وعــي المجتمع بـوعي راعيه

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
68
0

قال أمير المؤمنين علي(ع): إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها[1].
مدخل:

كثيراً ما نتداول في أحاديثنا وكلماتنا كلمة الوعي، فنقول: هذا يملك وعياً، وذلك لا يملك وعياً، كما أننا نعمد غالباً إلى تقيـيم ما يصدر من تصرفات من نفس المنطلق، فنحسّن تصرف فرد على أساس أنه يملك وعياً، وننتقد تصرف فرد آخر لكونه لا يملك ذلك. بل حتى في تقيـيمنا للمجتمع تتحكم هذه الكلمة، فنقيم هذا المجتمع على أساس كونه مجتمعاً واعياً، ونعيب ذلك المجتمع لفقدانه ذلك.

وعند قراءتنا لسير الأولياء والحكماء والعلماء، نجد أن أحد أهم الصفات التي تبرز في شخصياتهم، ويوصفون بها كونهم يملكون وعياً، ولذا نجد أن الباري سبحانه وتعالى في كتابه المجيد مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) بكونه يملك وعياً، فقال تعالى:- (وتعيها أذن واعية)[2]، وفقاً لما ورد في بعض المصادر التفسيرية، من أن النبي الأكرم محمد(ص) قال لما نزلت الآية الشريفة، سألت ربي أن يجعلها أذن علي(ع)، ولذا كان علي(ع) يقول: ما سمعت من رسول الله(ص) شيئاً قط فنسيته إلا وحفظته[3].

وهذا أمير المؤمنين(ع) يصف المعصومين من آل محمد(ص)، بالوعي، فيقول عنهم بأنهم: عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية. ومثل ذلك جاء عنه(ع) أيضاً في وصف أبي ذر الغفاري(رض)، فقال: وعى علماً عجز فيه.
ولا يختلف اثنان في كون الإنسان مخلوقاً له تميز على بقية الكائنات، لكن ما هو الموجب لتميزه عليها؟

إن السبب الموجب لتميز الإنسان على بقية الكائنات هو ما يملكه من وعي، فهو المميز له، وهو هدف وجوده في هذه الحياة، فإن تحقيق الإنسان للغاية التي خلق من أجلها وهي العبادة تعتمد اعتماداً  كلياً على مقدار ما يملك من وعي وإدراك لهدف وجوده في هذه الحياة، ولذا لو لم يعِ الإنسان ذلك الهدف، فإنه يتسافل إلى مستوى الحيوانات، وهذا يعني أن قيمة الإنسان بمقدار ما يعي ويعرف، لا بما هو جسد مادي، كما أن قيمة الإناء بما فيه، وليست قيمته بما هو إناء[4].

وهذا الذي ذكرناه يفسر لنا المقصود من قول أمير المؤمنين(ع): إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، يعني أن تمايز هذه القلوب بعضها عن بعض يعتمد على مقدار ما تملكه تلك القلوب من معرفة وإدراك للحقائق، وعلى رأسها مدى إدراكها لهدف وجودها على البسيطة، وكيفية الوصول لذلك الهدف، كما هو واضح.

فإذا كان للوعي هذه الأهمية، إذ هو معيار التقيـيم والتفاضل في الأوساط الاجتماعية، وتفضيل بعض المجتمعات على بعض، كما أنه موجب التقدير والاحترام بين الأفراد، مضافاً لكونه صفة بارزة في سير الأولياء والعلماء والحكماء، كما أنه منشأ تميز الإنسان على بقية الموجودات، فما هو الوعي الذي جعل ميزاناً لكل ذلك، ومعياراً للتقيـيم، وما هي حقيقته؟ وهل هو قسم واحد، أم أنه أقسام متعددة، وكيف يمكن للإنسان أو المجتمع أن يكون واعياً، هذا ما نود أن نجعله محور حديثنا إن شاء الله تعالى.

حقيقة الوعي وتعريفه:

الوعي مفهوم من المفاهيم المتداولة، وتختلف مدلولاته من شخص لآخر، فالبعض يقرنه باليقظة، فيرى أن الوعي هو اليقظة، كما يرى أن الغفلة هي عدم الوعي، فبمقدار ما يملك الإنسان من يقظة يملك وعياً، وبمقدار ما يعيش من غفلة يعيش بعداً عن الوعي. بينما نجد آخر يقرن الوعي بالشعور، فبمقدار ما يعيش الإنسان إحساساً وشعوراً بالواقع المعاش، وبما يدور حوله من أحداث كشف ذلك عن وعيه، وعلى العكس تماماً، متى كان الإنسان بعيداً عن الإحساس بالمسؤولية مثلاً كشف ذلك عن فقدانه لحس الوعي، وهكذا.

وعلى أي حال، فالمتبع في بيان حقيقة أي مفهوم من المفاهميم، بالرجوع لكلمات أهل اللغة، وملاحظة ما ذكر حوله في كلمات أهل الاختصاص. وهذا يعني أن للوعي معنيـين، في اللغة، وعند المختصين.

أما معناه وفقاً لكلمات أهل اللغة، فيقصد منه: حفظ الشيء، وعي الشيء والحديث، أي حفظه وفهمه، وفلان أوعى من فلان، أي أحفظ وأفهم[5].
والحاصل، إن المستفاد من كلمات اللغويـين أن الوعي بمعنى الحفظ والفهم، فوعي الشيء يعني حفظه وفهمه. ويؤكد هذا ما ورد في كلماتهم من التعليل بتسمية الإناء بالإناء، فذكروا أن موجب تسميته بذلك يعود لكونه محلاً لحفظ الطعام.

ويستفاد من كلماتهم أيضاً عدم اختصاص إطلاق هذا اللفظ على الأمر المادي فقط، بل يطلق على الأمر المعنوي أيضاً، فكما يقال وعاء، إشارة لكونه مصدراً لحفظ الأشياء، يطلق ذلك على الذاكرة أيضاً، لكونها مورداً للحفظ، كما يطلق ذلك على العقل، والقلب لكونهما كذلك أيضاً، ويشهد لصحة ما ذكر في كلمات أهل اللغة، ما جاء في لسان أمير المؤمنين(ع) في حديثه مع كميل بن زياد(رض): إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فإن إطلاق الوعاء على القلب بلحاظ كونه مصدراً للحفظ يكشف عن كون الاستعمال استعمالاً حقيقياً، ولا أقل من كونه من المجاز الشائع، وليس من المجاز الشاذ. ومثل ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى:- (وتعيها أذن واعية) بأنها أذن أمير المؤمنين(ع)، كما عرفت، فإن المقصود بالإذن هنا الحافظة، وهو ما يعبر عنه بالإذن الروحاني.
وجاء في الموسوعة الفلسفية في الحديث عن مفهوم الوعي: بوصفه حالة عقلية من اليقظة يدرك فيها الإنسان نفسه وعلاقاته بما حوله من زمان ومكان، وأشخاص، كما يستجيب للمؤثرات البيئية استجابة صحيحة.

وقريب من هذا التعريف ما جاء في بيانه من أنه كلمة تعبر عن حالة عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراك، وعلى تواصل مباشر مع محيطه الخارجي عن طريق منافذ الوعي التي تتمثل عادة بحواس الإنسان الخمس.

ولا يخفى أن ما جاء في بيان حقيقته بحسب كلمات أهل الاختصاص يتقوم بأمرين:

الأول: ما يكون مرتبطاً بذات الإنسان نفسه، كما يظهر ذلك من تعريفه بأنه حالة عقلية ويقظة يدرك فيها الإنسان نفسه، ويدرك فيها علاقاته بما حوله، زماناً ومكاناً، وأشخاصاً.
الثاني: التفاعل الحاصل بين الإنسان وبين المؤثرات الخارجية والبيئية التي يعايشها الإنسان، ومدى تفاعله معها، تفاعلاً إيجابياً، وليس المقصود مطلق التفاعل، كما سيتضح.

ولهذا نجد أن علماء النفس وصفوا الوعي بأنه الحالة العقلية التي يتميز بها الإنسان، بملكات المحاكمة المنطقية الذاتية، والإدراك الذاتي، والحالة الشعورية، والحكمة أو العقلانية، والقدرة على الإدراك الحسي للعلاقة بين الكيان الشخصي والمحيط الطبيعي له.

وعلى أي حال، لا نجد كثير اختلاف بين المعنى المذكور في كلمات أهل اللغة، وبين ما جاء في كلمات المختصين بياناً لحقيقة الوعي، بل لا يـــــبعد القول بأن بينهما تمام الاتحاد والتلائم، إذ أن كليهما يشير إلى أن المقصود من الوعي الإدراك المعرفي، والتفاعل الإيجابي للإنسان بما يحوطه، وما يكون حوله، وتعاطيه مع تلك الأمور تعاطياً إيجابياً. ويمكن توضيح ذلك بمثال، وهو لو أحضرنا طفلاً ووضعنا بين يديه ناراً، مع عدم معرفة مسبقة له بحقيقة النار وبما لها من آثار، فلا ريب في أنه سوف يعمد إلى مسها بيده، وبالتالي سوف تحرقه وتلهبه، ولذا لو أحضرناه مرة ثانية ووضعنا النار مرة أخرى بين يديه، فسوف نجده يمتنع عن مسها، لا لشيء إلا لأنه قد حفظ هذه المعلومة، وثبتت عنده، فصارت في وعيه ومعرفته، وهكذا كافة الأمور التي تحوط الإنسان، ويعايشها، وسوف يتضح ذلك أكثر من خلال ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ووفقاً لما تقدم في تعريف الوعي، وأن هناك علاقة بين الإنسان وبين المؤثرات البيئية التي يعايشها يتضح عدم محدودية ما ينبغي للإنسان أن يعيه، بمعنى ينبغي أن يعي الإنسان كل شيء، من دون تحديد لدائرة وعيه، فكما ينبغي للإنسان أن يملك وعياً في الشأن الديني، يلزم أن يملك الإنسان وعياً في الشأن الدنيوي، سواء في المجال الأسري، أم في المجال الاجتماعي، أم في المجال المهني، بل حتى في الجوانب المالية والاقتصادية، وهو مصداق ما جاء عنهم(ع): اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

وبالجملة، لا تنحصر دائرة الوعي في مجال دون آخر، بل اللازم أن تتعدد موارده عند الإنسان، نعم سوف تتفاوت مقدار أهمية ما يعيه من مورد لآخر وفقاً لاحتياجاته، فالأب مثلاً سوف يركز على جانب الوعي الأسري لكونه يرتبط بشأنه الحياتي، وبمسؤولياته، والتاجر سوف يركز على وعي الجانب الاقتصادي لما يمثله من أهمية لديه، ورجل الدين سوف يركز على أفضل الوسائل للرقي بالمجتمع في الجانب الروحي، والفكري والقيمي، والأخلاقي، وهكذا.

ولا يذهب عليك أن مصدر الوعي ومركزه هي الروح الإنسانية، سواء عبرنا عنها بالقلب كما في بعض النصوص القرآنية، أم عبرنا عنها بالروح كما ذلك فيها أيضاً، أم عبر عنها بالنفس، فإن الظاهر أن المقصود فيها في هذا الجانب أمر واحد.

أنواع الـــــــــــــــوعي:

هذا وقد ذكر علماء النفس أن الوعي قسمان:
الأول: الوعي الظاهر، ويقصد منه ما يظهر عن الإنسان من أفكاره واستنتاجاته.
الثاني: الوعي الباطن، وهو ما يحدث في داخل النفس من أحوال وأفكار.
وقد ذكروا أن المحرك الأساس في سلوك الإنسان هو الوعي الباطن[6].

ومن المعلوم أن الوعي ليس مرتبة واحدة، بل له مراتب متفاوتة، تعتمد على مقدار المعارف والخبرات الموجودة عند الإنسان، فلا يمكن أن يقاس الوعي الموجود لدى طفل لا يتعدى من العمر سنوات عشر، بشاب قد بلغ من العمر ثلاثين سنة، كما أن وعي هذا الشاب لا يقاس بشيخ ناف على الستين عاماً، نعم قد يكون مقدار وعي هذا الشاب بالنظر إلى ذاك الشيخ أعلى وأوسع في مجال دون مجال، وإنما عنينا بالتفاوت في الأمور العامة والطبيعية، وإلا فقياس كل مورد بحسبه كما لا يخفى.

أبعاد الـــــــــوعي:

ثم إن للوعي أبعاداً ثلاثة ذكرها أهل الاختصاص:
الأول: البعد النفسي: ويقصد منه أن يوجد للإنسان اتجاه أو موقف إيجابي أو سلبي نحو الموضوع الذي يراد استطلاع الوعي بشأنه.
الثاني: البعد العلمي: وهو يقوم على إدراك القضية أو الموضوع من خلال تفسيره وإبراز إيجابياته أو سلبياته.
الثالث: البعد الإيديولوجي: وهو يعتمد على تقديم تصور بديل للواقع الراهن لهذه القضية أو ذلك الموضوع الذي يستطلع الوعي بشأنه.

ولنوضح هذه الأبعاد الثلاثة بمثال عملي من واقع حياتنا:

يتفق الجميع على انتشار الجريمة في وسطنا الاجتماعي اليوم، كما يتفق الجميع على أن هذه الحالة تمثل ظاهرة متفشية في مجتمعنا، وعليه يأتي كيف يتفاعل الفرد مع هذه القضية وهذه الظاهرة، فلو  أردنا استطلاع رأي المجتمع وأفراده تجاه انتشار الجريمة والجرائم في مجتمعنا اليوم، فكيف سوف يكون تفاعل الأفراد مع هذا الحدث، وكيفية إيجاد الحلول المناسبة له، إن التفاعل الصادر من أفراد المجتمع تجاه هذا الحدث، سواء كان تفاعلهم معه تفاعلاً إيجابياً بتقديم الحلول المناسبة والملائمة لعلاج المشكلة، أم كان تفاعلهم مع الموضوع تفاعلاً سلبياً نشأ من حالة الأبالي، هو إبراز لأبعاد الوعي الثلاثة المتقدمة.

موجبات الحديث عن الوعي:

وفي خضم الحديث عن الوعي، وبيان أهميته، ربما نواجه سؤالاً يطرحه البعض، وهو السبب الداعي والموجب للحديث عن هذا الموضوع، والتركيز عليه، إذ يعتقد الكثير أن وجود وعي عند الفرد، أو المجتمع ليس من الضرورة بمكان.
وواضح جداً أن منشأ ذلك يعود لعدم الإحاطة بما لهذا الموضوع من ثمرة عملية كبيرة جداً في واقع الحياة البشرية، فمضافاً لما سبق وذكرناه من أن الوعي سبيل لمعرفة الإنسان هدف خلقته وإيجاده على الكرة الأرضية، مما يكون حافزاً ودافعاً له لتحقيق ذلك الهدف المنشود، هناك فوائد مادية ومعنوية أخرى يمكن ذكرها في المقام:

منها: فهم حقائق الحياة، كالدين والقرآن، والعبادات والمعاملات، فكثير من الناس يعتقدون أن الدين أفيون الشعوب، وأنه سبيل لحرمانهم من الوصول لغاياتهم ومناهم، لأنه يقف حاجزاً دون تحقيق رغباتهم، لكنهم لو وعوا حقيقة الدين، وعرفوها لما كان هذا التصور موجوداً بينهم. وكذا فهم لحقائق التشريعات السماوية، فالكثير يفتقر لمعرفة حقيقة الصلاة وأنها قربان كل تقي، ومعراج المؤمن، وإنما الذي يعرف منها أنها نسك عبادي يؤديه المكلف رغبة في إفراغ ذمته مما اشتغلت به من تكليف، أو حباً في دخول الجنة، أما أنها رحلة لقاء بين معشوقين، يلتقيان خلال هذه الرحلة ليأنسا ببعضهما البعض، ذاك ما لا يدركه كل أحد، وما ذلك إلا لفقدان حالة الوعي لهذه العبادة، وكذا عندما يكون الحديث عن الصوم، فلو أردنا معرفة مقدار وعينا به كعبادة، فلنرى كيف يقسم العرفاء الصوم إلى ثلاثة أقسام، صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص، ويذكرون أن ثالثها هو أفضلها وأعلاها، وهو الذي يصوم فيه الإنسان عن كل شيء عدا الله سبحانه وتعالى، ومن الطبيعي أن الوصول للقسم الثالث رهين وجود وعي عند المكلف، وإلا فلا، وهكذا.

ومنها: التفاعل الشعوري والانتقال من مرحلة الفكر إلى مرحلة الإيمان القلبي، بمعنى أن يعيش الإنسان حقيقة الأمر، ويعتقده، ونقرب ذلك بالتشريعات الإسلامية، فإن عدم تطبيق الناس لما جاء فيها يعود لفقدانهم الوعي بها، وإلا لو وعيى المجتمع الإسلامي ما تضمنته الشريعة السمحاء من قيم وتعاليم، وعرفوا حقيقتها لما أعرضوا عنها، ولطبقوها في كافة أمور حياتهم.

ومنها: الإحاطة بموجبات النجاح وأسبابه، ودواعي الفشل ومسبباته، على كافة الأصعدة والمجالات، ففي المجال الأسري، أو المجال الاجتماعي، أو المجال المهني الوظيفي،  أو المجال الصحي، وهكذا.
ومنها: تحصيل العبرة والدروس الحياتية الحاصلة نتيجة الانتقال من فهم الظاهرة إلى عمق الباطن.
ومنها: وعي البلاء، لأن كل بلاء له سبب يعرفه من يغوص في أعماق ذاته، فحرمان الإنسان من حضور القلب في الصلاة بلاء له سبب لابد أن يعيه الإنسان ويعرفه، وفقدان الخيرات والبركات في مجتمع له سبب لابد من دراسة موجبات حصوله، وانتشار موت الشباب، سيما بالفجأة له أسباب أدت إلى وقوعه وانتشاره، فهذه كلها دواعي توجب الوعي بأسباب هذه الأمور.

ومنها: سلوك الطريق الصحيح من خلال اتخاذ الخطوات المناسبة في كل شيء، ففي العلاقة الأسرية متى ملك الأب وعياً أمكنه أن يعالج الانحراف السلوكي لابنته بصورة عقلائية، ويتعاطى مع المشكلة بهدوء وروية توجب حلحلة المشكلة والوصول بها إلى بر الأمان، والمعلم متى كان واعياً لدوره الرسالي أمكنه أن ينهض بالمستوى التعليمي لطلابه، ويصل بهم إلى أفضل مستوى، ورجل الدين متى أدرك مسؤوليته ووعاها، كان قائداً ناجحاً لمجتمعه، وراعية لشؤونه، وهكذا[7].

أقسام الــــــــــــوعي:

يمكن تعديد أقسام الوعي بحسب الجوانب التي يراد جعله محوراً فيها، بحيث يجعل لكل جانب من الجوانب وعياً على أنه قسم من أقسامه، وعليه تتعدد الأقسام، فيذكر:
منها: الوعي الديني الإيماني.
ومنها: الوعي الثقافي.
ومنها: الوعي الاجتماعي.
ومنها: الوعي الأدبي.
ومنها: الوعي العلمي.
ولسنا بصدد الحديث عن كل واحد من هذه الموارد، إذ أن الحديث عنها يوجب الخروج عما عقد هذا البحث من أجله، بل للحديث عنها مجالها الخاص، ووقتها المقرر إن شاء الله تعالى، إلا أن ما يهمنا في المقام، هو أن هذه الموارد التي ذكرت هل تعدّ أقساماً مستقلة، أم أنها تعود لقسم واحد أو أكثر؟
الظاهر أن جميع هذه الأقسام التي ذكرت لا تعد أقساماً مستقلة بذاتها، بل تعود كلها إلى قسمين أساسين، وتعدّ المذكورات مصاديق لذينك القمسين، والقسمان المقصودان هما:

1-الوعي الفطري.
2-الوعي الكسبي.
والعبرة في المدار والبحث إنما هو على القسم الثاني، أعني الوعي الكسبي، إذ أنه الموجب لبعث الأنبياء وإرسال الرسل، وإقامة الأوصياء والأئمة هداة للمجتمعات البشرية[8].

خاتمة:

هذا ولنختم الحديث مع عدم الإحاطة بكافة جوانبه، لكن حذراً من الإطالة الموجبة للخروج عن المقصود، بسؤال مهم جداً له ارتباط بحديثنا، وهو: هل لوعي الراعي والقائد أو المسئول في كل مجتمع في المجتمعات مدخلية في وعي ذلك المجتمع أم لا؟
ولنقرب ذلك بمثال: هل يتحكم مقدار وعي الأب في وعي أفراد الأسرة، فلو كان رب الأسرة شخصية ملتـزمة بالتعاليم الدينية، فهل يتأثر المحيط الأسري له بالتزامه وتدينه، فيشعر أفراد الأسرة بأهمية الالتـزام الديني، من صلاة الجماعة مثلاً، وحضور مجالس المعرفة، وما شابه ذلك، أم لا.

وكذا لو كان رجل الدين المسئول عن قيادة المجتمع يعيش الهم الفكري، والمعرفي، فهل لهذه الحالة من الإحساس بالمسؤولية دورها وتأثيرها على المجتمع، أم لا؟
في مقام الإجابة يمكننا تصنيف الرعاة والمسؤلين إلى صنفين:

الأول: هو الصنف الذي يكتسب ويتعلم من مجتمعه، بحيث أن معارفه ومعلوماته ترتقي وفق ما يتلاقاه من المجتمع، فيتطور معرفياً بناءً على ذلك.
الثاني: هو الذي يكون مصدر الإفاضة المعرفية والتوعوية للمجتمع، ليرتقي المجتمع وفقاً لما يلقيه إليه، ويفيضه عليه من معارف وعلوم.
ولا ريب في عدم صلوح الصنف الأول للمسؤولية والقيادة، وهذا بخلافه في الصنف الثاني، فإنه الجدير بمثل هذا الأمر. وهذا يعني أن لوعي الراعي دوراً كبيراً جداً في وعي المجتمع، لأن الوعي الكسبي الذي سوف يتحصل عليه المجتمع يتوقف وجوده على وجود الوعي عند الراعي، فما لم يكن الراعي واعياً لن يكون المجتمع واعياً[9].

والمحصلة التي نصل إليها في ختام المطاف، أن وعي أي مجتمع من المجتمعات يتوقف بصورة أساسية على وعي رعاته، فكل ما كان رعاة ذلك المجتمعات واعين كان المجتمع وأفراده وعاة، وعلى العكس تماماً كل ما كان الرعاة بعيدين عن الوعي كان المجتمع وأفراده يغطون في سبات عميق، ويمكننا أن نؤكد ذلك بجملة من الأمثلة الحية في واقعنا الحياتي، فلننظر لأي قضية من قضايانا، ولنرى مقدار وعي رعاة المجتمع بها، لنرى مقدار وعي المجتمع وأفراده بها، نسأل الله تعالى أن يهبنا أذناً واعية.

[1] نهج البلاغة الحكمة رقم 147.
[2] سورة الحاقة الآية رقم 12.
[3] الأمثل في تفسير القرآن المنـزل ج 18 ص 311.
[4] الارتقاء الروحي بالفكر والذكر ص 346.
[5] لسان العرب، العين للخليل بن أحمد، معجم مقاييس اللغة.
[6] الارتقاء الروحي بالفكر والذكر ص 348.
[7] الارتقاء الروحي بالفكر والذكر ص 346(بتصرف).
[8] علم الاجتماع بين المتغير والثابت ج 2 ص 136.
[9] علم الاجتماع بين المتغير والثابت ج 2 ص 137(بتصرف).

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة