من قوله(ع): البول، خصوصاً وأنه قد تضمن ذلك غير واحد من النصوص، مثل ما جاء عن النبي(ص) أنه قال: أكثر عذاب القبر من البول، وقد جاء في بعضها أن ثلث عذابه منه، وثلثاه الآخران من الغيبة والنميمة.
وقد حمل بعضهم المقصود بالبول في هذه النصوص على عدم التحرز منه والتوقي عنه، سواء من خلال عدم الاعتناء بالطهارة منه بصورة صحيحة، أو بترك التطهر منه أساساً، أو بعدم التوقي من سريان نجاسته حال التبول[23].
————————————-
[1] سورة الفتح الآية رقم 10.
[2] سورة الرحمن الآية رقم 20.
[3] سورة المؤمنون الآية رقم 100.
[4] سورة
[5] المعاد ج 1 ص 185-189(بتصرف).
[6] يمكن الوقوف على هذا الرأي من خلال متابعة كلمات صاحب البحار(ره) في بحار الأنوار ج 6 عند حديثه عن البرزخ وما يتعلق به. وممن قال به الطوسي في كتابه الاقتصاد ص220، العلامة الحلي في المسلك في أصول الدين ص 138، وفي كشف المراد ص 424، البيهقي في إثبات عذاب القبر ص 8-9.
[7] ابن سنا ترجمة الرسالة الأضحوية، الشواهد الربوبية ص 276-282، علم اليقين في أصول الدين ص 890، تفسير الميزان ج 15 ص 68، ج 19، ص 135.تقريرات الفلسفة ج 3 ص 599-600.
[8] بحار الأنوار ج 6 باب أحوال البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله ح 22 ص 222-223.
[9] بحار الأنوار ج 6 باب أحوال البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله ح 26 ص 224-225.
[10] المصدر السابق ح 106 ص 262-263.
[11] المصدر السابق ح 108 ص 263-264.
[12] الحقائق والدقائق ج 7 ص 212.
[13] الحقائق والدقائق ج 7 ص 226.
[14] بحار الأنوار ج 6 باب أحوال البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله ح 119 ص 268.
[15] المصدر السابق ح 12 ص 218.
[16] بحار الأنوار ج 6 باب أحوال البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله ص 275.
[17] أجوبة الشبهات الكلامية ج 5 المعاد ص 101-102.
[18] بحار الأنوار ج 6 باب أحوال البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله ح 46 ص 233.
[19] اختيار معرفة الرجال ج 2 ح 833 ص 742.
[20] المصدر السابق ح 755 ص 705.
[21] الكافي ج 3 ح 7 ص 321.
[22] علل الشرائع ج 1 ح 2 ص 309.
[23] الحقائق والدقائق ج 7 ص 231.