إن من جرائم التأريخ في حق هذا المذهب أنه قد جنى على رجالاته وعظمائه فلم
يترك لهم أثراً ولم يشر في حق أحد منهم إلى شئ.
ولعل من أبرز المصاديق في هذه الجناية بعد إغفاله إجلال المعصومين الأربعة
عشر “ع”وأحوالهم إلا بالشيء اليسير إغفاله لأبطال شهداء يوم كربلاء تلك
النخبة التي قد اصطفيت من عالم الذر في ساحة الملكوت لتنال شيئاً عالياً جداً
وتحظى بالخلود ما بقي الليل والنهار.
إلا أنه ومع قلة ما يكشف لنا عنها إلا أنه يمكننا استكشاف حالها من خلال
عدة نواحي نقتبس منها شيئاً عن تلك الشخصيات العظيمة.
ثم إنه قد ورد عن إمامنا الباقر “ع” قوله: إن أصحاب جدي الحسين “ع” ما
أحسوا بألم الحديد.
ونحن نحاول في هذه الدراسة المختصرة التعرض لمجموعة من النقاط في مقام
التعرف على تلك الشخصيات:
الأولى: معرفة عدد وأسماء الأنصار يوم عاشوراء:
إن من الأشياء التي يجزم بها أن الحسين “ع” حينما خرج من مكة كان معه عدد
غير قليل من الأصحاب وألتحق به في الطريق عدد آخر أيضاً ومن المجزوم به
أيضاً تفرق أكثر هذا الجمع عنه قبل وصوله كربلاء وبعد ذلك أيضاً خصوصاً بعد
وصول نبأ شهادة مسلم بن عقيل وهاني بن عروة “ع” وفي ليلة العاشر من
المحرم.
وقد بقي معه في تلك الليلة ثلة من أصحابه وأهل بيته “ع” والظاهر أن معرفة
عدد هؤلاء على نحو الجزم مما لا سبيل إليه خصوصاً مع اختلاف روايات شهود
العيان في تحديدهم وبيان من نال منهم الشهادة ومن لم ينلها ومن المعلوم أن
ما نقله حضار المعركة ما هو إلا نحو تخمين لا أنه مبني على الإحصاء التام.
وعلى أي حال فقد ورد في بيان عدد الشهداء في يوم كربلاء روايات أربع:
الأولى: ما ذكره المسعودي: فلما بلغ الحسين القادسية لقيه الحر بن يزيد
التميمي.. فعدل إلى كربلاء وهو في مقدار خمسمائة فارس من أهل بيته وأصحابه
ونحو مائة راجل[1].
ومن الواضح أن هذا العدد الذي ذكره المسعودي لا يمكن قبوله لمخالفة هذه
الرواية للروايات المعروفة.
نعم من المحتمل قوياً جداً حصول تصحيف في المصدر الذي نقل عنه المسعودي
فألتبس عليه الأمر بين الخمسة والخمسمائة.
الثانية: ما رواه عمار الدهني عن إمامنا الباقر “ع” قال: حتّى إذا كان
بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحر بن يزيد التميمي.. فلما رأى ذلك
عدل إلى كربلاء.. فنـزل وضرب أبنيته وكان أصحابه خمساً وأربعين فارساً ومائة
راجل[2].
وقد نص ابن نما في مقتله على هذا العدد فقال: وعبأ الحسين أصحابه وكانوا
خمسة وأربعين فارساً ومائة رجل[3].
وهذا أيضاً ما ذكره السيد ابن طاووس في مقتله[4].
وقد يحتمل أنهما اعتمدا على رواية الدهني وإن أختلف التوقيت. إلا أن ما
يبعد هذا الاحتمال تفرق بعض الموجودين عن الحسين “ع” ليلة العاشوراء بعد
الإذن على ما قيل. على أن نفس رواية عمار تضمنت بعض الأشياء المحرفة لحقيقة
وقائع ذلك اليوم.
الثالثة: رواية الحصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة: …. وإني لأنظر
إليهم وإنهم لقريب من مائة رجل فيهم لصلب علي بن أبي طالب “ع” خمسه من بني
هاشم ستة عشر ورجل من بني سليم حليف لهم ورجل من بني كنانة حليف لهم وابن
عمر بن زياد[5].
الرابعة: رواية أبي مخنف عن الضحاك بن عبد الله المشرقي قال:… وعبأ
الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون
راجلاً[6].
أقول: تتميز هذه الرواية بكونها منقولة عن شخص رافق الحسين “ع” حتّى آخر
لحظات المعركة الحاسمة وهو الضحاك بن عبد الله المشرقي فأبو مخنف يرويها
عنه مباشرة وهذا يبعث الوثوق بها ويقوي الاطمئنان والركون إليها.. مضافاً
لكون هذه الرواية تتفق من حيث العدد والمكان والوقت مع روايات ذكرها مؤرخون
معاصرون للطبري أو متقدمون عليه كالدينوري قال: وعبأ الحسين “ع” أيضاً
أصحابه وكانوا اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلاً[7].
واليعقوبي قال: … وكان الحسين في اثنين وستين أو اثنين وسبعين رجلاً من
أهل بيته وأصحابه[8].
والظاهر أن مصدرهما ليس هو كتاب أبي مخنف بل هو مصدر آخر فلاحظ.
وكذلك يوافق هذا العدد ما ذكره الخوارزمي: ولما أصبح الحسين “ع” عبأ
أصحابه وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً[9].
ومما تجدر الإشارة له أن الخوارزمي غالباً ما يروي عن تأريخ ابن أعثم أبي
محمد أحمد المتوفى سنة 314 هـ وقد روى هذه الرواية عنه مما يعني أنها في
مستوى رواية الطبري.
ومما أشار لهذا العدد أيضاً شيخنا المفيد “قده”[10].
ثم إن ما ينبغي أن يقال أن رواية المسعودي مستبعدة لما سبق ذكره وقد عرفت
تأملاً في رواة الدهني وأن أقرب الروايات للوثوق هي رواية أبي مخنف لكن
ذلك لا يمنع عن قبول الروايات الثلاثة بتوجيه أن اختلاف التقدير يعود
لاختلاف وقته حيث أن خبر عمار يقدر ذلك في الثاني من المحرم بينما تقدير رواية
أبي مخنف حين التعبأ مع أنه يحتمل أن تعبيره بأصحابه يختص بالأنصار دون
الهاشميين والموالي فتكون حينئذ موافق أو قريب التوافق مع رواية سعد بن
عبيدة.
إلا أن ما يعضد حمل عبارته على ظاهرها بحيث تشمل الجميع ما ورد في حمل
الروؤس فقد نص أبو مخنف على أن الرؤوس المسرح بها غير رأس الحسين اثنان
وسبعون رأساً[11].
وقال الدينوري: وحملت الرؤوس على أطراف الرماح وكانت اثنين وسبعين
رأساً[12].
وقال الشيخ المفيد في الإرشاد: وسرح عمر بن سعد من يومه ذلك وهو يوم
عاشوراء برأس الحسين “ع” مع خولى بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم إلى عبيد ا لله
بن زياد وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فقطعت وكانوا اثنين
وسبعين رأساً[13].
وفي البحار روى عن محمد بن أبي طالب الموسوي إن رؤوس أصحاب الحسين وأهل
بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً[14].
نعم أختلف كلام أبي مخنف والدينوري في توزيع الرؤوس على القبائل عن العدد
الذي ذكراه مسبقاً حيث قال الأول: فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً وصاحبهم
قيس بن الأشعث وجاءت هوازن بعشرين رأساً وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن وجاءت
تميم بسبعة عشر رأساً وجاءت بنو أسد بستة أرؤس وجاءت مذ حج بسبعة أرؤس وجاء
سائر الجيش بسبعة أرؤس فذلك سبعون رأساً[15].
وكما تلاحظ فإنها تنافي ما نقله سابقاً من تسريح اثنين وسبعين رأسا.
وأما الثاني: وحملت الرؤوس على أطراف الرماح وكانت اثنين وسبعين رأسا جاءت
هوازن منها بإثنين وعشرين وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً مع الحصين بن نمير
وجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً مع قيس بن الأشعث وجاءت بنو أسد بستة رؤوس مع
هلال بن الأعور وجاءت الأزد بخمسة رؤوس مع عيهمة بن زهير وجاءت ثقيف بإثني
عشر رأساً مع الوليد بن عمرو[16].
وجاءت رواية البحار عن الموسوي لتنص على أن الرؤوس المحمولة هي اثنان
وستون رأساً[17].
وقد يقال: أن هذا الإختلاف شاهد لعدم الوثوق برواية أبي مخنف في العدد.
إلا أن هذا ممنوع بما سبقت الإشارة إليه من كون النقل ليس جزمياً بل هو
نوع تحديد تقريبي ليس إلا.
وبالجملة إن الوثوق والإطمينان يقويان في رواية أبي مخنف دون غيرها من
الروايات.
هذا كله بالنسبة إلى العدد.
وأما أسماء تلك الصفوة المنتخبة فقد تعرض لها الطبري في تأريخه كما ذكرهم
المجلسي في البحار وأشار أيضاً لبعضهم ابن شهر آشوب في المناقب وكذا
الخوارزمي في المقتل وبعض الأعاظم في المعجم والمحقق التستري في القاموس فمن
أراد فليراجع.
هذا ومما تجدر الإشارة له أنه يوجد بين تلك المصادر الناقلة شئ من
الاختلاف في الأسماء بحيث لم يذكر بعضها في مصدر ويذكر في مصدر آخر مضافاً إلى
اتحاد بعض المصادر في ذكر شخص إلا أنها تختلف في تسميته.
كما أن من المصادر التي تضمنت ذكر أسماء أبطال واقعة الطف زيارتان:
الأولى: الزيارة المنسوبة للناحية المقدسة.
الثانية: الزيارة الرجبية.
أما الأولى: فرواها في الإقبال بسنده عن جده أبي جعفر محمد بن الحسن
الطوسي “ره” قال حدثنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عياش قال حدثني
الشيخ الصالح أبو منصور بن عبد المنعم بن النعمان البغدادي “ره” قال: خرج من
الناحية سنة اثنتين وخمسين ومائتين على يد الشيخ محمد بن غالب الأصفهاني
“ره” حين وفاة أبي “ره” وكنت حديث السن وكنت أستأذن في زيارة مولاي أبي عبد
الله “ع” وزيارة الشهداء “رض” فخرج إليّ منه:… إلخ[18].
وقد استشكل شيخ البحار المجلسي “ره” على هذا الخبر فقال: واعلم أن في
تأريخ هذا الخبر إشكالاً لتقدمها على ولادة القائم “ع” بأربع سنين ولعلها كانت
اثنتين وستين ومأتين ويحتمل أن يكون خروجه عن أبي محمد العسكري “ع”[19].
الثانية: وهي الزيارة الرجبية فقد ذكرها السيد في الإقبال دون أن يذكر لها
سنداً[20].
وعلى هذا تكون ساقطة عن الحجية لعدم الوثوق بصدورها.
وأما زيارة الناحية فيتضمن السند مجهولان وهما أبو منصور بن عبد المنعم بن
النعمان البغدادي والشيخ محمد بن طالب الأصفهاني ويتضمن ابن عياش الضعيف.
نعم نقلها الشيخ المجلسي في البحار بسند آخر ينتهي لابن عياش الذي عرفت
حاله.
والحاصل تكون هذه الزيارة كالزيارة الرجبية ساقطة عن الاعتبار.
ثم إن الشيخ المجلسي “ره” تنبه لوجود إشكال آخر فيها وهو مسألة التاريخ
كما نقلنا ذلك عنه ومقتضى ذلك هو اختيار أحد شيئين كما أشار لهما “قده”.
الأول: أن يكون في البين تصحيف وقع في ذكر التأريخ فيتأخر عشر سنوات
ليتلائم مع كونها صادرة من الناحية المقدسة
الثانية: أن يقال بصدورها عن الإمام العسكري “ع” كما جزم بذلك المحقق
التستري في القاموس[21].
وقد يمنع قبول الاحتمال الأول لأمرين:
أولاً: لا دليل على تعيين سنة 262 هـ إذ يمكن أن الزيارة صدرت بعد ذلك
بعشر سنين مثلاً.
ثانياً: المستفاد من السند كون الواسطة بين الناحية وبين أبي منصور بن
النعمان هو محمد بن غالب وهذا يتنافى مع ما هو معلوم من كون جميع المكاتبات
والمسائل كانت ترد على الشيعة من الناحية بواسطة السفراء الأربعة ولم يثبت
اتصال أحد غيرهم به في زمن الغيبة الصغرى.
ويمنع الاحتمال الثاني من القبول باختصاص مصطلح الناحية عند الشيعة
بالإمام الثاني عشر وهذا يمنع من الجزم بنسبتها للإمام العسكري “ع”
وعلى أي حال لا بأس بالإشارة للمتن في كلا الزيارتين لما سبقت الإشارة له
من كونهما قد تضمنا أسماء الشهداء فنشير لذلك على نحو المقارنة بينهما
فنقول:
أولاً: في عدد الشهداء:
اختلفت الزيارتان في تحديد ذلك حيث اشتملت زيارة الناحية على ثلاثة وستين
اسماً بينما اشتملت الزيارة الرجبية على خمسة وسبعين يحتمل فيها تكرر اسم
الحر بن يزيد الرياحي إذ ورد مرة هكذا وأخرى ورد بعنوان جرير.
وهذا الاختلاف مدعاة لسلب الوثوق عن الزيارة الرجبية وكونه أحد شواهد عدم
القبول.
ثانياً: اشتمالها على أسماء دخيلة:
تضمنت الزيارة الرجبية أسماء لكونه من شهداء كربلاء كعقبة بن سمعان وهو لم
يقتل كما نصت على أن عبد الله بن يقطر قتل يوم كربلاء بينما قد استشهد في
الكوفة.
وقد خلت زيارة الناحية عن هذين الاسمين لكنها اشتركت مع الزيارة الرجبية
في اشتمالهما على قيس بن مسهر الصيداوي الذي استشهد في الكوفة قبيل وصول
الحسين إلى كربلاء فهو ليس من الشهداء فيها.
ثالثاً: نسبة الشهداء إلى القبائل:
اختلفت الزيارتان في نسبة الشهداء إلى قبائلهم حيث غلب على الأسماء
المذكورة في زيارة الناحية نسبتهم إلى قبائله. والأمر بالعكس في الزيارة الرجبية
حيث كانت الأسماء المنسوبة للقبائل أقل وهذا شاهد إيجابي لصالح زيارة
الناحية في الوثوق دون الزيارة الرجبية إذ يكون ذلك شاهد سلبي في حقها لأن
النسبة تفيد خبروية القائل بالموضوع.
رابعاً: تضمنها للأسماء الشاذة:
ورد في الزيارة الرجبية بعض الأسماء الشاذة كسليمان حيث ذكر فيها خمس مرات
مع أنه لم يكن من الأسماء الشائعة عند العرب والمسلمين فراجع فهارس أعلام
الطبري، والظاهر أن أسماء كل مكان له مدخلية بالبعد والمستوى الثقافي الذي
ينتمي له أصحاب التسميات. بينما نجد اشتمال زيارة الناحية على اسم سليمان
مرة واحدة وهو مولى الحسين “ع” فتكون من هذه الجهة متوافقة مع الظاهرة
الثقافية في التسمية.
والنتيجة أنه يمكن الاتكال على الزيارة المنسوبة للناحية المقدسة في
الأسماء بل حتّى في عدد الشهداء بعد حصول شواهد الوثوق والإطمينان بها.
النقطة الثانية: مع المعسكرين:
ذكرنا سابقاً أن التاريخ لم ينقل لنا شيئاً عن تلك الشخصيات وما كانت تحوي
من عظمة في الجانب الروحي والفكري وكيفية الارتباط الإلهي لها بخط
الإمامة. إلا أن ذلك لا يمنع أن نحاول استكشاف شئ من ذلك، من خلال معرفة أهداف
هذه النخبة حيث أن ذلك يكون كاشفاً عن القيم العظيمة التي تتميز بها وفي
المقابل إن معرفة أهداف المعسكر الأموي تكشف عن شخصيات أصحابه فنقول:
المعسكر الحسيني:
مثلت هذه الفئة الصالحة أسمى مراحل شرف الإنسان والإنسانية وتجلت فيها
القيم الكريمة والاتجاهات العظيمة التي يسمو من خلالها وبها كل إنسان نبيل
وحسب هذه المجموعة الطاهرة أنها وحدها قد كتب لها الخلود والبقاء في تأريخ
هذه الدنيا حيث لم يحدثنا التاريخ عن وجود شهداء في العالم كشهداء كربلاء
شرفاً ومجداً واندفاعاً في نصرة الحق وتفانياً في سبيل العدل.
ثم إن أهدافهم العظيمة التي قاموا برفع شعارها وناظلوا ببسالة وإيمان
وتفانٍ من أجلها يمكن بلورتها في أمور:
الأول: الدفاع عن الإسلام:
إذ نراهم قد هبَّوا بكل إخلاص وإيمان دفاعاً عن الإسلام وصيانة لمبادئه
التي قد استهتر بها حكام بني أمية.
والشاهد على هذا الهدف ما جاء على ألسنتهم وجسدوه خارجاً في المعركة
الخالدة يوم عاشوراء فهذا علي بن الحسين الأكبر “ع” يبرز أن المبرر الأسمى له
في الجهاد هو الدين والعقيدة وليست الرابطة النسبية بينه وبين الإمام
الحسين “ع” لكونه أحد أبناءه، وكذلك نجد ذلك في شخص القاسم بن الحسن “ع” وفي
حامل راية الحسين “ع” مولانا أبي الفضل العباس “ع” حيث يقول مرتجزاً وقد
قطعت يمينه:
والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمامٍ صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمينِ
فالدافع الأساس له في الجهاد إنما هو هدف سامي ألا وهو الدفاع عن العقيدة
المتمثلة في شخص أبي عبد الله “ع” ولم يكن دافعه لذلك الرباط الأخوي مع ما
له من قداسة واحترام.
على أننا لو تنـزلنا جدلاً وقلنا بأن الهاشميين لم يكن جهادهم يوم عاشورا
جهاداً عقائدياً فإن ذلك لا يتم في حق أنصار أبي عبد الله “ع” من غيرهم
لاختلاف طبقاتهم واختلاف توجهاتهم الفكرية والعقائدية إذ اشتمل هذا المعسكر
على مجموعة من العبيد والموالي والسادة كما تضمن العلوي الهوى والعثماني
والنصراني فقد توافقت تلك الفئات على اختلاف غاياتها لو لم يكن الهدف لها
هو الدفاع عن شئ له قدسيته الخاصة وعظمته العالية ألا وهو الدفاع عن الشرع
المقدس والإسلام المحمدي.
الثاني: الدفاع عن الإمام المعصوم “ع” وحمايته:
وقد بذلوا في ذلك وسعهم وجهودهم ولم يذخروا شيئاً في سبيل ذلك فهذا نافع
بن هلال “رض” يخرج خلف أبي عبد الله “ع” ليلة العاشوراء لما خرج لتفقد
تلاعات كربلاء لحماية الحسين “ع” من أهل الكوفة وغدرهم.
ولما وقع البطل العظيم مسلم بن عوسجة “رض” شهيداً ومشى الحسين وحبيب بن
مظاهر لمصرعه وسأله حبيب الوصية لولا أنه في أثره أشار مسلم وفيه رمق إلى
الحسين قائلاً أوصيك بهذا قاتل دونه.
نصروه حال الحياة وعند الموت أوصوا به تأكيداً
فلم يفكر مسلم وهو في تلك الحال إلا في أبي عبد الله “ع”، وما هذا إلا
للارتباط العقائدي والمعرفة التامة بأهمية هذا الشخص لكونه الإمام المعصوم
المنصوب من قبل الله فيلزم الفناء في حمايته لكون ذلك أمراً إلهياً.
ولعمري أن هذا لم يختص به الرجال، بل سرى حتّى للنساء فهذه زوجة علي بن
مظاهر الأسدي يطلب منها زوجها الاستعداد ليلحقها ببني عمومتها في حي
الغاضرية لأن الحسين أخبرهم بمصارعهم وأن نسائه تسبى فكل من له حليلة يلحقها
بأهلها حتّى لا تلاقي ما يلاقيه أهل البيت”ع” وإذا بها تعترض عليه بأنكم
تواسون الرجال ولا نواسي النساء لا والله لا يكون ذلك.
ولقد كانت زوجة وهب تمانعه في الخروج للجهاد وأمه ترغبه فيه فلما خرج وإذا
بها تعدوا خلفه تشجعه وتحمسه وتقول: يا وهب قاتل دون الطيبين، فلما استغرب
ذلك منها، قالت: إن واعية الحسين كسرت قلبي سمعته يقول بين الخيمات واقلة
ناصراه.
بل لقد غذى الموالون أطفالهم بأهمية الدفاع عن الإمام الحسين “ع” فكم من
طفل علوي أو محب جاء للحسين “ع” يطلب الإذن بالبراز.
وقصة ذلك الطفل مشهورة لا تحتاج ذكراً فلاحظ ما سطرته أيدي أصحاب المقاتل
الثالث: تحرير الأمة من الظلم والجور:
إذ لا يغيب على أحد ما كانت تعانيه الأمة من ظلم وجور حينما كانت ترزح تحت
الحكم الطاغوتي لبني أمية وما كانت تعانيه وتكابده من وضع قاسي نتيجة ما
تعمله تلك الزمرة من استبداد وامتهان لحقوق الإنسانية وتلاعب بالقيم
الشرعية وعدم تطبيقها مما أدى إلى إشاعة الفساد في المجتمع الإسلامي وانهيار
قيمه وتداعي أركانه.
ثم إنه من خلال هذه الأهداف العظيمة التي عرضنا لأهمها يمكننا أن نتعرف
ولو في الجملة على الصفات النفسية والفكرية والروحية لتلك الثلة المنتخبة
وما امتازوا به من صفات كريمة جعلتهم يمتازون بها على غيرهم من سائر الناس
فمن تلك الصفات:
1ـ الإباء والعزة:
وهي صفة لا يحويها إلا من كان حراً في فكره ودينه ومعتقده ومن كان متجرداً
عن الخنوع والذل والامتهان لغيره فعبد المال أو عبد السلطان لا يمتلك هذا
الوصف.
2ـ البسالة والصمود:
وهذا واضح في ساحة كربلاء فهذا عابس الشاكري “رض” لما عزف القوم عن قتاله
لما عرف عنه من بسالة وشجاعة ألقى عن نفسه الدرع واللامة وأقبل يقاتل في
السراويل فقيل له: أجننت يا عابس؟ فقال: حب الحسين أجنني.
وما هذا إلا بسالة وصمود أمتلكها هؤلاء لأنهم عرفوا أنهم يدافعون عن الحق
ويرفعون رايته ويسعون لإبادة الظلم وقمع الفساد وطاغيته.
هذا وقد قرر في علم النفس العسكري أن لشخصية القائد أثراً مهماً في بث
الروح المعنوية في نفوس الجيش لأن جهاز القيادة إنما هو رمز السلطة التي تدفع
بالجنود إلى القتال.
وهذا هو ما صنعه أصحاب الحسين “ع” فتقدموا بعزم ثابت لا يعترف بالعقبات
ولا الحواجز، حتّى لقد قال قائل من عسكر ابن زياد في وصفهم:
عضضت بالجندل انك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ثارت علينا عصابة
أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يميناً وشمالاً وتلقي
أنفسها على الموت لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول حائل بينها وبين
الورود على حياض المنية أو الاستيلاء على الملك فلو كفنا عنها رويداً لأتت
على نفوس المعسكر بحذافيره فما كنا فاعلين لا أم لك[22].
وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي يتحدث عنهم يوم عاشوراء مع أصحابه فيقول:
أتدرون لمن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين لا
يبرز إليهم أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم[23].
3ـ الارتباط الإلهي:
وهذا نراه فيهم من خلال خطبهم التي ألقيت قبل بدء المعركة حيث كانوا
يحذرون أهل الكوفة النار ويذكرونهم الإسلام والنبي الأكرم “ص” وعترته وأهل بيته
“ع” وكذلك في كثير من مواقف المعركة نجد أنهم كانوا يلهجون بذكر الله
ويستغيثون به ويستعجلون نصره على الظالمين، وأكثر من ذلك وصف الأعداء لهم أنهم
باتوا ليلة عاشوراء ولهم دوي كدوي النحل بين قائم وساجد وتالٍ للقرآن
ومتهجد.
ولعل في بعض الشواهد التي سبق نقلها مجال لاستكشاف الناحية الإيمانية
والزخم الهائل الذي امتلكته تلك الصفوة والارتباط الوثيق جداً بينهم وبين الله
عز وجل وهذا يمكن استكشافه مضافاً لما ذكرنا بالنص الوارد عن إمامنا
الباقر “ع”: إن أصحابي جدي الحسين “ع” ما أحسوا بحرارة الحديد. وذلك لأنهم
تخطوا مرحلة العشق ووصلوا مرحلة الفناء حيث لا يروون شيئاً في سبيل المحبوب ذا
أثر أصلاً كما يشير لمثل ذلك أهل السير والسلوك.
وكذلك يمكن معرفة هذه الصفة من خلال الزيارات الواردة لهم وهي صادرة عن
المعصوم وما تضمنته من سلام واعطاء مجموعة من الصفات التي لا يتصف بها إلا
من كان على علاقة وصلة وثيقة بالله عز وجل.
المعسكر الأموي:
وفي المقابل نجد تلك الزمرة الخاسرة التي واجهت أصحاب الحسين “ع” وإن لم
نكن بصدد الحديث عنها لكن لا بأس بالإشارة إجمالاً إلى صفات تلك الفئة
الباغية فنقول:
كان ذلك الجيش عبارة عن مجموعة من الخونة وباعة الضمير فليس بين أفراده
إنساناً شريفاً وقد اتصفوا بعدة صفات:
منها: فقدان الإرادة:
حيث كان أكثرهم كما ينص عليه المؤرخون مع الإمام بقلوبهم وعليه بسيوفهم
ومنها: القلق والحيرة:
يقول شبث بن ربعي وهو أحد قادة جيش ابن زياد يوم كربلاء: قاتلنا مع علي بن
أبي طالب ومع ابنه الحسن من بعده آل أبي سفيان خمس سنين ثم عدونا على ولده
وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ضلال يا لك من
ضلال والله لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً ولا يسددهم لرشد.
ولقد كان الرجز والإنشاد الشعري سابقا يمثل أسلوباً حماسياً يكشف به
المرتكز أو الناشد عن إيمانه بما يقدم عليه خصوصاً في الحرب لكونه يحمل طابعاً
حماسياً والملاحظ أن التاريخ لم ينص على ارتجاز أو إنشاد أحد من العسكر
الأموي يوم عاشوراء شيئاً من ذلك. وهذا أيضاً يؤكد ما ذكرناه من كونهم كانوا
في حيرة وتردد.
ومنها: الفسق:
وهذا ما نص عليه المؤرخون حيث كانت مجموعة كبيرة من أعضاء الجيش من شربة
الخمر ،كما أن قسماً منهم كانوا متصفين بالكذب وعدم الحريجة في الدين.
النقطة الثالثة: تساؤلات:
نحاول في هذه النقطة الإجابة على بعض التساؤلات المتصورة في قضية الشهداء
يوم عاشوراء وهي تخطر في الذهن بمجرد سماع أحداث المأساة الخالدة والإشارة
لتلك الشخصيات الطاهرة.
السؤال الأول: لماذا أذن الحسين “ع” لأصحابه بالانصراف عنه مع حاجته
إليهم؟…
روى أمامنا زين العابدين علي بن الحسين “ع” أن الحسين “ع” جمع أصحابه ليلة
العاشوراء وخطبهم فقال … أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من
أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً
خيراً ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ألا وإني قد أذنت لكم
فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم حرج مني ولا ذمام هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه
جملاَّ وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم
حتّى يفرج الله فإن القوم إنما يطلوبنني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب
غيري.
وقد يثار هنا سؤال مفاده: أن الحسين “ع” كان قليل الأنصار مقابل عسكر ابن
زياد الذي كان جيشاً جراراً فهو بحاجة لهذا العدد الموجود معه فكيف يأذن
لهم بالانصراف عنه والتفرق عنه؟…
والجواب عن هذا السؤال هو:
أولاً: إن القول بأن الحسين “ع” كان محتاجاً إلى أصحابه في الدفاع عنه ليس
صحيحاً بل الصحيح أنه ليس بحاجة إليهم أصلاً لكونه على علم بمصيره الذي
يؤول إليه وأنه مقتول لا محالة ولما انتفت الحاجة إليهم فلا محذور شرعي في
الإذن لهم خصوصاً أن بقائهم معه لن يسعفه بشيء.
ثانياً: قد يقال: أنه “ع” أحس أن تكليفه الشرعي أمرهم بلزوم الانصراف
إنقاذاً لهم من الموت لأنه كان يعلم أنه ليس في وضع يؤهله للنجاة بكل صورة
ثالثاً: الحفاظ على النفوس المؤمنة التي تتولى فيما بعد الدعوة لقضية
الحسين “ع” وهداية الناس وإرشادهم.
رابعاً: ولعله أوضح الأسباب وأوجهها وهو اختبار همهم في نصره والسير في
سبيل الشهادة وتحصيل طاعة الله ورضاه سبحانه من هذه الناحية ودفع الخيانة
والخديعة عن نفسه “ع” بكشفه المصير الذي يؤول إليه.
وقد أشار إلى ذلك كما ترويه السيدة سكينة “ع” في خطبته لهم ليلة العاشر:
أعلموا أنكم خرجتم معي لعلمكم أني أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم
وقد انعكس الأمر لأنهم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله والآن ليس
لهم مقصد إلا قتلي وقتل من يجاهد بين يدي وسبي حرمي بعد سلبهم وأخشى أنكم ما
تعلمون وتستحون والخدع عندنا أهل البيت محرم فمن كره منكم ذلك
فلينصرف[24].
خامساً: ولعله أوجه من سابقه: أن الإمام “ع” أراد أن يعرّف الأجيال
القادمة حقيقة تلك النخبة المصطفاة وما كانت تحويه من عظمة وقوة ارتباط عقائدي
وتفاني في الدفاع عن العقيدة وحماية إمام الزمان. جزاهم الله سبحانه خير
جزاء المحسنين ورضي عنهم أجمعين
السؤال الثاني: لماذا لم يتفرقوا عنه وماذا كان هدفهم في ذلك؟
فإنه كان بإمكانهم ترك الحسين “ع” والتبليغ لقضيته وهداية الناس وإرشادهم
خصوصاً وقد عرفنا في السؤال الأول أنه لم يكن بإمكانهم دفع القتل عن
الحسين “ع” أصلاً فكان تكليفهم الشرعي يستوجب عليهم الانصراف وترك الحسين “ع”
وجوابه: أولاً: أن التبليغ لقضية الحسين “ع” وهداية الناس وجوبه كفائي ولم
يتعين في حقهم وهم على معرفة بوجود أناس آخرين يقومون بهذا التكليف عنهم
ثانياً: إن من المحتمل أنه لم يفهموا من الحسين “ع” وجوب تركه والانصراف
عنه بل فهموا منه أنه يخيرهم بين الذهاب والبقاء ولما كان الإمام “ع” مصدر
التشريع فقد جاز لهم البقاء وسقط عنهم التكليف وهم قد اختاروا البقاء
تحصيلاً للمقامات العليا التي لا تنال إلا بالشهادة.
ثالثاً: الوفاء للحسين “ع” وتأدية لحقه بالدفاع عنه والقتل دونه لكونه
الإمام المعصوم الذي يجب على كل مسلم أن يدافع عنه حتّى آخر رمق.
السؤال الثالث: يتكرر على ألسنة الخطباء قولهم: يا ليتنا كنا معكم. فما هو
المراد من المعية هنا هل المعية المكانية أو الزمانية أو معية معنوية؟
وبعبارة أخرى: هل أن المتمني يتمنى أن يكون شهيداً في كربلاء في الزمان أو
في المكان المعينين أو أنه يتمنى أن يكون معهم معنوياً.
والجواب: إن تمني الشخص أن يكون شهيداً معهم يوم عاشوراء وإن كان في حد
نفسه أمراً جليلاً إلا أنه مناقش:
أولاً: أنه من تمني العود للماضي وهو تمني المستحيل طبعاً وهو مستحيل.
ثانياً: إن نيل ذلك المقام لا يحظَ به إلا ذو حظ عال ولذا وجدنا من انهزم
وتراجع عن الحسين “ع” أو كان ضده فليس من المعلوم أن هذا المتمني لو كان
هناك في ذلك اليوم كان في ضمن الناصرين للحسين “ع”.
هذا والصحيح أن هذا التمني هو تمني معنوي يراد به الاجتماع معنوياً أي أن
المعية هي الاتحاد في الهدف والمحبة والإيمان.
اللهم اجعلنا مع الحسين “ع” وأصحابه الذين بذلوا مهجهم دون الحسين وارزقنا
شفاعة الحسين وأصحابه “ع” يوم الورود
——————————————————————————–
[1] مروج الذهب ج 3 ص 70.
[2] تأريخ الطبري ج 5 ص 389.
[3] مثير الأحزان ص 39.
[4] الللهوف في قتلى الطفوف ص 42.
[5] تاريخ الطبري ج 5 ص 392.
[6] مقتل أبي مخنف ص
[7] الأخبار الطوال ص 256.
[8] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 230.
[9] مقتل الخوارزمي ج 2 ص 4.
[10] الإرشاد ص 233.
[11] مقتل أبي مخنف ص
[12] الأخبار الطوال ص 259.
[13] الإرشاد ص 243.
[14] بحار الأنوار ج 45 ص 62.
[15] مقتل أبي مخنف ص
[16] الأخبار الطوال ص 259.
[17] بحار الأنوار ج 45 ص 62.
[18] الإقبال ص 573.بحار الأنوار ج 101 ص 269.
[19] بحار الأنوار ج 101 ص 274.
[20] الإقبال ص 712.
[21] قاموس الرجال ج 8 ص 333.
[22] شرح النهج ج 3 ص 363.
[23] تاريخ الطبري ج 3 ص 249.
[24] الدمعة الساكبة ج 4 ص 271.