وقفات مع النظرية الثانية:
والإنصاف، أنه ليس في ما استند إليه القائل بالنظرية الثانية ما يصلح للدليلية، كما أن ما اعتبره موانع من قبول النظرية الأولى يمكن دفعه وبيان الإجابة عنه بما يكون مقبولاً في المحافل العلمية عند أهل المعرفة، ولا يضره عدم قبول المستشكل به لانطلاقه من دواعي خاصة يود من خلالها تمرير ما يرغب تمريره.
وبالجملة، سوف نعرض لبيان نقض ما استند إليه على أنه دليل يدل على المدعى، والإجابة عن أهم ما ذكره من شواهد أو تساؤلات توجب التوقف في القبول بالنظرية الأولى، ويمكن للقارئ العزيز متابعة الإجابة على بقية الأمور بإذن الله تعالى.
مراتب النبي(ص):
قد عرفت أن المستدل قد جعل دعواه على أساس التفريق بين مراتب النبي(ص) ومقاماته، وحتى تتم دعواه لابد من إحراز أن ما صدر عنه(ص) نصاً على إمامة أمير المؤمنين(ع)، قد صدر منه وفقاً للمرتبة الرابعة وهي مرتبة البشرية، كي ما لا يكون المسلمون ملزمين بإتباعه فيها، ولم يكن صدور ذلك منه وفقاً للمرتبة الأولى.
ومن اللازم أن يكون هناك ضابطة جلية واضحة يعول عليها في إدراج أي تصرف يصدر منه(ص) تحت أي مرتبة من المراتب الأربع كي لا يوجب ذلك وقوع المسلمين في الحرج، إذ ربما يصدر منه(ص) فعل، أو قول ما، فيعتقد بعض المسلمين صدوره وفقاً لمرتبة الرابعة، فلا يلزمه العمل على وفقه، ويعتقد آخرون صدوره وفق المرتبة الأولى مثلاً فيلزم الإتيان به، فهل يا ترى يكون التارك له معذوراً، ويكون العامل به مثاباً، لو تبين بعد ذلك عدم لزوم العمل على وفقه، أو لزوم العمل به، أم لا؟
إن البناء على استحقاق التارك للعقاب يعدُّ قبيحاً، كما أن القول بعدم استحقاق الفاعل للثواب مثله، لأنه قد أمتثل فيكون مطيعاً، ولا يعدُّ التارك حسب الفرض عاصياً.
ولم يذكر صاحب النظرية الثانية ومن تبعه، الوجه الذي يمكن من خلاله التفريق بين كون ما صدر عنه(ص) مندرجاً تحت أي مرتبة من المراتب، حتى يعمل المسلمون على وفقه.
وعليه، يقال: هل أن ما صدر منه(ص) يوم غدير خم، عندما أوقف ذلك الجمع، وأمرَّ برجوع المتقدم، وتقدم المتأخر وقام في الهجير، وصدر منه ما صدر، نظير أكله(ص)، وشربه، ونومه، ومشيه في الأسواق، أم أن بينهما فرقاً؟!
وهل أن ما تضمنه حديث الطير المشوي، وحديث خاصف النعل، وأمثالهما من النصوص التي تضمنت النص والتأكيد على أمير المؤمنين(ع)، لا تختلف عن بقية الأفعال الاعتيادية التي تصدر عنه(ص) من أكل وشرب ونوم، وما شابه ذلك؟!
ولا يخفى أن مقتضى القاعدة حال الشك في أن الفعل الصادر منه(ص) من أي مرتبة من المراتب الأربع يقتضي أن يحكم بكونه من المرتبة الأولى، وليس الرابعة، وهذا يعني أنه لو شك في أن نصب النبي(ص) لأمير المؤمنين(ع) كان بلحاظ مرتبته الأولى، أم كان بلحاظ مرتبته الرابعة، كان مقتضى ذلك البناء على كونه بلحاظ المرتبة الأولى، وهذا يستوجب هدم جميع ما بنيت عليه النظرية الثانية كما هو واضح.
التأسي والاقتداء بالنبي(ص):
وللعلماء في مسألة التأسي بالنبي(ص) والاقتداء به، كلام، حيث يذكرون أن الأفعال الصادرة منه(ص) على ثلاث أنواع:
الأول: حالة الطبيعة البشرية، كالأكل والشرب والنوم والمشي.
الثاني: حالة الطبيعة الإنسانية مع تكثر خبراته في المجتمع.
الثالث: حالة التبليغ والعبادية، ما يصدر منه على أساسها.
وقد فرق أبناء الجمهور بين الأمور الثلاثة، فحكموا أن الاقتداء بالفعل الصادر عن النبي الأكرم(ص) ينحصر في خصوص النوع الثالث منها دون النوعين الأولين، وهذا ما بنى عليه صاحب النظرية الثانية مختاره ودعواه، والمعروف بين علماء الطائفة البناء على لزم الاقتداء به(ص) في الأنواع الثلاثة، واستندوا في ذلك إلى أمرين:
أحدهما: الاستناد إلى قاعدة عدم خلو واقعة من الوقائع من حكم لله تعالى، بمعنى أنه لا توجد واقعة من الوقائع إلا ولله تعالى فيها حكم، ومعنى هذه القاعدة شمولية الأحكام الإلهية للشاردة والواردة، وعليه لا نتصور أن يصدر منه(ص) قول أو فعل أو إقرار في واقعة خارجية عند الناس إلا عن حكم إلهي، وعليه لن يكون لتقسيم حالته(ص) أي ثمرة أو فائدة، لأنه يحكم بلزوم التأسي به في جميع ما يصدر عنه.
ثانيها: إن ما دل على عصمة النبي الأكرم محمد(ص)، شامل لجميع حالاته، وليس قابلاً لاستثناء بعض منها دون بعض، فإنه(ص):- (لا ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى)، وهذا يشمل كل ما يصدر عنه، فلا وجه لتخصيص بعض ما يصدر منه بحال النبوة والتبليغ للأحكام، ومقام بيان التشريعات الإلهية. وما ذكرناه هو مقتضى الآيات الشريفة التي أمرت باتباعه ولم تفرق في إيجاب اتباعه بحال دون حال، وهذا يعني أن التفريق بين ما تقتضيه الطبيعة البشرية ما كان عن تجربة، وبين ما كان في مقام التشريع والنبوة ليس صحيحاً.
وبالجملة، قد اتضح من خلال العرض المذكور أن تفصيل القائل بالنظرية الثانية استناداً للتفريق بين مقامات النبي(ص) ومراتبه ليس في محله، إذ مضافاً لكونه مخالفاً لما عليه أعلام الطائفة(رض)[1]، فإنه مخالف لظواهر الآيات القرآنية.
أهلية الأمة للاختيار والانتخاب:
وقد عرفت خلال بيان النظرية الثانية أنها تفيد أن المسؤول عن تقرير المصير هي الأمة، بأن تختار من تراه صالحاً لها.
ولا يخفى أن هذا يستدعي أن تملك الأمة الأهلية والاستعداد والقدرة على ذلك. والسؤال الذي يطرح: هل أن المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي الأكرم(ص) بلغ من النضج والأهلية ما يجعله قادراً على تقرير المصير واتخاذ القرار في مثل هكذا أمر مفصلي ومهم جداً؟!
لا كلام في أن النبي الأكرم(ص) قد بذل جهوداً مضنية استمرت مدة ثلاث وعشرين سنة تمكن خلالها من تغيـير واقع الأمة في الجملة، في المجال العقدي والأخلاقي، إلا أن النـزعة القبلية التي كانت تسيطر على المجتمع العربي قبل البعثة، وكانت تعتبر واحدة من مميزاته، لم تنفك عنه، فبقي المجتمع الإسلامي رهين هذه الرؤية، وحبيسها حتى بعد وفاة النبي(ص). والنماذج على ذلك كثيرة، وعلى رأسها حادثة السقيفة عندما نادى الأنصار منا أمير ومنكم أمير، وقال قائل من المهاجرين أن العرب لن تعرف للزعامة إلا هذا الحي، يعني قريشاً. فهل يعقل بمن يسيطر عليه النـزعة القبلية أن يملك الأهلية والاستعداد لتقرير المصير، ويركن إليه في عملية الاختيار والانتخاب؟!
النـزاع بين الطائفة والجمهور:
ومما يساعد على رفض النظرية الثانية، ودعم النظرية الأولى، هو تحديد محل النـزاع الحاصل بين أبناء الطائفة المحقة، وبين الجمهور، فإن الرجوع إليه يفيد أن النـزاع لم يكن في ثبوت المنصبين الأولين لأمير المؤمنين(ع)، لأنه لم يدع أحد من علمائهم مساواة أحد من الصحابة لأمير المؤمنين(ع) في العلم والفضل وغير ذلك، ولذا لا يتصور في أحد منهم إنكار اختصاص أمير المؤمنين(ع) بالمنصبين الأول والثاني من مناصب الإمامة، وهو ما عبرنا عنه بالإمامة الدينية. وإنما كان النـزاع منصباً في المنصب الثالث وهو الزعامة الدنيوية، واستحقاق أمير المؤمنين(ع) للخلافة الدنيوية بعد ثبوت خلافته الدينية، وقد عمد علماؤنا على مرّ التاريخ إلى إثبات ذلك وإقامة الدليل عليه، وهذا يعني عدم تمامية دعوى التفريق والوهم الذي وقع فيه صاحب النظرية الثانية.
وقفات مع الموانع:
ثم إنه بعد بطل ما استند إليه القائل المذكور في إثبات دعواه وتقوية أطروحته، بقي أن نشير إجمالاً لبعض الموانع التي ذكرها من القبول بالنظرية المعتمدة عند أبناء الطائفة المحقة، والتي عليها المذهب الحق، وتساعدها الأدلة، سواء من القرآن الكريم، أم من السنة المباركة، ولن نتعرض لها جميعاً طلباً للاختصار، مع أن القارئ العزيز يمكنه أن يقف على جوابها من خلال ما ذكرنا، ومن غيره.
أما الأول منها، وهو حادثة السقيفة، وما صاحبها من أمر، فإنها لا تخرج عن كونها عدم متابعة مطلقة للأمة إلى نبيها في كل ما صدر عنه، ومخالفته في الكثير من الأمور، ولهذا شواهد متعددة في المصادر الحديثية والتاريخية، وقد كان موجب صدور الفعل المذكور من الأنصار خوفهم من تسلط قريش عليهم، ولولا التنافس الذي كان بين الأوس والخزرج لتمكنوا من عقد بيعة لسعد بن عبادة. على أن التأمل في الأحداث الجارية حال وقعة السقيفة يقف على أن هناك نعرة جاهلية وجدت بعيدة كل البعد عن الروح الإسلامية.
وبالجملة، إن الإفراز الذي ظهر يوم السقيفة يؤكد ما سبق وأشرنا إليه من وجود التعصب القبلي الذي لم ينتفي وجوده من الوسط الشعبي الإسلامي، بل بقيت جذوره متغلغلة وموجودة عندهم، وهيا لتي حدت ببعضهم إلى القيام بذلك.
على أنه يمكن القول بأن المبادرة للسقيفة وإن كانت من الأنصار، إلا أن ارهاصاتها كانت قرشية، فقد بدأت بعد حجة الوداع، وقد كانت هناك تخطيطات وحركة معارضة وعمل لانقلاب على ما أراده الله تعالى وأبرزه نبيه الكريم، وقد أشار صاحب هذه النظرية في المانع الثاني من الموانع التي ذكرها لقبول النظرية الشيعية في مسألة الإمامية إلى ذلك، وعندها طغت العصبية القبلية التي أشرنا إليها.
والحاصل، إن ما جرى من الأنصار يعدّ ردة فعل طبيعية جداً بعدما وجدوا التحرك القرشي يسير في اتجاه التسلط على رقاب الأمة، والسعي للسيطرة على الخلافة، وهذا وإن لم يكن مبرراً لما صدر منهم، إلا أنهم أوجدوا لأنفسهم أولوية في ذلك، وهذا من الصور المتعددة التي كانت الأمة تخالف فيها نبيها(ص).
مضافاً إلى أن التأريخ قد تضمن بعض الشواهد التي اعترض فيها الأنصار على النبي(ص)، ولم يقبلوا ما صدر عنه، وهذا يؤكد أن الأنصار ليس كما أراد أن يصوره القائل بالنظرية الثانية، وأن المدح القرآني لم يكن لجميعهم، بل إن بينهم من هم بعيدون كل البعد عن الإيمان الحقيقي التام، مضافاً إلى أن آية الانقلاب التي تحدث القرآن الكريم عنه، شاملة لهم.
وأما الثاني، فقد تضمن دعويان:
الأولى: التهاون غير المبرر من أمير المؤمنين(ع).
الثانية: عدم تجاوبه مع بيعة أبي سفيان.
أما الدعوى الأولى، فإن توهم التهاون يتصور لو بني على أن الإمام(ع) ملزم أن يحمل الناس على بيعته، وأنه ليس لهم رفض ذلك. أما بناء على ما هو الصحيح من أن ذلك ليس أمراً إلزامياً على الإمام(ع)، فلو أرادت الأمة الانحراف عن طريق الله سبحانه، لم يكن الإمام ملزماً بإجبارها على العودة إليه، فلن يكون في المقام توهم التهاون أصلاً، لأنه لم يكن أمير المؤمنين(ع) ملزماً بالمبادرة لحمل الأمة على بيعته، وقد أرادت الأمة الانحراف عن ذلك.
ومنه يتضح الجواب عن عدم قيامه(ع) بأي تدبير وقائي مقابل ما كان يخطط له من انقلاب في وسط المجتمع.
وأما الدعوى الثانية، فقد تعرض لها المتكلمون في كتبهم، فذكرها القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني، وأجاب عنها السيد المرتضى(ره) في كتابه الشافي، كما سبقه للإجابة عنها الشيخ المفيد(ره) والمستفاد من الأجوبة المذكورة هناك في بيان وجه رفض أمير المؤمنين(ع) بيعة أبي سفيان والعباس، هو أن هذه البيعة لم تكن الغاية منها البيعة على اختياره إماماً وخليفة، بل كانت الغاية منها بيعته لنصرته في الأخذ بحقه ومعاهدته على الحرب من أجل فرض طاعته وتثبت سلطته، وقد كان أمير المؤمنين(ع) يعتقد أن هذه البيعة بهذه الكيفية التي جاء يطرحها أبو سفيان تفتح باب الفتنة على الإسلام وأهله، وتعرضه وتعرض أهل بيته وأصحابه للخطر، وهذا ما لا يمكن أن يقدم عليه أمير المؤمنين(ع). ويؤكد ما ذكرناه التأمل في رواية عرض أبي سفيان بيعته على الإمام علي(ع): قال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيم؟ أبسط يدك أبايعك، فوالله لأملأنها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً فانزوى عنه، وقال: ويحك يا أبا سفيان هذه من دواهيك، وقد اجتمع الناس على أبي بكر. فقد أدرك(ع) أن داعي أبي سفيان هو المنطق القبلي الجاهلي، وقد كان أبو سفيان يحاول النفوذ من خلال ثغرة العصبية القبلية التي يمثلها ذلك المنطق لإشعال الفتنة بين المسلمين. ولهذا قال السيد المرتضى(ره) تعقيباً على رواية بيعة أبي سفيان: لم يكن فيه دلالة على أكثر من تهمة أمير المؤمنين لأبي سفيان وقطعه على خبث باطنه، وقلة دينه وبعده عن النصح في ما يشير به[2].
وقد احتمل بعضهم وجود دس وتحريف في الرواية المذكورة بحصول زيادة عبارة: وقد اجتمع الناس على أبي بكر، فيها ويساعد على ذلك أمران:
أولهما: سخط أمير المؤمنين(ع) على أصحاب السقيفة وعدم اعترافه بشرعية ما تم فيها، وأن ما وقع لا يمثل إجماعاً للمسلمين، خصوصاً وأنه هو(ع) ووجوه بني هاشم لم يحضر أحد منهم هذا الاجتماع.
ثانيهما: انحصار نقل الرواية المذكورة بالعبارة المذكورة في خصوص القاضي عبد الجبار، ونسبتها إلى الإمام الصادق(ع)، مع خلو المصادر الشيعية عنها، وقد خلت المصادر العامية التي نقلت الحادثة المذكورة عن هذه العبارة.
وأما الدعوى الثالثة، فيكفي لردها النقض عليها ببعثة الأنبياء(ع)، إذ أننا نوجه للقائل بالنظرية الثانية، السؤال التالي: ما هي الغاية المترتبة على بعثة الأنبياء(ع)، مع علم الله تعالى أنهم لن يستجاب لهم؟ فقد ذكر القرآن الكرم المدة الزمنية التي قضاها مثلاً شيخ الأنبياء نوح(ع) بين قومه يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وعبادته، ولم يستجيبوا إليه، حتى أغرقهم الله سبحانه بالطوفان، فهل يعدّ بعث نوح والحال هذه نقضاً للغرض؟! وكذا يجري الكلام أيضاً في شأن أبي الأنبياء الخليل إبراهيم(ع)، وهكذا.
وأما الدعوى الرابعة، وأصل هذه الدعوى موجودة في كلام المعتزلة، حيث أشار إليها ابن أبي الحديد المعتزلي عند شرحه لكلام أمير المؤمنين(ع) الذي صدر منه عندما طلب الناس بيعته. وأشار إلى وجد محملين للكلام المذكور، أحدهما ما يحمله أصحاب عليه، أعنيا لمعتزلة، والآخر ما تحمله الشيعة الإمامية، وحاصله: إن الذين أرادوا بيعته هم من عقد بيعة السابقين عليه، وقد منعهم الثالث حقهم في العطاء، أو منع أكثرهم، ولهذا جاءوا يطلبون بيعته على أن يسير فيهم بسيرة الأول والثاني، فاستعفاهم وسألهم أن يطلبوا غيره ممن يسير فيهم بسيرتهما.
ثم إنه على فرض التسليم بصحة وجود هذا الاعتذار، فإن من الخطأ النظر إليه بمعزل عن النصوص الأخرى الموجودة والمتضمنة للحديث عن الإمامة، وهذا يعني حكومة تلك النصوص على هذا النص، الموجب لتأويله بحمله على ما يكون منسجماً تماماً معها.
واحتمل بعضهم أنه(ع) أراد بالرفض التنبيه إلى أمرين:
الأول: خطورة المرحلة التي تقبل عليها الأمة الإسلامية، لأن الأمر يحتاج اصلاحاً للوضع السياسي والاقتصادي بعدما آل الوضع إلى ما آل إليه نتيجة وجود الرجل الثالث وما قام به من عمل، ودور بطانته وأسرته في ذلك.
الثاني: المطالبة أن تكون بيعته عامة صادرة من جميع أهل الحل والعقد، وليست مختصة ببعض المسلمين دون بعض، وهو بهذا يدعو إلى حصول البيعة بصورة علنية وفي مشهد عام بين المسلمين جميعاً[3].
وأما الدعوى الخامسة، فقد اتضح الجواب عنها في طيات ما تقدم، مضافاً إلى أن الجواب الذي تضمنته كلمات صاحب الدعوى ليس ضعيفاً، ومجرد عدم قبوله به لا يوجب رفضه.
وأما الدعوى السادسة، فإنه لم يتضح المقصود من خلو القرآن الكريم من نظرية الإمامة، كما لم يتضح مقصود القائل من الحاجة إلى وجود عرض قرآني لموضوع الإمامة؟
ومنشأ عدم الوضوح يعود إلى أن القرآن الكريم إنما يعمد غالباً إلى الحديث عن الأمور بأصولها، والتأصيل لها كأساسيات، ثم يأتي دور السنة الشريفة، ويساعد على ما ذكرنا، أن القرآن الكريم قد اقتصر على ذكر أصل موضوع النبوة مثلاً، من خلال الإشارة إلى الأنبياء(ع)، ولم يتعرض لحيثيات هذا الأمر وبقية معطياته، ببيان ما يعتبر في النبي من صفات وغير ذلك.
وهكذا يجري الأمر في المعاد، وغيره من الأمور ذات البعد العقدي، بل نجد هذا أيضاً حتى في الجوانب المرتبطة بالأحكام الشرعية.
على أن الإمامة ليست أمراً مستقلاً عن النبوة، بل قام الدليل على أنه يعتبر فيها كل ما يعتبر في النبوة، وأنهما يشتركان في ذلك، وهذا يعني أن الحديث عن النبوة كمنصب سماوي، يكفي للتعريف بالمنصب الملازم له، وهو الإمامة.
مضافاً إلى أن الإشارة إلى أمير المؤمنين(ع) كشخصية تتصدى لهذا المنصب، مع بيان السنة الشريفة لمن يكون بعده، يكفي للقول بوجود رؤية قرآنية في موضوع الإمامة.
وأما الدعوى السابعة، فإن القول بعدم دلالة حديث الغدير على الخلافة الدنيوية يعدُّ من الغرائب، لأن ردود أفعال الصحابة تجاه هذا الحديث شاهد صدق على فهمهم ذلك، فكيف يفسر موقف الرجل الثاني عندما جاء يبايع أمير المؤمنين(ع)، وقال له: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. فهل يتصور أن هذه الكلمات صدرته منهم للإقرار لأمير المؤمنين(ع) بمنصب الخلافة الدينية، أم أنها جلية وصريحة في إقراره بالبيعة له(ع) بالخلافة الدنيوية.
مع أن قوله(ص): من كنت مولاه…ألخ، وما يحفه من قرائن داخلية وخارجية واضح الدلالة على المنصب الدنيوي، وليس له أي علاقة وارتباط بالمنصب الأخروي، وقد تعرضنا بصورة مفصلة لبيان دلالة حديث الغدير على ذلك، فليطلب من هناك.
خاتمة:
وقد تحصل من خلال استعراض بعض الموانع التي تضمنتها كلمات القائل بالنظرية الثانية، والتعقيب عليها في الجملة، عدم تماميتها، وعدم صمودها أمام النظرية الأولى التي عليها أبناء الطائفة المحقة.
وما نود التأكيد عليه في ختام هذا البحث، أننا لم نقصد الوقوف عند كل مانع ذكره صاحب النظرية، ولم نعمد للتفصيل في الجواب عنه، حذراً من الإطالة كما أشرنا لذلك في مطلع الحديث، فإن بسط المقال في الإجابة عنها يوجب طولاً يخرج هذا المختصر عما أعدّ له، بل كانت الغاية القصوى بيان الخلل في ما ذكر، وأنه ليس على وفق الموازين العلمية، وليس ما جاء في كلماته إلا عبارة عن بعض التشويشات التي دعته للقول بما قال، والرجوع لأهل الفن والاختصاص من العلماء موجب لرفعها والإجابة عنها.
نسأل الله تعالى أن يثبتنا والمؤمنين والمؤمنات على ولاية محمد وآله(ع)، والبراءة من أعدائهم أجمعين.
[1] ولا ينقض بوجود مخالف من الأصحاب لو ثبت وجوده، لأن هذه المخالفة سوف تكون شاذة، فتأمل جيداً.
[2] الشافي في الإمامة ج 3 ص 116.
[3] مجلة المنهاج العدد 20 ص 118.