آية البلاغ

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
82
0

قال تعالى:- (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين)[1].

مدخل:

هناك منحيان في تفسير الآية الشريفة، أحدهما ملاحظة المعنى المراد فيها من خلال القرآن الكريم، بواسطة دراسة ما ذكر فيها من أسباب نزول، وكذا ملاحظة القرائن التي ربما ذكرت وهي تشير إلى بيان المراد منها، كما نتعرضه إن شاء الله تعالى.

وثانيهما، هو الاستعانة بالسنة الشريفة في بيان المراد منها، وذلك من خلال الرجوع للروايات التي وردت في تفسير الآية الشريفة وبيان المراد منها، سواء كان ذلك من طريق مدرسة أهل البيت(ع)، أم كان ذلك من خلال روايات الصحابة، أو التابعين، ما ورد في كتب العامة.

ولا يخفى أنه وفقاً للمنحى الثاني في تفسير الآية الشريفة، يقرر كونها نازلة في شأن أمير المؤمنين(ع)، وأن الأمر المراد تبليغه هو نصب أمير المؤمنين(ع) خليفة للنبي(ص).

ولا ريب في كون الاعتماد على هذا المنحى، صحيح في نفسه، كما أن النتيجة المتوصل إليها من خلاله حق لابد من إتباعها والإذعان بها.

إلا أنه لما كان هذا المنحى يتوقف على الإيمان بمجموعة من المقدمات، كالنصوص الروائية، والاعتماد عليها، وبالتالي يعمد الخصم إلى المناقشة فيها، سواء من حيث الصدور، أم من حيث الظهور، كان المبغي هو محاولة دراسة الآية الشريفة وفقاً للمنحى الأول، ومحاولة الوصول من خلاله إلى نفس النتيجة المتوصل إليها من خلال المنحى الثاني، وهو دلالتها على إمامة أمير المؤمنين(ع).

سبب النـزول:

ولنبدأ في دراسة الآية الشريفة من خلال ما ذكر سبباً في نزولها، إذ ذكر الفخر الرازي في تفسيره الكبير عشرة أسباب لنـزول الآية الشريفة، وتلك الأسباب هي:

الأول: أن الآية الشريفة نازلة في قصة الرجم والقصاص.

الثاني: أنها نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين، وقد سكت النبي(ص) عنهم، فنـزلت الآية الشريفة.

الثالث: أنها نزلت عقب نزول آية التخيـير لزوجاته(ص)، فإنه لما نزل قوله تعالى:- (يا أيها النبي قل لأزواجك) لم يعرضها(ص) عليهن خوفاً من اختيارهن الدنيا، فنـزلت الآية الشريفة محل البحث.

الرابع: أنها نزلت في أمر زيد بن حارثة وزينب بنت جحش.

الخامس: أنها نزلت في الجهاد، لأن المنافقين كانوا يكرهونه، وقد كان رسول الله(ص) يمسك أحياناً عن حثهم عليه.

السادس: أنه لما نزل قوله تعالى:- (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) فسكت الرسول عن عيب آلهتهم، فنـزلت هذه الآية، وقال: بلغ، يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم، والله يعصمك منهم.

السابع: أنها نزلت في حقوق المسلمين، وذلك لأنه قال في حجة الوداع لما بيّن الشرائع والمناسك، هل بلغت، قالوا: نعم، قال(ص): اللهم فاشهد.

الثامن: روي أنه(ص) نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلّق سيفه عليها، فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه، وقال: يا محمد من يمنعك مني، فقال: الله، فرعدت يد الأعرابي، وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتشر دماغه، فأنزل الله هذه الآية، وبيّن أنه يعصمه من الناس.

التاسع: أنه(ص) كان يهاب قريشاً واليهود والنصارى، فأزال الله عن قلبه تلك الهيـبة بهذه الآية.

العاشر: أنها نزلت في فضل علي بن أبي طالب(ع)، ولما نزلت أخذ(ص) بيده، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، فلقيه عمر، فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة[2].

هذا ومن الواضح أننا لو درسنا كل واحد من هذه الأسباب، لوجدنا أن أكثرها لا ينسجم ولسان الآية الشريفة، والأسلوب المتبع فيها، ضرورة أن الظاهر منها التشديد على تبليغ أمر ما، هو من حيث الأهمية يعدل تبليغ الرسالة، وأن تركه بمثابة عدم تبليغها أصلاً.

على أن جملة مما أورده الرازي، قد تعرض له القرآن الكريم في مواضع أُخر، كقضية زيد وزينب، أو قضية الجهاد، أو قضية الرجم والقصاص.

وهذا وإن لم يكن مانعاً من إعادة الحديث عنها، لكن ليس بهذا النحو من الأسلوب واللسان كما هو واضح.

كما أن جملة منها ينافي البعد الذاتي لشخصيته(ص) كهيبته لقريش أو اليهود والنصارى، بل هو يتنافى مع مواقفه التي نقلها لنا التاريخ كما في موقفه مع كفار مكة يوم جاءوا يساومونه على التنازل، فقال(ص) لعمه: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه. وغير ذلك من المواقف التي كان يظهر فيها النبي(ص) مضحياً وباذلاً مهجته الشريفة في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، ونشر الرسالة الإسلامية.

مختار الرازي:

هذا وقد اختار الرازي من بين أسباب النـزول التي ذكرها، السبب التاسع، وهو تأمين النبي(ص) من الخوف من اليهود وقريش ومكرهم، وإزالة الهيـبة من قلبه لهم.

وقد استشهد لهذا الاختيار بأن مقتضى وحدة السياق يستدعي الالتـزام بذلك، ضرورة أن الآية الشريفة وردت أثناء الحديث عن أهل الكتاب.

مناقشة الرازي في مختاره:

هذا ولا يخفى أن ما أفاده لا يمكن القبول به، لا لأننا لا نرى أن وحدة السياق لها مدخلية في تحديد الظهور في الجملة، إذ أن الالتـزام بذلك بشكل مطلق لا يمكن المساعدة عليه، بل إن العقلاء يعولون على وحدة السياق في موارد من الخطابات، ويكون له مدخلية في تحديد المراد.

بل لأن التمسك بوحدة السياق في المقام في غير محله، ضرورة أن التمسك بوحدة كما هو المنهج العقلائي المتبع يتوقف على إحراز صدور الكلام كله في وقت واحد، وفي مجلس واحد، وهذا ما لا يمكن الالتـزام به في المقام، إذ أنه لم يحرز أن الآية الشريفة نزلت مباشرة مع الآيات التي تقدمتها، لكي يصح التمسك بوحدة السياق، ومجرد وقوعها في هذا المقام لا يثبت ذلك، خصوصاً لما هو المعلوم من أن ترتيب القرآن الكريم قد خضع لأمر سماوي صدر للنبي(ص)، وأنه قد عمد إلى جمع القرآن وترتيـبه على وفق ذلك الأمر في حياته وقبل رحيله عن عالم الدنيا[3].

فبناءاً على هذا، لا مجال للتمسك بوحدة السياق في إثبات سبب نزول الآية الشريفة، وأنها نازلة للسبب المذكور، فلاحظ.

مضافاً إلى أن هناك مانعاً آخر يمنع من القبول بالتمسك بوحدة السياق، وهو أن الآية الشريفة كما هو المعروف بين المفسرين قد نزلت في حجة الوادع، والقبول بهذا الأمر ينافي ما أستظهره الرازي، إذ لا يخفى على أحد أنه لم يعد هناك خطر على الإسلام، أو على رسوله(ص) من أهل الكتاب، حيث أنهم قد دخلوا في السلم، وأعطوا الجزية، فلا معنى لهذا التشدد في الخطاب.

كما أن مقتضى ما جاء من الوعد من الله سبحانه وتعالى لرسوله(ص) بكسر شوكتهم، فلا خوف عليه(ص) منهم، يمنع من القبول بوحدة السياق والتسليم بالاستظهار الذي أفاده الرازي، لأن الوعد المذكور يجعل النبي(ص) في أمان منهم، فلا معنى لأن يمسك عن التبليغ، أو يؤخره حتى نزول العصمة له من الله سبحانه وتعالى.

وأخيراً، إن من الثابت أنه(ص) قد بلغ في أول البعثة ما هو أشدّ من ذلك وإلى قوم أغلظ جانباً، وأشدّ فتكاً.

سبب النـزول المختار في نزول الآية الشريفة:

هذا ولما لم يكن أي واحد من أسباب النـزول التسع الأُول صالحاً لكونه سبباً لنـزول الآية الشريفة، فعندها يتعين أن سبب نزولها هو السبب العاشر الذي ذكره الرازي في كلامه كما سبقت الإشارة إليه، ضرورة أنه لا يوجد ما يمنع من الالتـزام به، كما أنه لا ينافي البعد الذاتي لشخصية النبي(ص)، عمدة ما كان أن التبليغ لهذا الأمر سوف يلقى رفضاً قاطعاً من واقع الأمة، وهذا يستدعي فساد تبليغ الرسالة المحمدية، إذ أن المجتمع الإسلامي لن يقبل بذلك، ظناً منه أنها قضية شخصية قد حابى فيها رسول الله(ص) ابن عمه وصهره، وبالتالي كان النبي(ص) يتخوف التبليغ من هذه الناحية، وواضح أن هذا ليس خوفاً على مهجته الشريفة، وإنما هو خوف على الأمة وعلى مصيرها.

ويشهد لهذا ما رواه أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة من أنها نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يوم غدير خم.

مقالات في معنى الآية الشريفة:

هذا وهناك عدة محاولات لبيان الآية الشريفة بما لا يجعلها نازلة في حق أمير المؤمنين(ع)، بل يكون الموضوع الوارد فيها أمراً آخر غير قضية التبليغ بنصب علي بن أبي طالب خليفة وقائداً للأمة الإسلامية بعد رسول الله(ص).

الآية نازلة في بداية البعثة:

فمن تلك التفسيرات، ما ذكر من أن الآية الشريفة نازلة في أول بدء البعثة، كما هو مذهب بعض المفسرين.

وقد يؤيد هذا المعنى بكون لسانها ينسجم مع ألسنة جملة من الآيات الشريفة التي نزلت في بداية البعثة، مثل قوله تعالى:- ( اقرأ باسم ربك الذي خلق) إذ نلحظ الشدة في الخطاب من خلال الأمر بالقراءة، وهنا نلحظ في الآية محل البحث أيضاً الشدة في الخطاب من خلال الأمر بالتبليغ، فاللسان واحد بحسب الظاهر.

وكذا لاحظ قوله تعالى:- ( يا أيها المدثر)، وكذا قوله تعالى:- ( يا أيها المزمل)، فإن هذين الأمرين يشيران إلى شدة وأهمية الأمر الموجه للمخاطب، وأن هناك نحو اهتمام وعناية به تلزمه بالقيام بعملية تبليغه للآخرين، وهو عين ما يشير له الخطاب والأمر الوارد في الآية الشريفة.

ومن الواضح أن هذا التفسير المذكور لا يقبل، وذلك لأنه قد تقدمت الإشارة منا إلى أن هناك اتفاقاً بين المفسرين على أن الآية الشريفة قد نزلت في حجة الوداع، وهذا يمنع من كونها نازلة في أول بدء البعثة النبوية.

مضافاً إلى أن المستفاد من الآية الشريفة أن هناك أمراً على النبي(ص) القيام بتبليغه، سواء كان جزءاً من الدين أم كان الدين كله، وقد كان (ص) يخاف من الناس في تبليغه إياهم فيؤخره إلى حينٍ مناسب، وهذا ما أوجب التهديد.

ولا يخفى أن مخافته(ص) لم تكن على نفسه الشريفة، إذ هو أجل من أن يتوقف في تفدية نفسه في سبيل الله عز وجل، أو يبخل بها، ويشهد لذلك ما جاء في سيرته في غير مورد من الموارد التي ذكرها أرباب السير والتاريخ.

إذاً هناك داعٍ للخوف من التبليغ وهو اتهامه من قبل الناس بما يكون موجباً لفساد دعوته.

نعم المقدار الذي نقبله من هذا الوجه هو أن هناك خطاباً شديد اللهجة قد وجه للنبي(ص)، وهو ما يشير إلى أهمية الأمر المأمور بتبليغه بحيث أنه قد عدّ عدم القيام بتبليغه بمثابة عدم تبليغ الدعوة كلها.

هذا والظاهر أن القرائن الموجودة مساعدة على أن الأمر المراد تبليغه ليس هو مجموع الدين، أو أصله، لأنه لو كان المراد منه هو تبليغ أصل الدين، لكان المعنى حينئذٍ: يا أيها الرسول بلغ أصل الدين، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، التي هي أصل الدين، ومن الواضح أن هذا معنى ركيك جداً لا يتصور في القرآن الكريم، وهو الذي تحدى البلغاء والفصحاء في بلاغته وفصاحته.

مضافاً إلى أن المستفاد من ظاهر الآية الشريفة أن هناك تبليغاً مسبقاً قد حدث من رسول الله(ص)، لكن المطلوب منه الآن تبليغ آخر، فإن لم يقدم على القيام بهذا التبليغ لهذا الأمر الآخر، فإن تبليغه السابق سوف يكون كعدمه، وهذا لا ينسجم مع كون المراد هو تبليغ أصل الدين، بل ولا مجموعه كما هو بيّن واضح.

ومن الواضح أن هذا الإشكال، أعني إشكال اللغوية، لا ينحصر وروده بناءاً على القول بكون الآية نازلة في أول البعثة وبدئها، بل يرد على كل من قال أن الأمر المراد تبليغه في الآية الشريفة هو مجموع الدين، أو أصله.

الأمر المراد تبليغه هو بعض الدين:

فإذن يتحصل أن الأمر المراد تبليغه من النبي(ص) بهذه اللهجة الخطابية الشديدة التي لم توجه له(ص) في جميع آيات القرآن الكريم، إذ يجد المتابع للآيات الشريفة أنه لم يتم الخطاب معه(ص) بيا أيها الرسول إلا في موردين، هو بعض الدين، فيكون المراد من الآية الشريفة: بلغ هذا الحكم، وإن لم تفعل، فما قمت بتبليغ رسالة الله سبحانه، لا في أصلها، ولا في مجموعها.

وواضح أن هذا المعنى صحيح في نفسه، مقبول عند أهل اللغة والبلاغة، ولا يأتي عليه محذور اللغوية الذي سبق ذكره على المعنى السابق.

سؤال وجواب:

هذا وقد نُسأل: بأنه سلمنا أن الأمر المراد تبليغه من قبل النبي(ص)، هو بعض الدين، وليس أصله أو مجموعه، لكن ما هو الرابط بين كون عدم تبليغه يعادل عدم تبليغ الرسالة، إذ مقتضى ما ذكرتم من أن الأمر المراد تبليغه هو بعض الدين، فليكن حاله حال غيره من أحكام الدين التي لو لم تبلغ فإنه لن يستلزم الأمر عدم تبليغ الدين، بل سوف يكون عدم تبليغ لبعض الدين، وليس مجموعه أو أصله.

وعند الجواب عن هذا الأمر، نود أن نشير بداية إلى أن الأحكام الإلهية التي يطلب من نبيه(ص) القيام بعملية تبليغها ليست في مرتبة واحدة، إذ هي متفاوتة، تختلف من حكم لآخر، فبعض الأحكام لها أهمية أكبر من أحكام أُخر، وهذا ما لا ينبغي الغفلة عنه.

ومن الواضح أنه بناءاً على هذا التفاوت، لن تكون العصمة في تبليغ كل حكم حكم، بل سوف تكون العصمة في تبليغ بعض الأحكام وليس كلها.

بعد هذا نقول، إن مقتضى عدّ عدم تبليغ الحكم المراد تبليغه في هذه الآية، يشير إلى أهميته، وأن موقعه من الأحكام بمثابة أن ترك بيانه بمثابة عدم بيان لبقية الأحكام، وذلك لكون هذا الحكم به تمام الدين، فالأمر الصادر للنبي(ص) بيانه هو الحكم الذي يكون بيانه بمثابة البيان التام للدين حينئذٍ.

وبعبارة ثانية، إن الأحكام الصادرة من النبي(ص) بحاجة إلى من يقوم ببيانها وإيضاحها للناس، فلابد من وجود من يتولى القيام بهذه المسؤولية، والمراد من النبي(ص) في المقام هو القيام بإبلاغ الأمة أنه قد عين من قبل الله تعالى من يتولى القيام بهذه المهمة، وأنه الخليفة المنصوب من قبله سبحانه، وإن لم يتم إبلاغ هذا الأمر فهذا يعني أنه لم يتم إبلاغ الأحكام الدينية، لأنها تفتقر إلى من يقوم برعايتها ومواصلة المسيرة التي بدأها النبي(ص).

والله يعصمك من الناس:

هذا ولقائل أن يقول، أنه لو كان المستفاد من الاية ما أشرتم إليه من أن الأمر الصادر يشير إلى تبليغ الأمة بتعيـين من يقوم برعاية الدعوة المحمدية بعد رحلة رسول الله(ص) عن عالم الدنيا، وأنه سوف يتولى هداية الأمة، فلا معنى لأن يقول الباري سبحانه وتعالى:- (والله يعصمك من الناس) إذ ظاهرها الرفض للأمر المبلغ، وهو لا ينسجم مع كون الأمر المبلغ ينطوي على ما فيه صلاح الأمة ونفعها وخيرها؟…

ولا يخفى أن هذا التساؤل في غير محله، ضرورة أن الدارس للتاريخ الإسلامي، وبالتحديد للفترة الزمنية التي عاشها النبي(ص) مع المسلمين الأول، يجد أنهم كانوا على طوائف، فمنهم المؤلفة قلوبهم، ومنهم المنافقون، ومنهم الذين في قلوبهم مرض، ومنهم المؤمنون حقاً وصدقاً، ولا ريب أن وجود هذه النوعية من الفئات توجب خوف النبي(ص) من تبليغ الأمر متى كان الأمر المبلغ ينطوي على مزية وانتفاع للنبي(ص) ظاهراً بنظر بعض هؤلاء، وبالتالي يخشى رسول الله(ص) منهم على الدين، والرسالة، لأنهم سوف يعتقدون أن ما أقدم عليه رسول الله(ص) ليس من قبل الله سبحانه وتعالى، بل هو من عند نفسه، لأن الأمر المراد منه(ص) القيام بتبليغه يختص بابن عمه أمير المؤمنين(ع)، في أنه قد نصبه الله سبحانه وتعالى خليفة على الأمة، ولما كان بعض هؤلاء يظن برسول الله(ص) ظن السوء، أخذاً بأن هذا الأمر فيه شوب منفعة للنبي(ص)، فمن هنا خاف رسول الله(ص)، لكن لا على مهجته الشريفة، إذ قد عرفت مما تقدم أن المعروف خلاف ذلك، بل كان خوفه على الرسالة، والإسلام.

ويشهد لما ذكرنا ما جرى بعد ذلك كما نص عليه أرباب التاريخ، حيث يحدث المؤرخون والمفسرون وأرباب الحديث، أنه لما أعلن رسول الله(ص) تنصيب أمير المؤمنين(ع) يوم غدير خم خليفة من الله سبحانه على الخلق بعد نبيه، وقال في حقه: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، لم يمض شيء من الزمن حتى انتشر ذلك في البلاد، فقدم إليه النعمان بن الحارث الفهري، وقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله.

فقال(ص): والله، الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله، فولى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، وأنزل الله تعالى:- (سأل سائل بعذاب واقع).

فهذا وأمثاله، كانوا يعتقدون أن هناك منفعة للنبي(ص) في نصب أمير المؤمنين(ع)، وأنه إنما نصبه من عند نفسه محاباة له، ورغبة في تقريبه لما بينهما من صلة القرابة، وهذا المعنى ما كان يخشاه رسول الله(ص).

ومن الواضح أن هذا يجرنا إلى الحديث عن واقع الأمة الإسلامية، ويشرح لنا صورة المجتمع الإسلامي في ذلك، وينفعنا كثيراً للإجابة على تساؤل ربما يورد وهو أنه كيف أهمل الصحابة العمل بحديث الغدير وبهذه الآية ما دامت قد نصت على نصب أمير المؤمنين(ع) من قبل الله سبحانه على لسان رسوله، فإن القضية التي أشرنا إليها، والفعل الصادر من النعمان بن الحارث يعطي صورة واضحة لما كان واقع المجتمع في تلك الفترة.

كما أنه يوضح معنى العصمة المذكورة في الآية، وأن داعيها هو الصورة غير الإيجابية للمجتمع الإسلامي في تلك الفترة، وأنه ما كان كله مؤمناً بالنبي(ص) إيمانناً حقاً، ومتكاملاً بل إنه على فئات كما سبق وذكرنا.

القوم الكافرين:

ثم إنه لو قيل: إن جميع ما ذكر لا ينسجم وذيل الآية الشريفة، ضرورة أن التعبير فيها بقوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين) يشير إلى أن الحديث كله منصب عن الكفار، وأنه ما داموا على كفرهم وطغيانهم فإنهم لن يوفقوا لطريق الهداية والصلاح، لأن الطغيان والكفر يمنعان صاحبهما من الوصول لطريق الهداية والصلاح، وبناءاً على هذا لن تنسجم الآية مع وجود هذا الذيل مع ما ذكر.

وجوابه واضح، إذ أن في الآية قرينة واضحة أن المقصود من الكفر هنا ليس بمعنى عدم الإيمان بالرسالة المحمدية، والكفر بالله سبحانه، أو الشرك به، وتلك القرينة هي تبليغه(ص) للرسالة، وأن الأمر المراد تبليغه كما عرفت ليس أصل الدين، فإن هذه القرينة تمنع من الحمل للكافرين في الآية على كفار قريش وأمثالهم.

ووفقاً لهذا سوف يكون المراد من الكفر، الكفر بآية من آيات الله سبحانه، وهذا يعني أن الكفر هنا ليس بمعناه الاصطلاحي، بل بحسب معناه اللغوي، لأن اللغويـين يذكرون أن الكفر بمعنى الإنكار والمخالفة والترك، وقد استعمله القرآن الكريم بهذا المعنى كما في آية الحج، في قوله تعالى:- (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)، وهذا يعني أن كل من أنكر نصب الله سبحانه على لسان نبيه أمير المؤمنين(ع) يكون كافراً.

وهذا ينسجم كثيراً مع معرفة المقصود من عدم هدايته تعالى للكافرين المعنيـين في الآية، إذ لا يخفى أنه لا يقصد من عدم هدايتهم، يعني عدم الهداية للإيمان، فإنه غير مقبول لأنه يتنافى وتبليغ الدعوة، وإنما يقصد من عدم الهداية عدم تخليتهم وما يشاءون فعله من الشرور والفساد، وذلك بمنعهم من الأسباب الجارية أن تنقاد لهم في سلوكهم، فيحيل الله بينهم وبين ما يشاءون فعله من إطفاء كلمة الحق ونور الحكم.

ثم إن هذا الذي ذكرناه بياناً لمعنى الكافرين وعدم هدايتهم يتضح جلياً من خلال ما تقدم في قوله تعالى:- (والله يعصمك من الناس)، ذلك لأن بين الفقرتين تمام الارتباط والعلاقة، وكأن كل واحدة منهما تفسر الأخرى، لأن الناس الذين سوف يعصمه الله سبحانه وتعالى منهم، هم الكافرون الذين سيحرمون من الهداية، وقد عرفنا أن الناس المعصوم رسول الله(ص) منهم، ليسوا بكفار بمعنى الكفر الاصطلاحي، فتدبر.

ومن خلال جميع ما تقدم يتضح أن الآية الشريفة بصدد الحديث عن نصب الله سبحانه على لسان نبيه(ص) خليفة يقوم مقام رسول الله(ص) ويؤدي الدور الذي كان يقوم به رسول الله(ص) طيلة حياته، وأنه سيتولى إدارة شؤون الدولة الإسلامية التي أقامها رسول الله(ص)، والآية الشريفة وإن لم تنص على اسم ذلك الشخص المنصوب من قبله(ص)، لكنه من خلال سبب نزولها والذي يعدّ قرينة عقلائية على تعيـين المراد، ولما تواتر نقله على ألسنة أصحاب الحديث، والمفسرين، يمكن التعرف عليه، وأنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع). خصوصاً وأنه لم يحدثنا التاريخ عن نصب أحد على لسان رسول الله(ص) إلا خصوص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)[4].

——————————————————————————–

[1] سورة المائدة الآية رقم 67.

[2] التفسير الكبير للرازي ج 6 ص 52-53.

[3] بل وفقاً لما جاء في القرآن الكريم من أن القرآن كله نزل على رسول الله(ص) في شهر رمضان في ليلة القدر، فالظاهر أنه نزل عليه بالصورة التي هو عليها اليوم متداولاً بين أيدي المسلمين، والله العالم.

[4] من مصادر البحث: الميزان في تفسير القرآن ج 6 ص 42، الأمثل ج4 ص 77، التفسير الكبير للفخر الرازي.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة