قال أمير المؤمنين(ع):غالبوا أنفسكم على ترك العادات،وجاهدوا أهواءكم تملكوها[1].
لا يخفى على أي أحد يعيش في الأوساط الاجتماعية،ما للعادات من دور في حياة الناس،بغض النظر عن كون ذلك الدور إيجابياً،أو سلبياً.
كما لا يخفى على أحد أن للجوانب الإيجابية أو السلبية للعادات دوراً أساسياً في تقدم الإنسان وتكامله،أو انحرافه وانحطاطه،وبالسير والدراسة في التواريخ بإمكاننا أن نقف على حقيقة ما في العادات من عوامل مهمة ومؤثرة في تعيـين مصائر الأمم والمجتمعات البشرية.
إن قوة المقاومة المعنوية أمام الحوادث المؤلمة والمشاكل والمصاعب،وإن الحصانة الطبيعية أمام الجوانب السلبية للحوادث وإحباط آثارها،كل ذلك من نتائج الجوانب الإيجابية للعادات النفسانية.
الأضرار الحاصلة من العادات:
لكن ما أوسع الأضرار الناجمة عن الجوانب السلبية للعادات،وكم لها من خسائر لا تجبر،فكما أن العادة تمثل دوراً مهماً في تذليل المصائب المؤلمة ليمكن تحملها،وفي إحباط جوانبها السلبية،فهي أيضاً تعد عاملاً قوياً في إحباط الآثار الإيجابية والمفيدة للحقائق والواقعيات بالنسبة إلى النفس الإنسانية.
إن العادة تمنع من إدراك القيمة الواقعية للأشياء،وكثير من الأصول والسنن المادية والمعنوية،وكثير من النقاط المفيدة والإرشادية.
إن العادات لا تدع الإنسان يـبصر الواقع ببصيرته ويحس بأهميتها.
هذا ولا نحتاج في بيان هذا الموضوع إلى ذكر أمور علمية دقيقة وعميقة،إن كثيراً من أهم وأظهر المظاهر الغريـبة في نظام الخلقة،بقيت غير معروفة للبشر عدة قرون طويلة،لا لشيء سوى اعتياد الرأي العام بمظاهر تلك القوانين الطبيعية.
وكثيراً ما يتفق في المقابل أن ظفر الإنسان بمقاليد نجاحات كبرى وانفتحت له طرق التقدم والرقي بفضل تفكر ساعة و حتى التفاته على خلاف الجري العادي.
العلماء والعادات:
هناك كثيراً من العلماء يصبحون إسراء عاداتهم بحيث لا يقدرون على العمل بعلومهم وبصائرهم وعلى تنفيذها في أعمالهم وأفعالهم في صعيد الحياة،أو أن يعملوا بها في سبيل إصلاح أوضاع الآخرين،أو أن يمنعوا أو يمتنعوا عن العمل بأمور يعلمون بمفاسدها وأضرارها مئة بالمئة،ومع ما لهم من قوة مقاومة كافية.
إن هذا الضلال والغفلة إنما ينجم عن العادات النفسانية التي تؤدي إلى المقاومة السلبية أمام العقل والعلم،وتقف بصاحبها في مسيرة الكمال في الحياة الزوجية.
كم هناك من الأطباء الأخصائيـين من توصل في اختصاصه إلى تقدم كبير بينما أصبح علمه بالنسبة إليه من حيث الأثر الروحي صفراً أي بلا أثر،فلا ضمان لتنفيذ علمه في مقام تعديل سلوكه.
الإسلام والعلم:
وعندما ننظر إلى الإسلام وكيفية نظره إلى العلم،نرى أن الإسلام لا يحصر كل ميزة في العلم،وإنما يجعل العلم سبيلاً إلى المعرفة بالخالق،ثم وسيلة لنيل الكمال والرقي المعنوي،فإن هذه الفضيلة العلمية من دون الوصول إلى رتبة المعرفة بالخالق وطي مراحل الكمال،لا يمكنها أن تكون فاعلة مؤثرة في صعيد الكمال الروحي،ولذلك نرى القرآن الكريم ينـتقد العلماء غير العاملين بعلمهم قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)[2].
إن تأكيد الإسلام على التعقل والتفكر في كل موطن وموقف،لمـما يـبين أهمية التفكير في الوقاية من احتمال الابتلاء بالعادات السلبية،وكذلك في تصعيد قوة المقاومة أمام العادات الذميمة ومكافحة آثارها السيئة.
إن التفكير في مقابلة أية عادة لهو جهاد،مثمر وفعال،يوسع دائرة بصيرة الإنسان،وعامل مهم في تقوية الإرادة.
وبما أن كثيراً من أنواع الانحرافات في مختلف الأصعدة،إنما هي نتائج عدم التفكير المنطقي والصحيح،وإن كثيراً ممن تركوا طريق الهداية والرشاد إلى سبل الضلال إنما هو لمسامحتهم في التفكير وعدم دقتهم في ذلك،لذلك بإمكاننا أن ندرك جيداً لماذا قرر الإسلام أن يعلن بأن(تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)كما ورد عن المعصومين(ع).
إن هذا الأسلوب من الفكر هو العامل الأساس في تحطيم أساس الغفلة والجهالة،ورفع ما هنالك من حجب بين الحق والحقيقة والروح الإنسانية،وهو مما يرسخ الإيمان ويجذره في أعماق قلب الإنسان،وهكذا لا يبقى مجال لورود البدع والسنن الخاطئة إلى باطن كيان الإنسان.
حينما يصل الإنسان على أثر التعقل والتفكير إلى معنى حقيقة مسلمة،فالإرادة التي تتكون له كنـتيجة لتفكيره الصحيح لا الخيالات الواهية،تستطيع أن تجعل كل أعماله وفعاله تحت مراقبة تامة.
إن العلم غير الفعال،يمكنه عن طريق التفكير أن يتبدل إلى علم فعال،ويجد حياته كمعاني ومفاهيم مؤثرة،تكون مصدر آثار وافرة كثيرة مفيدة.
إن الصفات الذميمة،أو المزايا الأخلاقية السامية،إذا تجدرت في باطن كيان الإنسان عن طريق الممارسة والتدريب،تصبح كالخصائص الطبيعية والذاتية النافذة،فمع أنها عادات مكتسبة مع ذلك إذا أصبحت كالخلاق والسجايا الثابتة،وجرت في مجاري الإنسان كغرائزه الطبيعية أخذت تحرك وتدفع الفعاليات الباطنية،واجتذبت صاحبها إلى طريقها بكل شدة واقتدار.
النظام التربوي في الإسلام:
مع أن العادة في فطرة الإنسان موهبة إلهية تنفذ شطراً مهماً من مساعيه في الإبداع والاختراع،ومع كل ما لها من عظمة في الآثار،فإنها إن لم يتصف صاحبها بثقافة كافية بل كاملة،فمن الممكن أن تصبح اندفاعاً خداعاً مضللاً يؤدي برح الإنسان إلى الفساد.
حينما طلع الإسلام في الحياة الجاهلية،كانت تحكمها أنواع من العادات الضارة،مما كان يعد كل واحدة منها لوحدها سبباً لضياع أمة وسقوطها.
في ذلك العصر المظلم حيث كان إدراك الإنسان وشعوره قد مسخ تحت وطأة العادات الباطلة والأخلاق القبيحة والنجسة،أيقظ الإسلام بنهضته الكبرى والتي لم يسبق لها مثيل،ذلك المجتمع الغافل بل النائم،ودعا الناس إلى ترك تلك العادات والمراسم الخاطئة والبدع المخالفة للعقل والوجدان.
وترك ذلك المجتمع الذي كان يسبح في أنواع الموهومات والسنن الجاهلية كل تلك المراسم والعادات والتقاليد البالية التي دأب عليها آباؤه وأجداده،واتخذ طريقة جديدة تخلو من ظل تلك السنن الباطلة،وتحفل بكل ما فيه سعادته،وذلك على أثر تلقيه لتعاليم رسول الله(ص)الذي كان قد تربى بعيداً عن استيلاء أي نوع من أنواع العادات الإكتسابية،حراً من قيود تلك السنن الباطلة التي لا ساس لها.
دور الرسول(ص)في نقض العادات الفاسدة:
وكان أسلوب قائد الإسلام العظيم في إنقاذه ذلك المجتمع من أسر المراسم والسنن الباطلة،والذي كانت قد مسخت حواسه الظاهرة والباطنة وذلك باعتياده بتلك العادات الباطلة،بحيث كانت قد انسدت في وجوههم طرق الكمال.
لقد كان أسلوبه بعبارة واضحة:أن رفع عن أعينهم تلك الحجب والموانع التي كانت تمنع اندفاع نفوسهم،واجتذب التفاتهم إلى ما في المحسوسات والمشاهدات من دلائل،وبهزة عنيفة لأفكارهم وعقولهم أعاد ارتباط ما انفرط من حلقات أفكارهم بمساعدة بعض البراهين والدلائل المتقنة،وبهذه الطريقة أرشدهم إلى إدراك الواقع وكشف الحقائق والمسلمات العقلية.
وكان خيراً أن أزال عن عقولهم ما كان قد علق بها من تلويث الخرافات والأوهام،وأنقذ البشرية من تلك الجهالة والضلالة الشاملة،بتلك النهضة التاريخية الكبرى.
لم يكن هناك في ذلك العصر المظلم أي عامل أمام تلك البدع الضارة،يقوم بقطع سلسلة الأوهام السائدة،ويمكّن الإنسان من أن يقوم بدراسة خلفيات تلك السنن الرائجة،ويربط بين بصيرة الإنسان وعقله وواقعيات الحياة.
أما الإسلام فإنه وقبل أن يـبدأ ببناء مجتمع سعيد،اتخذ تكتيكاً خاصاً،فقد بدأ بالعادات سواء ما كان يرتبط منها بأساس الفكر والعقائد،أم التي كانت تتعلق بالأعمال والسلوك،فذوبها وفناها،وقطع جذورها بنسبة ما كانت تحمل من مخاطر وأضرار،فبدأ ببعضها بضربة قاضية كالشرك بالله وما يتعلق به من آثار.
أما بالنسبة إلى العادات الاجتماعية الذميمة التي كانت ترتبط بأوضاعهم المعيشية والمالية والاقتصادية،كالرق والربا وشرب الخمر،مع ما لها من سلطة على أفكارهم وإدراكاتهم،أما بالنسبة إلى هذه فقد اتخذ طريقة المداراة والتدرج،وأقدم على تفنيدها حسب المراحل،مرحلة فمرحلة.
وهكذا ملك الناس أنفسهم وحصلت الأرضية الكافية لتزكيتها والتسامي بها بصورة كاملة،وهذه أثمر الطرق والأساليب لبناء مجتمع جديد بأفراده.
الإستفادة من العادات:
إن الإسلام يفيد من العادة كوسيلة مؤثرة في تربية نفوس البشر وتنفيذ البرامج التي تحفل بسعادة الإنسان،فهو حينما يوجد علاقة حية بين قلوب الناس مع ربهم ويـبذر فيهم بذور الخير والفضيلة،أبدلها فيهم إلى عادة جارية،والعادات الدينية تنبع من عمق العلاقة القلبية ومن باطن الضمير،ثم تـتبدل هذه الإرادة القلبية إلى أعمال معينة لها حدودها وخصوصياتها الواضحة،ثم تـتحول تدريجياً إلى عادات عن كامل الإدراك والوعي والدقة،وهي مع ذلك لا تحمل على الإنسان ضغطاً لا يطاق.
الطفولة والعادات:
تعد الوصايا الإسلامية بصدد تعويد الأطفال على العبادات والفضائل الإنسانية،وإبعادهم عن التلوث بالذنوب والمعاصي،عاملاً قوياً في تـثبيت أساس الإيمان والطهارة ودعمهما في كيان نفوسهم.
وإن تطبيق هذا البرنامج التربوي الخاص سيحبط فيما بعد إلى حدٍ بعيد تلك الآثار الضارة الناجمة عن مفاسد المحيط والبيئة في نفوس الأطفال.
قال النبي الأكرم محمد(ص):مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً.
فنلاحظ في هذا الحديث النبوي الشريف الإشارة التي يشير الحبيب محمد(ص)من خلال حثه المسلمين على القيام بعملية تعويد الطفل منذ سن السابعة على الالتزام بأداء الصلاة والمحافظة عليها،وما ذلك إلا لكون هذا العمل يترك مردوداً إيجابياً على الطفل،ويجعله مرتبطاً بهذا العمل بكافة جوانحه وجوارحه.
ونجد الإمام زين العابدين(ع)في كلمة أخرى ينصح أبنائه:اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل،فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير.
ومن الواضح أن هذا النوع من التوجيه يترك أثره على الطفل بحيث يعتاد من البداية على أن لا يتعامل بهذا الأسلوب،لما فيه من الحزازة والأذى عليه،بل يحاول أن يزرع فيه بدلاً منه الصدق في القول والعلم.
خاتمة:
وبالجملة إن اكتساب أية عادة سيئة سيكون سداً دون اكتساب العادات الحسنة في أوان الطفولة،ولهذا فإن تكّون العادات في أوان الطفولة يعد أمراً مهماً جداً.
مضافاً إلى أن العادات المكتسبة في أوائل العمر سوف تكون في الأدوار اللاحقة من الحياة كالغرائز تماماً في أثرها واستيلائها.
أما العادات المضادة لها التي قد نكتسبها فيما بعد لا يمكن أن تصل إلى تلك الدرجة من الأثر والاستيلاء على صاحبها،وهكذا بهذا التوضيح يجب أن نجعل موضوع العادات الأولى مورد العناية الكاملة.
————————————————–
[1] غرر الحكم 508.
[2] سورة الصف الآية رقم 2-3.