الدليل الخامس:
الذي يمكننا التمسك به على كون الإرادة الواردة في الآية المباركة إرادة تكوينية،وليست إرادة تشريعية،هو:
لقد سبق وذكرنا أن هذه الايات تقسم عائلة النبي(ص)إلى قسمين:
الأول:زوجات النبي(ص)وقد فرض عليهن برنامج تربوي معين،وبينت الآيات أن العمل بهذا البرنامج هو السبيل لبقاء انتسابهن إلى النبي(ص)وارتباطهن به،وإلا فمصيرهن الطرد والإنفصال عنه.
الثاني:أهل البيت(ع)الذين تعد العدة ليتبؤوا زعامة المسلمين وقيادة خط الهدى والدين،وأن الله سبحانه هو الذي يتولى هذا الإعداد وينهض باصطفائهم وهو يطهرهم عن الرجس وينـزههم عن المعصية.
وعلى هذا فإن آية(إنما يريد الله…)جملة اعتراضية-كما اسلفنا-جاءت في وسط آيات النساء،وانصبت رسالتها على تسجيل ظاهرة معنوية وحقيقية،وهي إرادة إذهاب الرجس عن هذا الفريق وتنـزيهه.
وهذا يعني أن الإرادة الورداة في الآية لا علاقة لها بأي نحو بالأحكام التي سبق تشريعها في سائر الآيات،ولا يمكن للآيات التي خاطبت زوجات النبي(ص)أن تكون قرينة على الإرادة التشريعية في آية التطهير،بل هي باقية على معناها التكويني،وتحمل على أصلها وظاهرها الذي كانت عليه.
الإرادة التكوينية والجبر:
لقد طرح بعضهم شبهة الجبر بناء على الإلتـزم بكون الإرادة تكوينية،فذكر أنه إذا تعلقت إرادة الباري الأزلية بطهارة أهل البيت(ع)فإن عصمتهم حـتمية ويستحيل وقوع الذنب منهم عقلاً،لأن المراد لا يمكنه أن يتخلف عن المريد وهو الله تعالى،إذن صدور المعاصي عن أهل البيت،غير ممكن بل ممتنع،وهم مجبورون على الإمتناع عن الذنب مسيّرون على الطاعة فلا فضل ولا فخر لهم.وممن أثار هذه الشبهة ابن تيمية في كتابه منهاج السنة.
وبالجملة فإن خلاصة هذه الشبهة إن القول بالإرادة التكوينية يستدعي الإلتـزام بالجبر الذي لا تقول به الإمامية.
في مقام الجواب :
عن هذه الشبهة ذكرت عدة إجابات من قبل أعلامنا العظام،ونحن نذكر جواباً،ثم نشير لبعض الأجوبة الصادرة عنهم.
أغلب الأجابات التي صدرت عن علمائنا في المقام،كانت تحاول إثبات نفي الجبر،ونحن نطرح جواباً مفاده أن القول بوجود جبر في البين خطأ،ولذا لا نحتاج إلى رفعه،توضيح ذلك:
بأي شيء تعلقت إرادة الحق تعالى في الآية الشريفة؟…إذا كان متعلق الإرادة فيها هو إبعاد الرجس والذنب عن أهل البيت(ع)لا منعهم عن ارتكابه والوقوع فيه،فلا يـبقى لشبهة الجبر مكان.
وبعبارة أخرى،إنما يتصور وجود شبهة الجبر إذا كان متعلق الإرادة الإلهية هو منع أهل البيت عن ارتكاب الذنب،فيكون المراد هو إضفاء الحصانة من الذنوب على أهل البيت،وأنه تعالى متولي هذا الأمر والقائم على تحقيقه.أما لو كان متعلقها هو إبعاد الرجس والذنب عنهم،فلا جبر في البين أساساً.
لأن متعلق الإرادة في آية التطهير هو الإذهاب المراد به الإبعاد،أي أن الله أراد إبعاد الرجس عن أهل البيت،بمعنى إيجاد فاصل بينهم وبين المعاصي والأرجاس،فالتدخل الإلهي كان من هذه الناحية فقط.
فهو تدخل يوجد مسافة تفصل بين المعاصي وأهل البيت(ع)،فلا تدنو منهم المعاصي ولا تقربهم الأرجاس،وهذا يعني أن إرادة الباري لم تنعقد على عدم فعلهم الذنوب،بل انعقدت على إيجاد المسافة الفاصلة التي تنـزههم وتبعدهم عن الذنوب.
ثم إن الإبعاد للرجس في الآية،لا يعني بأي حال من الأحوال سلبهم الإرادة والإختيار وعدم صدور المعصية عنهم جبراً،فإن الفصل بين الإنسان والذنب ليس جبراً،بل هو توفيق،ولم يشمل الباري تعالى الجميع بخاصة عنايته ومخصوص لطفه،إنه توفيق وفضل إلهي لا يؤتيه الله إلا من يشاء ولا يلقّاه إلا ذو حظ عظيم.
والحاصل إن مفاد الآية هو شمول لطف الرحمن لأهل البيت(ع)ورعايتهم بعناية خاصة،بظهور فاصل أبدي بينهم وبين مطلق الرجس،فانصرفوا عن توافه الأمور،وأصبح بينهم وبين المعاصي بون شاسع لا تطويه ملايـين الفراسخ،فلا يتلوثون بالذنوب ولا تنالهم المعاصي.
نعم ينبغي التوجه إلى أن هذه الطهارة ليست طهارة قهرية اجبر عليه أهل البيت.
وهذا يعني أن دور الإرادة الإلهية لم يكن سوى مجرد إيجاد الفاصل بين أهل البيت والرجس،لا تحصينهم من الذنوب على نحو يسلبهم الإختيار ويدخل الأمر في الجبر.
ومن الواضح أن الفصل من قبيل اللطف الخاص والعناية،وهو ما يعبر عنه بالتوفيق،ولا يصح بحال أن يوسم هذا التوفيق بالجبر.
جواب آخر:
هذا ولا بأس طلباً للفائدة من ذكر جواب آخر في المقام،ونكتفي به طلباً للأختصار،وحاصله:
إن الله سبحانه وتعالى لما علم أن هؤلاء لا يفعلون إلا ما يؤمرون،وليست أفعالهم إلا مطابقة للتشريعات الإلهية من الأفعال والتروك.
وبعبارة أخرى:إن جميع أفعالهم وتروكهم تكون مجسدة للتشريعات الإلهية،جميع ما يفعلون ويتركون ليس إلا ما يحبه الله سبحانه وتعالى،أو يـبغضه ويكرهه سبحانه،فلما علم تعالى منهم هذا المعنى لوجود تلك الحالات المعنوية في ذواتهم المطهرة،تلك الحالة المانعة من الإقتحام في الذنوب والمعاصي،جاز له سبحانه وتعالى أن ينسب إلى نفسه إرادة إذهاب الرجس عنهم.